كشفت خلافات الأيام الماضية بين أركان الطبقة السياسية في لبنان مدى تأثيرها في المعالجات للأزمة الاقتصادية المالية التي تعيشها البلاد، وصعوبة الفصل بين الصراعات السياسية على السلطة وبين الحلول المطلوبة، خصوصاً أن الدول المعنية بمساعدة ذلك البلد الصغير على النهوض من المأزق، تنصح بالتوصل إلى توافق وطني على الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية، لتحفيزها على دعمه.
فمع دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون رؤساء الكتل النيابية إلى اجتماع الأربعاء لإطلاعهم على البرنامج الإصلاحي الذي أقره مجلس الوزراء، طفت على السطح حصيلة السجالات التي سبقت الدعوة سواء حول الخطة نفسها أو حول قضايا أثارتها الحكومة التي يرأسها حسان دياب، وخضعت بدورها لتجاذبات بين قوى المعارضة التي بقيت خارج الحكومة وقوى داخلها، وبين فريق الرئاسة ومعه رئيس الحكومة والموالين لهما، خصوصاً الوزراء الذين يدورون في فلك "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
غير صالحة
بعض القوى السياسية المدعوة للاجتماع من خارج الحكومة، تعتبر الخطة الإصلاحية غير صالحة لاستدراج الدعم المالي الذي ستطلبه الحكومة بعدما قررت اللجوء إلى صندوق النقد الدولي. كما أن المواقف التي سبقت الدعوة ألقت بثقلها على قرار مشاركة هذه القوى، ما أدى إلى خفض مستوى تمثيل فرقاء، وإلى مقاطعة فريق أساسي هو كتلة "المستقبل" ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري الاجتماع.
يكفي تعداد العناوين التي ألهبت المشهد السياسي لفهم انعكاسها على دعوة عون، فالمسودة الأولى للخطة التي وُضعت مطلع الشهر الماضي، تضمنت فكرة الاقتطاع من الودائع التي تفوق قيمتها الـ100 ألف دولار لتعويض خسائر القطاع المصرفي نتيجة إقراضه الدولة، ما أثار فريقاً أساسياً في الحكومة هو فريق رئيس البرلمان نبيه بري، الذي رفضها بشكل قاطع عبر وزيريه، وتقاطع في ذلك مع وزيري زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، ومع المعارضَين، رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، اللذين تناهت إليهما معلومات عن أن فريق عون ينوي تحميلهما مسؤولية الهدر الذي حصل في الدولة والاستدانة، بالتالي الاضطرار للجوء إلى "الهيركات" (Hair Cut) ووضعهما في مواجهة المودعين، ما دفعهما إلى معارضة الفكرة بشراسة، ومعهما حزبا "القوات اللبنانية" و"الكتائب"، فسقط الاقتراح.
الاشتباك حول سلامة
تلا ذلك، الاشتباك السياسي حول رغبة عون بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعدما تولى دياب الهجوم عليه. وتقاطعت مواقف القوى ذاتها على رفض هذا التوجه، الذي اعتبر فريق "تيار المستقبل" (يتزعمه الحريري) أنه جاء في سياق خطة عون وصهره النائب جبران باسيل، لاقتلاع مَن يمتون بصلة إلى "الحريرية السياسية" من المناصب العليا في الإدارة المالية للدولة، لتعيين موالين لـ"التيار الوطني الحر" الذي أسسه عون. سبق كل ذلك، الخلاف الكبير على التعيينات المالية لنواب حاكم مصرف لبنان الأربعة ولجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة في البنك المركزي، التي جوبهت بمعارضة من الفرقاء أنفسهم نظراً إلى أنها كادت تتم في إطار من المحاصصة بين عون ودياب، مع استبعاد الآخرين بمَن فيهم شركاء في الحكومة مثل فرنجية. وأفشل تقاطع المعارضين والمعترضين من داخل الحكومة هذه التعيينات أيضاً. ومن نافل القول إن هذه المعارك حصلت في ظل استمرار حملة مناصري عون الإعلامية على سياسات السنوات الـ 30 الماضية، قاصدين "الحريرية السياسية" (التي أسسها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري) وحلفاءها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جرس إنذار عند السفراء الغربيين
أسهم تصاعد التراشق السياسي حول كل هذه العناوين وغيرها، والاحتقان وانعدام الثقة بين الفرقاء وبين فريق الرئاسة، في ارتفاع سعر صرف الدولار والانخفاض الكبير في قيمة الليرة، الذي تسبب بارتفاع جنوني في الأسعار، لا سيما المواد الغذائية، بالتزامن مع تراكم الصعوبات المعيشية جراء الأزمة وبسبب الإقفال الذي فرضه فيروس كورونا، بالتالي مضاعفة معدل البطالة إثر إقفال مؤسسات وشركات.
