صحيح أن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت كان يبتسم وهو يتفوه بجملة بسيطة لم يدرك كثير مغزاها في ذلك الحين، تقول، "إننا سنستعيد الأمل بخطة متكاملة وبضعة أفلام"، لكنه لم يكن يمزح. بل قال تلك الجملة وهو يفكّر دون أدنى ريب بسينما يصنعها فرانك كابرا بين آخرين وأسهمت كما يؤكد لنا تاريخ السينما الأميركية في تلك النهضة الاجتماعية واستعادة الأمل بعد الكوارث الاقتصادية التي تسبب فيها انهيار عام 1929 الاقتصادي، الذي أوصل أميركا والعالم كله إلى كارثة اقتصادية لا سابق لها.
دور الفن في مجتمع ما بعد الكارثة
يومها وخلال سنوات بلغ فيها الفقر في العالم والجوع والمرض والتحلل الاجتماعي مستويات مرعبة، كان من أول ما فعله الرئيس الجديد روزفلت أن وضع تلك الخطة التي سميت "نيو ديل"، التي استغرقت سنوات ريثما تعدل الأوضاع ما جعله من أكثر الرؤساء شعبية في تاريخ بلاده. لكنه كان يعرف منذ البداية أن الكلام الاقتصادي لا يكفي وحده، ومن هنا شجّع المبدعين من كتاب وسينمائيين ومسرحيين وغيرهم على النزول إلى ميدان المقاومة ففعلوا وكان لهم تأثير هائل على ذهنيات الناس، لا سيما في المجال السينمائي إذ نعرف الشعبية التي كانت للسينما في ذلك الحين. وكان فرانك كابرا في مقدمة الذين خاضوا معركة الفن لدعم الشعب والاقتصاد بحيث يعترف كثر اليوم بدوره ويرون أن روزفلت إنما كان يلمّح إلى ما قام به هو بالتحديد، في عبارته التي استهللنا بها كلامنا هنا.
لقد وضع كابرا كل طاقته ومواهبه وحرفيته في خدمة بلده في ذلك الحين، مشتغلاً على موضوعات، لعل أهم ما فيها أنها من ناحية، تروّج للديمقراطية الشعبية الحقيقية من خلال حثّ الشعب على التحرك والاستخدام الأمثل لما تتيحه له الديمقراطية، ومن ناحية ثانية تنتج أعمالاً تفسّر مفاهيم المال الثروة بصورة تدعم خطة الرئيس.
بين "عقلانية" المال و"جنون" الإبداع
في هذا السياق يأتي فيلم "لن تأخذها معك"، المأخوذ عن مسرحية لهوفمان وموسّ ترجمت إلى لغات عدة بينها العربية، في مصر تحت عنوان "ما حدّش واخد منها حاجة" وفي لبنان تحت عنوان "عيلة أبو المجد". والفيلم حققه كابرا في عام 1938، يحاول من خلاله أن يضع ما يمكن اعتباره تصوّراً مختلفاً للحلم الأميركي، لا يقوم على المزيد والمزيد من الربح المادي، بل على جعل الربح المعنوي في الحياة نداً لذلك الربح إن لم يكن نقيضاً له ينبغي على المجتمع أن يتقبّله كهدف بديل في الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدور الحبكة، إذا، من خلال الصراع بين عائلتين، إحداهما عائلة "غقلاء" ثرية لا تؤمن إلا بتراكم المال والعمل في سبيله، والثانية عائلة "مجانين" يهتم أفرادها بالثقافة والعلم والتجديد غير آبهين بالثروة. وكان يمكن لكل من العائلتين أن تبقى على حالها لولا صدفة اللقاء بين ابن الأثرياء وبنت "المجانين" واجتماع العائلتين للتعارف بناء على طلب الحبيبين، ما ينتج صورة صحيح أنها مرحة، فالمسرحية كوميدية بعد كل شيء، لكنها تعليمية حقاً، صورة تقول للعقلاء الأثرياء إن الحياة ليست ما يعتقدون وأن المال ليس كل شيء. و"الجنون" يكمن في سلوك دروب إبداع وتجديد في الحياة وانقلاب في الذهنيات بات لا بد منه في عالم يتغير.
كانت تلك هي الرسالة البسيطة التي سعى فيلم كابرا للتعبير عنها وإيصالها لعشرات الملايين الذين كانوا في انتظار من يعطي لحياتهم أملاً يختلف عن ذلك الوعد الكاذب الذي كان يجبَههم به الحلم الأميركي الذي لم يعد ممكن التحقيق.
في خدمة الأيديولوجيا الجديدة
وكانت تلك هي الأيديولوجيا الجديدة التي يحتاج الرئيس روزفلت إلى نشرها، وها هو فيلم كابرا يبادر إلى ذلك، في سياق متن سينمائي سوف يواصل خلال سنوات تالية نشر رسائل من هذا النوع وصولاً إلى تحقيق سلسلة أفلام "لماذا نحارب؟"، التي أتت لتبرر دخول أميركا الحرب ضد النازيين على الضد من أوساط أميركية متطرفة كانت تناصر النازيين ضمناً، وتحاول إقناع الرأي العام بأن المعركة بين "الحمر" والأوروبيين و"لا دخل لنا فيها".
