Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أي مستقبل للأدب بعد كورونا؟

خريطة جديدة للجسد البشري وإمكاناته

مشهد من فيلم "الحب في زمن الكوليرا" (يوتيوب)

هرباً من أيام العزل الصحي المفروض علينا في بلجيكا منذ أسابيع، قررتُ في يوم مشمس أن أخرج مع طفلي إلى المنتزه القريب، طمعاً في نسمة صيف لم يأت بعد، وهناك، ونحن نحاول الاستمتاع بأشعة شمس خجولة، بعد أيام قضيناها سجناء حوائط وغرف البيت، مرت علينا عجوز بلجيكية، تسير بطيئة محنية الظهر تستند إلى عصاها، وجوارها شابة تكاد تكون حفيدتها، توقفت العجوز فجأة بالقرب منا، أطالت النظر إلى ابنيَ وهما يجريان على العشب، ثم قالت بصوت مرتعش كأنها تواسيني: "حتى أنني الآن لا أستطيع أن أمسد رأسيهما! ما يحدث بشع يا بني، صدقني، أنا اليوم في التسعين، مرت علي حروب ومجاعات، لكني لم أشعر أبداً بالخوف كما أشعر به هذه الأيام".

نظرتُ إلى المرأة مستفهماً وقد فاجأني حديثها، فقالت وهي تقترب لتجلس على دكة خشبية مجاورة فيما تسندها حفيدتها: "نعم... في كل هذه المحن التي مررت بها، كنا نجتمع لنواسي بعضنا بعضاً، إذا انطلقت صفارات الإنذار قبل الغارات الجوية أيام الحرب، نهرول جماعات متشابكي الأيدي إلى الملاجئ والأقبية، وإذا لم نجد الطعام، تقاسمنا كسرات خبزنا وأكلناها بنهم حتى لو أصابها العفن، في أشد لحظات الأوبئة والأمراض، كان يحق لنا السير في جنازات الموتى لنودعهم الوداع الأخير، الآن علينا أن نبتعد من الآخرين لنحميهم منا ونحمي أنفسنا منهم! حتى الموتى الذين يسقطون بين أيدينا بسبب هذا الوباء، نُجبَر على عدم الاقتراب منهم كي نودعهم أو نقبلهم قبلة الوداع، هذا رعب لم أعشه من قبل، وأرجو أن أموت قبل أن أرى الناس يودعون أحبابهم وأطفالهم بهذه الطريقة العاجزة عن فعل أي شيء"!

معانقة الجميع

علي أن أقول إنني لم أسمع، منذ بدء انتشار فيروس كورونا الذي ضرب العالم أجمع قبل شهور، أقسى من هذه الكلمات، كانت العجوز البلجيكية محقة في ما قالت، وربما فسر لي كلامها ما عجزت عن تفسيره من أحاسيس متضاربة، ألمت بي منذ أجبرنا على البقاء داخل بيوتنا بسبب عدو غير مرئي، همت العجوز من جديد بالوقوف فساعدتها الشابة وهي تبتسم كأنها تعتذر عن إزعاج جدَتها لي، فابتسمت لهما مودعاً، فقالت العجوز ضاحكة بصوت مرتفع: "أول ما سأفعله بعد انتهاء هذه الأزمة هو أن أعانق جميع من أقابلهم في الشوارع، أقسم أن أفعل".

ظلت كلمات العجوز وضحكتها الحانقة تدور في ذهني اليوم كله، ما قالته جعلني أكتشف كم كانت حياتنا بسيطة وسلسة، بل إنني بدأت أقدر هذه الحياة السابقة على كورونا أكثر فأكثر، مقارنة بما يجب علينا اليوم أخذ حيطتنا منه؛ الأقنعة الواقية، القفازات، عبوات الكحول المطهر في حقائبنا، والرجفة التي بتنا نشعر بها حين نلمح شخصاً يقترب منا، كاسراً قانون المسافة الذي سنته شريعة عالم "التباعد" الجديد.

صار رعبنا من لمسة الآخر هو الذي يحكمنا، شيء مرعب أن نكتشف اليوم أن لمسة عابرة قد تكون هي النهاية لكل شيء، كنت قد عاهدت نفسي على عدم قراءة المزيد من أخبار ضحايا الفيروس، وعدد قتلاه الذي يتضاعف يوماً بعد الآخر، وبدأتُ أنفر من الآراء والتحليلات والبيانات المتضاربة عن المأساة، نفوري نفسه من استعادة الجميع للروايات والأعمال الأدبية التي تناولت الأوبئة والأمراض التي أفنت الملايين من البشر على مر التاريخ، وبدأت تراودني خيالات مرعبة تدور كلها حول جملة واحدة: "كم هي هشة وتافهة فعلاً هذه الحياة"، يصير الخوف من مجهول قد يصل إليك فتؤذي مَن حولك من دون أن تعلم، مسيطراً على أفكارك حين تكتشف عجزك عن حماية نفسك، لكن هذه المرة وأنت تتابع هذا المجهول من خلف شاشات الإنترنت وقنوات الأخبار التي تطاردك حيثما كنتَ، منتقية لك الأسوأ دائماً، وحين تحاول الهرب، تكتشف أن لا مهرب.

