في أول إشارة قد تشكل دلالة على الموقف الإيراني تجاه القرار الذي اتخذته أربعة فصائل من الحشد الشعبي المرتبطة سياسياً وإدارياً بالمرجعية الشيعية في النجف، اعتبرت دائرة التوجيه السياسي في "الحرس الثوري" الإيراني أن هذا القرار ساهم بشكل واضح في إضعاف تماسك هيئة الحشد في مواجهة الموجة الجديدة من الهجمات التي قام بها تنظيم "داعش" الإهاربي على مواقع للقوات العراقية والحشد في منطقة صلاح الدين شرق بغداد وأدى إلى خسائر بشرية غير مسبوقة منذ إعلان القضاء على هذا التنظيم في العراق.
وعلى الرغم من أن قوى عراقية مؤيدة وموالية لإيران اعتبرت قرار انشقاق الفصائل التابعة للمرجعية في النجف يأتي على خلفية صراعات حول قيادة قوات الحشد بعد اغتيال نائب الرئيس الهيئة القيادية أبو مهدي المهندس مطلع العام الحالي (فجر الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020)، بالإضافة إلى رفض ممثل المرجعية والمسؤول عن العتبة العباسية السيد أحمد الصافي تولي عبد العزيز المحمداوي هذا المنصب على حساب الشخص الذي رشحه هو لذلك، مفضّلاً العودة إلى إمرة القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء مباشرةً، فإن دوائر حرس الثورة تعتبر أن "قرار انشقاق أربعة فصائل عن الحشد هي "لواء الإمام علي" و"لواء علي الأكبر" و"لواء أنصار المرجعية" و"لواء العباس"، يدلل على وجود سيناريو جديد بقيادة أميركية وبعض المتعاونين العراقيين"، وأن هجوم "داعش" يشكل نوعاً من عملية استكمال سيناريو الضغوط التي تمارَس على الحشد الشعبي.
تربط هذه الأوساط الإيرانية عودة "داعش" إلى تفعيل عملياته الإرهابية في شرق بغداد (صلاح الدين وديالى) وجنوبها (جرف الصخر) بعملية فرار مفترضة لبعض قادة وعناصر التنظيم من سجن "الحوت" الشهير والمحصن في محافظة ذي قار (الناصرية) جنوب العراق، واستطاعوا بمساعدة "أميركية" سرية أن يصلوا إلى المناطق الشمالية حيث استأنفوا نشاطاتهم ونظموا صفوفهم، الأمر الذي ساعدهم على إحداث هذه الصدمة الأمنية في الأيام الأخيرة.
اتهامات إيرانية
وتذهب الاتهامات الإيرانية في ترسيم سيناريو عودة الإرهاب و"داعش" إلى شن عمليات ضد مراكز ومواقع القوات المسلحة العراقية والحشد الشعبي والعشائري، وتتحدث عن قيام القوات الأميركية بتسهيل عبور عناصر "داعش" من الأراضي السورية في اتجاه العراق، التي عملت على تفعيل تواصلها مع عناصر التنظيم داخل العراق وإعادة تفعيل تنظيم جديد في بعض المناطق خصوصاً على أطراف مدينة تكريت.
وبعدما أُجبر النظام الإيراني على اعتماد خيارات كان يرغب ويفضل عدم الوصول إليها، بخاصة عندما ذهب إلى تبني تكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة العراقية، بهدف الهرب من مواجهة استحقاق وصول مرشح يصعب التفاهم معه إلى رئاسة الوزراء، وبعد تعثر كل الجهود التي بذلها لإعادة تثبيت عادل عبد المهدي في موقعه، تعتقد الدوائر المعنية بالقرار في إيران أن واشنطن، وبعد تفاهم القوى السياسية الممثلة للمكوّن الشيعي على تسمية الكاظمي والسكوت عن كل الاتهامات التي وجهتها له في عملية اغتيال قاسم سليماني والمهندس، لم تتخل عن مشروعها في إضعاف الحشد الشعبي وصولاً إلى إعلان حله، وما يعني خسارة إيران أحد أبرز أذرعها على الساحة العراقية. فبحسب طهران فإن "الحشد" يشكل التهديد الأكبر والأبرز للقوات الأميركية في العراق، وسبق لواشنطن أن اختبرت قدرته في مواجهات سابقة".
الوجود في العراق
وفي وقت يعتقد جزء من النظام الإيراني أن واشنطن رفعت مستوى ضغوطها على طهران وبغداد عشية طرح الكاظمي تشكيلته الوزارية أمام البرلمان لنيل الثقة، بهدف الحصول على تنازلات إضافية، بخاصة في ما يتعلق بالموضوع الذي وعد به رئيس الحكومة المكلف خلال مشاوراته السياسية، ألا وهو المضي قدماً في بحث تطبيق قرار البرلمان المتعلق بخروج القوات الأميركية من العراق، يبدو أن جهات في طهران تعتقد أن واشنطن التي تتمسك بوجود قواعدها العسكرية في العراق لمحاربة "داعش" والإرهاب، عمدت في الآونة الأخيرة إلى خفض تعاونها الاستخباراتي مع الأجهزة الأمنية العراقية بشكل كبير ولم تضع ما تملك من معلومات حول التحركات الأخيرة لعناصر "داعش" بتصرف الجانب العراقي الذي يتهمها بقصر التعاون على قوات البيشمركة في إقليم كردستان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"تأليب السنة"
وتتهم طهران واشنطن بالعمل على تأليب سكان المناطق التي تشكل عمق المكون السني وملاذ من تبقى من "داعش" ضد قوات "الحشد الشعبي" وتوظيف ذلك للمطالبة بإحلال قوات أميركية مكان هذه الفصائل، الأمر الذي يعمّق الخلاف حول دور ومصير "الحشد" في تثبيت النفوذ الإيراني في العراق من باب الحاجة إليه لمحاربة الإرهاب و"داعش".
هذا الإرباك في قراءة المشهد العراقي داخل النظام الإيراني يبدو أنه سيزداد تعقيداً مع الآثار السياسية التي ستتسبب بها الرسالة التي وجهها السفير الأميركي في العراق ماثيو تويلر إلى القوى الشيعية وطالبها بتمرير تشكيلة الكاظمي الوزارية. فعلى الرغم من إجماع قوى المكون الشيعي على اعتبار الرسالة بمثابة تدخل في الشؤون الداخلية العراقية، إلا أنها وبحسب القراءة الإيرانية محاولة لإرباك حساباتها، فالوقوف إلى جانب الكاظمي في ظل هذا الدعم والتبني الأميركي سيدفع الكثير من حلفائها إلى طرح أسئلة حول المسار الذي يُفترض أن تتجه إليه الأمور في المستقبل، بين الاستمرار في تأييد الكاظمي وتوفير الغطاء له بما يخدم وجود تفاهم بين طهران وواشنطن حول ذلك، أم أنها ستكون أمام تحدي الانقلاب عليه حتى وإن لم تكن راغبة في ذلك، نظراً إلى التداعيات المحتملة.