وما شكل جرس إنذار لعدد من سفراء الدول الكبرى (أميركا، فرنسا، بريطانيا وممثل الأمم المتحدة) هو الصدامات بين المتظاهرين في مدينة طرابلس وبين الجيش اللبناني. استنفر هؤلاء وأجروا لقاءات مع كل الفرقاء ونبهوا إلى مخاطر انزلاق الخلافات السياسية إلى توتر كبير يصعب ضبطه. وزاد من استنفار هؤلاء السفراء المواجهات العنيفة التي حصلت في طرابلس بين الجيش ومتظاهرين، حيث توفي شاب أُصيب برصاص مطاط، فاعتبروا أن هناك في السلطة مَن يريد توريط الجيش في مواجهات دموية.
وشدد هؤلاء السفراء في لقاءاتهم على وجوب ضبط الصراعات السياسية، وتداولوا بفكرة قيام حوار بين القادة السياسيين. ونصحهم بعض هؤلاء بالتوجه إلى رئيس البرلمان نبيه بري لتولي هذا الحوار لأنه الأقدر على التواصل مع كل الأطراف في السلطة وخارجها، وفاتحه أحد السفراء بالفكرة.
وحين تبلغ الرئيس عون بالمشاورات الجارية على هذا الصعيد، انزعج بشدة واعتبر أن تولي بري الأمر ينتقص من دوره كرئيس للبلاد، فوجّه الدعوة على عجل يوم الجمعة الماضي تحت شعار "إطلاع الكتل النيابية على البرنامج الإصلاحي... والتشاور في محطة مفصلية في الحياة السياسية اللبنانية". وعلى الرغم من امتعاض بري من التفاف عون على اقتراح أحد السفراء أن يتولى هو قيادة الحوار، فإن مصادر نيابية أوضحت أنه قرر تلبية الدعوة لأنه لا يجوز لرئيس السلطة التشريعية الغياب عن مبادرة أطلقتها رئاسة الجمهورية، ولأن "حزب الله" حريص على عدم إضعاف حليفه عون أمام المعارضة، تمنى عليه الحضور، لا سيما بعد غياب 5 أقطاب رئيسيين عن الاجتماع، أربعة منهم يتمثلون بمندوبين من الصف الثاني.
مقاطعة الحريري وضعف التمثيل السني
وشكّل قرار كتلة "المستقبل" والرئيس الحريري مقاطعة الاجتماع صفعة سياسية للدعوة، على الرغم من اعتقاد قوى أخرى أنه كان يمكنه أن يسمي مَن يمثله ليقول كلاماً صريحاً بشأن الخطة وسياسة عون والحكومة، كما فعل رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وسليمان فرنجية الذين سموا نواباً من كتلهم النيابية لتمثيلهم في الاجتماع، ما خفّض مستوى التمثيل الذي أراده رئيس الجمهورية.
لكن مقاطعة الحريري أتت كمؤشر على تدهور العلاقة بينه وبين عون، بعدما شمل السجال اتهام "المستقبل" فريق الرئاسة بالسعي إلى نظام رئاسي وإضعاف رئاسة الحكومة بالاستناد إلى تسليم دياب بالحملات التي يشنها "التيار الوطني الحر" على الحريرية السياسية. وكان رؤساء حكومة سابقون (الحريري، نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام) دعوا عون الأسبوع الماضي "إلى التوقف عن محاولات تحويل النظام البرلماني الديمقراطي إلى نظام رئاسي، والتوقف عن ضرب صلاحيات رئاسة الحكومة وجعلها مطية لأحقاد وأطماع صغيرة".
وجاءت تسمية ميقاتي لنائب مسيحي من كتلته ليمثله في الاجتماع لتفاقم ضعف التمثيل السني، الذي سيقتصر على حضور الرئيس دياب (الذي يفتقد لأي دعم شعبي في طائفته) والنائب فيصل كرامي الذي لا يُعتبر رئيس كتلة نيابية، لكنه حليف لـ "حزب الله".
