Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بعد ثمانية وعشرين يوما" لبويل وسينما ما بعد الكارثة

بدايات علمية إنسانية لنهايات عن الموتى الأحياء

من مشاهد الفيلم (مواقع التواصل)

يتأرجح السينمائي الإنجليزي داني بويل عادةً بين أنواع سينمائية عدة، هو الذي اعتبره هواة السينما التجريبية النخبوية مؤلِفاً سينمائياً حقيقياً مع أحد أول أفلامه بعنوان "تنقيط القطارات" (1996) قبل أن تمضي دزينة من السنوات ليستقبله هواة السينما الأكثر شعبية، على الطريقة الهندية، محققين نجاحاً هائلاً لفيلمه "مليونير الأحياء البائسة" (2008) المبني بشكل شعبوي على البرنامج التلفزيوني الشهير "مَن يريد أن يربح المليون"... ليراه لاحقاً هواة الأفلام الواقعية مخرجاً لفيلم "ستيف جوبز" (2015) الذي يروي حياة مؤسس شركة "آبل".

ومن هنا لن يكون غريباً أن ننتظر الآن فيلمه المقبل "ميتوشالح"، الذي قد تكون فيه عودة إلى أزمان ما قبل التاريخ. ولعل هذا التنويع هو ما أفقد سينما بويل التركيز وجعل أفلامه تمر حتى في نجاحاتها من دون أن تترك مجالاً لدراسة جادة وممنهجة لعمله السينمائي. بل يمكن أن نضيف أن هذا الواقع يسلبه أحياناً أسبقية وتميزاً ما، يترك لمنافس له، فرصة الظهور على حسابه في موضوع من الموضوعات. وإذ نقول هذا، نفكر طبعاً بفيلمه الخامس الذي حققه في عام 2002 بعنوان "بعد 28 يوماً". لماذا؟ بالتحديد لمقارنته بفيلم "عدوى" للأميركي ستيفن سودربرغ الذي حُقّق بعده بما يقارب عقداً من الزمن.


الحياة تقلّد الفن... مرة أخرى

وتفرض المقارنة نفسها علينا هنا انطلاقا من شهرة "عدوى" ونجاحه التجاري الضخم لدى عرضه (أكثر من 135 مليون دولار)، ما جعله يعود إلى الواجهة ما إن حلّ وباء كورونا ليُقال إنه الفيلم الذي "تنبّأ" بالوباء. هذا صحيح إلى حدّ ما ويمكن أن يُحسب لصالح مصداقية الفن وكون "الحياة تقلّد الفن" في أحيان كثيرة. لكن الواقع يقول لنا إن فيلم "عدوى" لم يكن متفرداً في ذلك "الاستباق" للأمور. ونعتقد أن هناك عشرات الأفلام الجادة وأضعاف ذلك من "الأفلام التخريفية" التي تحدثت طوال عقود عن ذات الموضوع. وفي هذا السياق تحديداً يحضرنا فيلم "بعد 28 يوماً" الذي استُكمل لاحقاً بأكثر من مشروع مشابه. وهو يحضرنا انطلاقاً من أنه كان حين عُرض، ولو في قسمه الأول في الأقلّ، واحداً من الأفلام الأكثر جدية وعلمية بل حتى موضوعية في طرحه للموضوع الذي تتشارك فيه كل تلك الأفلام مع "عدوى".

يتحدث فيلم بويل إذاً في افتتاحه عن ثلاثة من أعضاء جماعات الرفق بالحيوان يتوجهون يوماً الى أحد المختبرات عازمين على إطلاق ثلاثة قرود علموا أن اختبارات تُجرى عليها تتعلق بفيروس يُصار إلى تجربته. ويبدو الثلاثة مصممين على تنفيذ مهمتهم على الرغم من تحذير أحد العلماء لهم بشأن خطورة الفيروس وقدرته على الانتشار بسرعة بين الناس. وفي المختبر، يتمكن الناشطون الثلاثة من تحرير أحد القرود الذي ينقضّ على إنسان ناقلاً إليه الفيروس، قبل أن يتمكنوا من قتل القرد المصاب، بيد أن قتله لن يغيّر من الأمر شيئاً إذ إن الضحية التي نُقل إليها الفيروس تنقضّ بدورها على الموجودين.