وهنا أيضاً كان واضحاً أن روزفلت بحاجة إلى سينما فرانك كابرا، وإلى هوليوود التي لم تكن معتادة على مثل ذلك التدخل السياسي من قبل، لكن كابرا، المخرج الأميركي ذا الأصل الإيطالي سيكون استثناء لهذه القاعدة، إذ إن أفلامه الرئيسة رُبطت على الدوام من قبل المؤرخين والنقاد، بالتيار الروزفلتي (نسبة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت)، واعتبرت التعبير السينمائي الحي والمنطقي عن ولادة الانسان الأميركي الجديد الذي كانت صفقة روزفلت الجديدة (نيو ديل) قد وعدت بولادته.
بعيداً من السياسة
ومع هذا لم يكن كابرا معروفاً قبل ذلك بمواقفه السياسية، بل إن بداياته كانت أواخر سنوات العشرين، تحوم من حول السينما الهزلية الخالصة (تحقيق أفلام من تمثيل هاري لانغدون)، وكان هو يعتبر نفسه من السذّج في مجال التعبير السياسي. بعد ذلك مع حلول أواسط سنوات الثلاثين، وفي وقت كانت فيه شهرة كابرا قد وصلت إلى الذروة في مجالين على الأقل: مجال الأفلام الهزلية ومجال التعبير المتشدد عن أخلاقية أميركية طهرانية، استخدم من أجله كابرا كل ترسانته الكاثوليكية ومقدرته الفائقة في إدارة الممثلين وإيصالهم إلى أقصى درجات الشفافية في التعبير عن التمسك بالقيم الأخلاقية السائدة، حتى لو ضحّوا في سبيل ذلك برغباتهم وملذاتهم، في ذلك الوقت جاء روزفلت إلى السلطة، حاملاً معه عنصرين أساسيين بدا في ذلك الحين أن أميركا في أمسّ الحاجة إليهما: أولهما الإيمان بأن الولايات المتحدة ستخرج من أزمتها الاقتصادية المستشرية بفضل تضافر جهود أبنائها وانفتاحها على العالم الخارجي، وثانيهما الإيمان بالدور الذي سيلعبه الأميركي المتوسط، الأميركي العادي في ذلك كله. كانت اندفاعة روزفلت هذه أساسية، وكان من الطبيعي أن يتلقفها نوعان من المبدعين في هوليوود.
النوع الأول يمثل الفنانين من ذوي الفكر الليبرالي المنادي بأرجحية الدور البشري وبعنصر التقدم كعنصر فاعل في المجتمع، حتى إن كان أصحاب هذا الفكر لا يرون أن التقدم يتعين أن يكون له محتوى أيديولوجي معين؛ والنوع الثاني يمثله الفنانون من ذوي الاتجاهات اليسارية المختلفة التي كان ما يميزها عن النوع الأول، المحتوى الأيديولوجي الذي تسبغه على التقدم. ما جمع النوعين، عند بدايات عهد روزفلت، كان الإيمان المشترك بحلم أميركي قادر على أن يقوم من سباته العميق ليصنع أميركا الجديدة، والإيمان بدور الإنسان الوسط في ذلك. والحال أن أفلام كابرا الرئيسة في ذلك الحين عرفت كيف تعبر عن هذين الإيمانيين وكان "السيد ديدز يتوجه إلى المدينة" (1936) فاتحة سلسلة من أفلام مشابهة وضعت الإنسان الوسط أمام مصيره، ولئن كان هذا الفيلم ينتمي إلى غاري لاركين، كاتب السيناريو اليساري الذي جعله في الوقت نفسه محضر اتهام لتوجهات الرأسمالية المتوحشة.
من المجتمع إلى الدولة
وهكذا من "لن تأخذها معك" إلى "السيد سميث في مجلس الشيوخ" (1939) إلى "رجل الشارع" (1941) صارت أفلام كابرا في ذلك الحين على هدى خطوات روزفلت مترجمة توجهاته وآرائه وانفتاحه، صوراً على شاشة كان الجمهور يتلقفها بلهفة، لأنها كانت تقول له، إن أميركا إذا كانت قوية إلى هذا الحد فلأنها الدولة الوحيدة في التاريخ التي صنعها أبناؤها البسطاء حقاً.
طبعاً لم تكن هذه "الثلاثية" كل أفلام فرانك كابرا، فقد حقق طوال مساره السينمائي بين 1922 و1961، تقاعد بعد ذلك حتى رحيله في 3 سبتمبر (أيلول) 1991 مكللاً بآيات الفخر والمجد، في أوروبا أكثر مما في أميركا، أكثر من خمسين فيلماً تراوحت بين الكوميديا الاجتماعية، والأفلام الدعائية؛ سلسلة "لماذا نحارب؟" التي أنتجتها وزارة الدفاع الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية بتوجيه من روزفلت نفسه لتبرير دخول أميركا الحرب ضد النازيين. وكان كابرا يفخر دائماً بأنه كان واحداً من أوائل المخرجين الأميركيين الذين وضعوا اسمهم فوق عنوان الفيلم لا تحته، ومن هنا حمل كتاب مذكراته الرئيس عنوان" الاسم فوق العنوان".