Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الإيطالي تشيزره بافيزي يروي صراع الحب في ظل الفاشية

"الرفيق" رواية تخرج عن الالتزام بالأيديولوجيا نحو أفق وجداني

الروائي والشاعر الإيطالي تشيزره بافنيزي (يوتيوب)

وُلد الشاعر والروائي الإيطالي تشيزره بافيزي  في مطلع القرن العشرين (1908-1950) في بلدة سان ستيفانو من مقاطعات إيطاليا الشمالية، قريباً من تورينو، وتلقى علومه الابتدائية في بلدته، وما لبث أن انتقل إلى تورينو لإكمال دراسته الثانوية، وإلى جامعة روما حيث درس الأدب الإنكليزي والأميركي وعمل على ترجمة بعض الأعمال الشعرية الإنكليزية إلى اللغة الإيطالية. استدعي إلى الخدمة العسكرية، في الثلاثينيات من القرن العشرين، إبان صعود الفاشية في البلاد، إلا أن نوبات الربو التي ألمت به ألزمته الإقامة ستة أشهر في المستشفى العسكري، هناك. وبينما حانت عودة بافيزي إلى تورينو، عشية إعلان نشوب الحرب العالمية الثانية، ودخول الجنود الألمان إلى روما، تفرق رفاقه في البراري من أجل أن يخوضوا حرب عصابات ضارية وغير متكافئة ضد المحتل النازي. وعلى الرغم من أيام التخفي عن عيون السلطة النازية، والتي يوردها في مذكراته، فإنه لم يشأ الانتماء إلى الحزب الشيوعي الإيطالي إلا بعد انتهاء الحرب، وبداية شهرته الأدبية.

ترك الكاتب  بافيزي، الذي توفي انتحاراً عن واحد وأربعين عاماً ما يقارب العشرة أعمال، بين الروايات ومنها: "بلداتكم" 1941، و"الشاطئ"1941، و"عطلة آب" 1946، و"الرفيق" 1947، التي نحن بصددها، و"الشيطان في التلال" 1948. ومجموعتان من القصص وهما: منزل في التلة، 1949، والصيف الجميل، 1949، ومجموعة شعرية يتيمة بعنوان: "ليأتِ الموت ويأخذ عينيكِ" وقد صدرت بعيد وفاته عام 1951.

رواية سجالية

إذاً، تعتبر رواية "الرفيق" للأديب الإيطالي تشيزره بافيزي، والتي ترجمها إلى العربية عرفان رشيد، وصدرت عن دار المتوسط ، من الأعمال التي أثارت الكثير من السجال، شأن كتاباته جميعها وحياته القصيرة والدراماتيكية في آن. وحتى يتسنى للقراء مشاركتنا الاطلاع على عالم الكاتب الروائي، لا بد من إيضاح بعض النقاط المتصلة برؤية بافيزي للعالم؛ فبالاستناد إلى يومياته التي صدرت بعد وفاته بقليل، وكانت بعنوان "مهنة العيش"، بدا واضحاً أن بافيزي كان شديد الإحباط، بل تتملكه حالة من التدمير الذاتي المفضي إلى الانتحار، الذي آل اليه في نهاية المطاف. ولم تكن هذه الحالة، على ظن بعض المحللين، سوى نتيجة لشعور عارم بالوحدة والوحشة كان يتملك كيانه، منذ أن كان فتى، وبعد أن صار شاباً قادراً، بالإمكان، على مواعدة الفتيات وعشقهن، من دون أن يحظى بإحداهن حظوة كاملة، وقد علله البعض بأن الكاتب ربما كان يعاني من عجز جنسي. ولكن، بالعودة إلى يومياته، وكتاباته في شأن الحب، يتبين لنا أن بافيزي ينظر إلى الحب على أنه حالة عصية على التحقق، إذ يقول: "لا يموت المرء حباً بالمرأة، نموتُ لأن حباً، أي حب يكشف عن عرينا، وبؤسنا، وعجزنا عن رد ما يمسنا، ويكشف عن العدم".

بالعودة إلى كتابنا، رواية "الرفيق" التي كان قد أنشأها الروائي بافيزي بصيغة المتكلم، على لسان شخصية وحيدة هي بابلو عازف الغيتار، الشاب الذي كان يحيا حياة هامشية، بجوار شلة من المتعطلين الشبان، من لحظة عيادة صديق له يدعى آميليو، وقد صار طريح الفراش، بعد حادثة الدراجة النارية، وبصحبته فتاة لم تصب بأذى، إلى تعرفه على ليندا، صديقة آميليو السابقة، وتوثق العلاقة بينهما، وسؤال بابلو الساذج صديقته هذه بالارتباط والزواج، ورد ليندا المحبط، ثم تعرف ليندا بلوبراني الأربعيني صاحب المال والقدرة على تشغيل الناس، وتحصيلها المال منه، ما دام البؤس سيد الموقف. ولا يزال بابلو عازف الغيتار يواصل تسكعه، من دون أن يطلب عملاً، حتى يضطره يأسه من تحقيق حبه لليندا أن يرحل إلى روما. وهناك يباشر بابلو مساراً آخر؛ إذ يتعرف إلى شلة من العمال والممثلين العاطلين من العمل، والنساء الأرامل أو المبعدات عن أزواجهن القابعين في سجون السلطة الفاشية. ويتضح، من سياق الأحداث، أن هذه الشلة بغالبية أفرادها، تنتمي إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، المطارد من رجال الدولة ومن النازيين الذين باتوا يملكون أذونات العمل التي لا يمكن لأي فرد ممارسة العمل وتأمين لقمة عيشه من دونها. ويمضي بابلو، صاحب الغيتار والمغني بصوته الشجي، يرافق الشلة شلة الشيوعيين وهم يوزعون المنشورات الحزبية التي تدعو الناس فيها إلى التمرد على الفاشيين وتطالب بإيجاد فرص العمل للطبقات الفقيرة. ويحدث أن يعتقل كارليتو الممثل الأحدب، ومجموعات من رفاقهما، ولا يلبث رجال الشرطة أن يدركوا بابلو ويعتقلوه بتهمة معاونة الشيوعيين وتهديد أمن الدولة، في حين كان يأوي لدى امرأة عجوز، ويقيم علاقة مع امرأة فتية كان زوجها قد اعتقل بتهمة انتمائه إلى أحد أحزاب اليسار. وتنتهي الرواية بخروج بابلو، عازف الغيتار، من السجن بعد ما تعهد لسجانيه بعدم القيام بأي عمل يخل بالأمن، عائداً إلى تورينو، مدينته، وحيث عائلته والدكان الذي تعتاش منه.