محاولات للهروب

بعد ذلك بـ 28 يوماً ننتقل الى أحد المستشفيات حيث يطالعنا المدعو جيمس الذي كان غارقاً في غيبوبة إثر حادثة لا علاقة لها طبعاً بما حدث. وإذ يخرج جيمس من المستشفى يصدمه منظر المدينة: شوارع خالية من المارة، مناخ غامض، محلات مقفلة ولا أثر للسيارات في الشوارع. يدهشه هذا كله ويدفعه إلى الدخول إلى أول كنيسة تصادفه فيرعبه على الفور منظر جثث مكومة فوق بعضها البعض. وهنا سيزيد من رعبه، التقاؤه بمجموعة من الأشخاص تميزهم نظرات حمراء، ما إن يرونه حتى يبدؤوا بمطاردته من دون أن يفهم شيئاً عما يحدث له أو من حوله. كل ما في الأمر أن مطارديه غاضبون جداً وتلوح علامات الشر على وجوههم. أما ما ينقذه من تلك المطاردة فرجل وامرأة يمسكان به ويقودانه إلى ملجئهما الآمن، حيث يقدمان نفسيهما إليه، وهما مارك وسيلينا، الناجيان مع قلة آخرين من أهل المدينة بعد كارثة تسبب بها فيروس سريع الانتشار يحوّل المصابين به إلى غاضبين وقتلة. وعمّ الفيروس كما أُخبر جيمس، البلاد كلها متسبباً في مقتلات جماعية وهجرات بالملايين. مع بقاء قلة من ناجين يسعون إلى الاختباء من مكان إلى آخر، ولكن ليس فقط هرباً من المصابين بل كذلك وبخاصة، هرباً من السلطات التي حجرت على الجزيرة كلها – ففي نهاية الأمر يجري هذا كله في الجزيرة البريطانية- مانعةً الناجين القلائل من التجوال أو الظهور لأن كل كائن حيّ هنا بات معرّضاً إما إلى أن يصاب بالفيروس فيضحى قاتلاً وإما أن يكتشف المصابون "الغاضبون" وجوده فيُردى قتيلاً وربما كي يؤكَل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


في بلاد عمّها الخراب والكارثة

هنا أمام هذه المعلومات، يقرر جيمس أن عليهم أن يتحركوا فيفعلون، ليكون بيت والديّ جيمس مقصدهم الأول، لكن جيمس يكتشف أن والديه انتحرا خوفاً من العدوى. وإذ يقرر الثلاثة البقاء خلال الليل هنا للتحرك غداً ومواصلة مسعاهم للنجاة، يهاجم "الغاضبون" البيت ويصيبون مارك بجرح في يده ما يدفع سيلينا إلى قتله إذ تتيقن أنه أصيب. وإذ تتمكن سيلينا وجيمس من مبارحة البيت يلتقيان سائق سيارة تاكسي يحاول الهرب مع ابنته (هانا) فينضمان إليه ويتمكن الأربعة من الهروب معاً قاصدين هذه المرة مدينة مانشستر إذ فهما أن فيها قاعدة عسكرية يمكن اللجوء إليها. وهكذا يبدؤون رحلة عبر البلاد المرتعبة الخاوية والتي تلوح سمات الكارثة على كل زاوية من زواياها. لكنهم يتمكنون على الرغم من كل الصعوبات من الوصول إلى مشارف المدينة ليكتشفوا حريقاً هائلاً قد بدأ يبتلعها. وفي تلك الإثناء يصاب فرانك، سائق السيارة، بشكل يكشف العدوى التي وصلت إليه. لكنه قبل أن يتحول إلى "غاضب" تظهر مجموعة من جنود تقضي عليه وتأخذ الثلاثة الباقين إلى قصر مستخدَم كقاعدة عسكرية. وهناك في القصر، وقبل أن تبدأ سلسلة جديدة من المغامرات والمتاعب التي لا بد من الاعتراف هنا أنها تحرّف الفيلم عن مساره الأول وتنسي المتفرجين جوهر الموضوع، يفهم الناجون الثلاثة أن هؤلاء الجنود إنما يستعدون لخلق ما يسمونه "إنسانية جديدة" يتحكمون هم بها وبدوا واثقين من أن "المستقبل سيكون ملكهم" نظراً إلى أن "الغاضبين"، إذ فقدوا القدرة على التفكير من جراء ما أصابهم، سيبيدهم الجوع عما قريب "طالما سيتنبّه غير المصابين من البشر، إلى حقيقة أن غذاء الغاضبين الوحيد هو البشر الآخرون"، وحينها لن يعود في وسعهم أن يبتكروا أغذية جديدة لهم من نتاج الأرض أو ما شابه ذلك. من هنا، وفي انتظار موت "الغاضبين" جميعاً، كما يقول قائد الجنود، يمكن البقاء هنا والانتظار...

بين وحشية الغاضبين وحيوانية الجنود

انطلاقا من هنا يفهم جيمس أن الجنود لن يتوانوا عن اغتصاب رفيقتيه سيلينا وهانا كمغرى أساسي من مغريات إبقائهم في المكان في انتظار تكوين "الإنسانية الجديدة"، وهنا يصبح هاجسه تخليص المرأتين والفرار وقد وقعوا بين مطرقة "الغاضبين" وسندان الجنود الذين لا يقلّون وحشية عنهم. وهكذا تتواصل سلسلة المغامرات والتقلبات التي جعلت على أي حال عدداً كبيراً من النقاد يعتبرون "بعد ثمانية وعشرين يوماً" واحداً من أفضل الأفلام التي حُققت حول موضوع "الموتى الأحياء" في وقت كان نقاد آخرون أسفوا لاتخاذ الفيلم هذا المنحى بعدما كان عند بدايته واعداً بأن يتعمق في موضوعتيه الأساسيتين اللتين انطلق منهما: التجارب على الحيوانات في المختبرات التي باتت تخلو من أي نزعة إنسانية وعقلانية من ناحية، وكيف يصبح الإنسان نفسه، بفعل التغيرات الفيروسية، وبحسب مقولة الفيلسوف توماس هوبز الشهيرة "وحشاً بالنسبة إلى أخيه الإنسان" من ناحية أخرى.

المزيد من سينما