ويعتبر فريق الحريري منذ ما قبل توجيه عون الدعوة إلى الاجتماع، أن الخطة على الرغم من محاولتها مقاربة الوضع المالي الاقتصادي بشمولية، وتضمينها أرقاماً جديدة لخسائر المصارف ومصرف لبنان، قاصرةً عن معالجة الأزمة وتتضمن تخبطاً وافتراضات "دفترية" غير مستندة إلى إجراءات لتنشيط الاقتصاد والاستثمارات، لإقناع المجتمع الدولي بأن لبنان قادر على سداد سندات اليوروبوندز التي تخلف عن دفعها في مارس (آذار) الماضي، في حال تمت إعادة هيكلة الدين بالتفاوض مع الدائنين.
كما يرى فريق الحريري الاقتصادي أن الخطة مجرد عناوين عامة لن تقنع صندوق النقد الدولي بأن البلد قادر على دفع ما يتوجب عليه بعد سنوات في حال قرر إقراضه الأموال التي لمّح دياب إلى حاجته إليها (10 مليارات دولار على 3 سنوات)، في وقت يكمن حجر الرحى بالحصول على أموال من الخارج لضخ السيولة في الاقتصاد. بالتالي فإن الخطة تهدف إلى القول إن الحكومة ومن ورائها فريق الرئاسة، قاما بواجبهما، وفي حال فشلت، تُرمى الأسباب على غيرها. ويسأل أعضاء هذا الفريق: إذا كان غرض عون من اجتماع القصر الجمهوري ضمناً الحصول على تغطية الفريق المعارض، لماذا علينا تأمين هذه التغطية لعراضة إعلامية سلفاً؟ فضلاً عن أن الخطة أُقرت وقرأها الحريري ولا داعي للاستماع إلى شرح يقدمه مستشارون.
جنبلاط يزور عون
لماذا زار جنبلاط الرئيس عون يوم الاثنين 4 مايو (أيار) الحالي، قبل يومين من اجتماع بعبدا، على الرغم من التراشق الذي حصل بينه (ومعه نواب حزبه)، وبين فريق "التيار الوطني الحر" ودياب، واتهامه عون بالسعي إلى تحالف الأقليات ونسف اتفاق الطائف؟
يقول مصدر في كتلة جنبلاط النيابية إن لهذه الخطوة رواية منفصلة عن الموقف من فريق الرئاسة، ولن تغير من انتقاداته، خصوصاً أن مَن سيمثله سيطرح أفكاراً بديلة للخطة أعدها الحزب الاشتراكي. فاجتماع جنبلاط مع عون جاء لنزع فتيل التوتر المسيحي - الدرزي في الجبل نتيجة ممارسات بعض أنصار "التيار الوطني الحر" في بعض البلدات. إذ استحدث مناصرون لعون والنائب باسيل موقع بث إذاعي على الإنترنت (web broadcasting) تحت عنوان "إذاعة الشوف المسيحية"، تبث يومياً وتكيل الشتائم لجنبلاط وتهدده مع أنصاره بطردهم من الجبل، وتستعيد لغة الحرب الأهلية بحجة أن "زمن الأول تحول"، ما أثار مناصري جنبلاط، فحصل انفلات لردود الفعل وتبادل التهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيدي الفريقين.
وبعث معاونو جنبلاط خلال الأسابيع الماضية رسائل إلى عون وباسيل طالبين وقف هذه الإذاعة حرصاً على التعايش في الجبل، لكنهما لم يعيرا الأمر أهمية بحجة أن القيمين عليها ليسوا حزبيين في "التيار الوطني الحر". كما أن "الاشتراكي" دعا "حزب الله" إلى التدخل مع حليفه باسيل لتدارك الأمر من دون تجاوب. إلا أن رفض كبار رجال الدين المسيحيين في منطقة الشوف لما تبثه الإذاعة وتنَبُه فريد البستاني أحد النواب الحلفاء لتيار رئيس الجمهورية، إلى خطورة ما يقوم به أنصار عون وباسيل، دفع إلى التدخل لدى عون للحؤول دون مخاطر انزلاق أنصار الفريقين نحو صدامات أهلية شبيهة بالتي حصلت في منطقة قبر شمون الصيف الماضي، وأدى إلى ترتيب زيارة جنبلاط لتنفيس الاحتقان.
ولهذا السبب قال جنبلاط "هناك علاقة متوترة مع التيار الوطني الحر، نسعى لتنظيم الخلاف بيننا. فليكن الأسلوب من قبلهم وقبلنا، بالتعاطي الإعلامي وغير الإعلامي، غير انفعالي". وقال إنه لا يسعى إلى تغيير الحكومة لصعوبة تأليف غيرها.