البطل السلبي

لكنّ رواية "الرفيق" التي تدل بعنوانها على انتماء البطل فيها إلى حزب يساري معين، ينادى فيه الفرد بالرفيق، سرعان ما تفاجئ قراءها بغياب أي طابع يساري أو كلام أيديولوجي كان يمكن أن تتفوه به الشخصية المعنية، عنيت البطل السلبي، في ما خص الصراع الطبقي أو حالة العمال المزرية، وما يقابلها من استغلال الطبقة الغنية للعمال الفقراء. وإنما يجري تركيز الكاتب على العلاقة غير الناجزة، بل الفاشلة بين بابلو، راوي مجريات فترة من شبابه، وبين ليندا، صديقة آميليو السابقة. ويستفيض في سرد الوقائع التي تثبت استسهال ليندا، المرأة الشابة والجميلة، الرضوخ لإغراء المال، وقبول معاشرة لوبراني الخمسيني لقاء المال. ليس هذا فحسب، فهي سبق لها أن رفضت عرضاً من بابلو بالزواج بها، محتجة بأنه لا مكان للحب في الدنيا، وأن من الخير للرجل والمرأة ألا يتزوجا بل يلتقيان، قبل ممارسة الحب وبعدها، كما كان يفعل العاشقان. وإذا كانت ليندا، ههنا، تنطق بلسان المؤلف، في شأن الحب والعلاقات الجنسية بين حبيبين، فإن المؤلف يعاود بسطه ولكن على لسان بابلو، هذه المرة، بعد علاقاته الجنسية المحمومة مع جينا المرأة الشقراء في روما، والتي "كانت من النساء اللاتي يهوين المتعة المطلقة" (ص:174)، وقد رغب (بابلو) بعد ذلك، بالبقاء بمفرده، "فهل كان قدري مكتوباً أن أراها أمامي ليل نهار؟"(ص:175).

يضاف إلى هذه الوقائع، ما حسبه القارئ منتهياً مع ليندا، صديقته السابقة، إذ يفاجأ بابلو بها تلحق به إلى روما، بعد أن عرفت مكان إقامته من أخته كارليتا التي بقيت تراسل أخاها. فيقضي بابلو ليلة من المتع صاخبة مع ليندا، التي كانت قد غافلت زوجها لوبراني ولقيت صديقها القديم، من دون أمل في استعادة ما كان. وها أن بابلو يقول: "مسكينة ليندا، فقد كان الهجر الأسلوب الوحيد الذي ينبغي اتباعه معها"(ص:214)

وبعد، هل ثمة مجال للشك في أن عنوان الرواية "الرفيق" لا صلة له حاسمة بالموضوع السياسي، وإنما يتصل بمسألة أعمق وأكثر إلحاحاً على الكاتب، بحيث لا يقوى على مواراتها، من خلال الحبكات الخارجية التي تتخذ الصراع الفكري والاجتماعي بين اليسار والفاشية مجالاً لها، عنيتُ بها مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة، واستحالة ديمومتها في الزواج أو الحب لعلة في المرأة، في أغلب الظن، طبعاً بحسب المؤلف بافيزي. ولو اكتفينا بالنظر البانورامي في مجمل أعمال الكاتب، وفي أهم المحاور التي شغلت تفكيره، وحتى كتاب مذكراته "مهنة العيش"، لوجدنا أن مسألة العلاقات غير السوية بين الرجل والمرأة تأخذ الحيز الأكبر من اهتمامه. ولعلها كانت أحد أهم العوامل التي دفعت بالكاتب بافيزي إلى الانتحار عشية تربعه على عرش الأدب، ونيله جائزة ستريغا الوطنية عن مجموعته القصصية "الصيف الجميل" ذلك العام 1950. ومما لا شك فيه أن حالة الانهيار التي أعقبت انفصاله عن صديقته نتاليا غينسبرغ ظلت تلح عليه، يضاعفها شعوره بالوحدة والصمت الذي يعده "قوتنا الوحيدة".

ولكن، كيف للقارئ أن يفسر انقطاع عازف الغيتار بابلو عن حركة السرد المحمومة، والتفاته إلى الطبيعة الجميلة، والتأمل في الغابات الممتدة، ومنظر البحر عند شواطئ أوستيا؟ للإجابة أقول إن الكاتب قد يكون لديه بعض أثر من الرومنطيقية عصية على الانحلال في المشاهد الواقعية الضاجة. أو تراه ربيب ذلك الجيل من الكتاب الشعراء، الحاملين في دمائهم لوثة غوته، والسائرين إلى مصير "الشاب فرتر" بعد آلام عشقه المتمادية؟

المزيد من ثقافة