كان الشعور الأقوى الذي راودني وأنا تحت رحمة الإقامة منعزلاً في البيت، بسيطاً وساذجاً، مفاده: "لن تعود حياتنا إلى ما كانت عليه"، كنتُ أردده بيني وبين نفسي كما لو كنتُ أربت على كتفي مواسياً، وفي محاولة مني للهرب من طوفان الأخبار الذي امتلأت به صفحات المواقع الإخبارية ومواقع السوشيال ميديا، مر تحت عيني خبر يقول إن رواية "الطاعون" لألبير كامو هي "الأكثر مبيعاً في إيطاليا منذ تفشي فيروس كورونا"، نعم، ففي هذه اللحظات يبحث الناس عن مواساة ممن عرف ورأى، لكني أيضاً تساءلت: متى كتب ألبير كامو "الطاعون" الصادرة عام 1947، ومتى كتب غابرييل غارثيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا" الصادرة في 1985، ومتى كتب جوزيه سراماغو "العمى" الصادرة في 1995؟ كلها أسئلة وجدتها تُطرح مشروعة أمام من بدأوا يتحدثون منذ الآن، عن مستقبل الأدب ما بعد كورونا، بل إننا بدأنا نرى روايات وكتب وقصائد تظهر هنا وهناك عما نعيشه من حجْر صحي وعزلة، وكلها كتابات وأعمال خرجت من رحم حدث جلل، جعل الكثيرين يعيدون النظر من جديد إلى ما كانت حيواتهم عليه، قبل هذا التغير الكبير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشهد لم يكتمل

ما يحدث الآن لم يكتمل بعد، وما دام منقوصاً، بحكم عدم انتهائه، فهو طرف من كل، خيط لم نصل نهايته، وفي مثل هذه المراحل من تطور أي حدث كبير، تكون الكتابة عنه انطباعية، مبنية على الأسئلة التي لم نعثر لها على إجابات بعد، ربما هذا ما جعلني أطرح التساؤل حول زمن كتابة أشهر الأعمال التي تناولت الأوبئة، وأغلبها كتب بعد سنوات وعقود من وقوع مثل هذه الكوارث، مع ملاحظة أن بعض هذه الأعمال تخيلت وقوع هذه الكوارث في بلدان لم تقع فيها، طارحة مستويات عدة لتلقي العمل الإبداعي بدرجاته الفلسفية والمجازية التي تفرضها بنيته الأدبية النهائية، و"الطاعون" لألبير كامو مَثَلٌ جيد على ذلك؛ فقد صدرت عام 1947، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعامين فقط، كان كامو قد نال سمعة عالمية قبلها بسنوات بفضل روايته "الغريب" وكتابه الفلسفي "أسطورة سيزيف"، وكلاهما نشرا عام 1942، أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا والاحتلال الفرنسي للجزائر، ورسخا سمعة كامو باعتباره كاتباً وجودياً، وهي الصفة التي طالما رفضها كامو على حد تعبير الكاتب المغربي حكيم مرزوقي، الذي يشير أيضاً في قراءته لرواية "الطاعون" إلى أن كامو قدم في هذين العملين الأولين له: "عالَماً فاقد الأهمية، تصوغه أحداث عرضية ويكتنفه العبث، ووصف الأديب الفرنسي كتبه تلك بأنها تندرج ضمن "دائرة العبث". وفي تلك الأثناء كان مستغرقاً في كتابة مسودة رواية تنتمي إلى ما سماه "دائرة التمرد". وهي المسودة التي ستصبح بعد سنوات روايته الأبرز "الطاعون". كما يشير مرزوقي أيضاً إلى أن كامو كتب "الطاعون" وهو منخرط في صفوف مقاومة الاحتلال النازي لبلاده منذ عام 1943، بعد مغادرته الجزائر بسبب إصابته بداء السل، ثم التحاقه بالعمل محرراً بصحيفة "كومبات" التي كانت توزع سراً، حيث شرع في وضع مسودة روايته "الطاعون".

إذن "طاعون" كامو لم يكن إلا ذريعة ليقول رأيه عبرها عن وباء الاحتلال الذي عانت منه بلاده تحت الاحتلال النازي، وأيضاً احتلال بلاده للجزائر، وهو ما يؤكده العديد من النقاد. في "الطاعون" يصف كامو ما يمكن لنا أن نسميه "الاستجابة البشرية للموت الوشيك"، حيث ينتقل سكان وهران من اللامبالاة الأولية تجاه انتشار الطاعون عبر إنكاره، إلى القتال اليائس وصولاً إلى الاستسلام التام له، حتى تأتي المساعدة من باريس، حينها فقط تتمكن المدينة من هزيمة المرض الخبيث كنهاية سعيدة بعد قصة مأساوية، أهلت صاحبها إلى الحصول على جائزة نوبل في الآداب عام 1957.

معايشة اللامعنى

في حوار تناقلته وسائل الإعلام الغربية أخيراً مع عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين (مواليد 1925)، حول تداعيات الأزمة الكونية التي خلفها انتشار فيروس كورونا، قال إن الحجر الصحي "جعلنا نعيش اللامعنى في بيوتنا"، حيث لا سياسة واضحة لسياسيين ولا مشاريع مفهومة للأحزاب، ويقارن عالم الاجتماع الفرنسي بين لحظتنا الراهنة وبين الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 1929، فيقول إن الفارق الكبير هو أنه: "في عام 1929 كان قد اختفى كل شيء، لم يكن هناك أي فاعل في الساحة، لا في اليسار ولا في الحكومات. لكن سرعان ما ملأ السيد هتلر هذا الفراغ". هذه الملاحظة جعلتني أعيد التفكير في ما نراه اليوم من "تفريغ مراكز القوى في العالم من معناها"، ثمة شيء ما يدعونا إلى النظر اليوم إلى من يتولون قيادة عالمنا، بدءاً من دونالد ترمب في واشنطن ووصولاً إلى بوريس جونسون في لندن. ألم يتزامن وجود ترمب ذاته في البيت الأبيض مع حملة ضده في الصحافة الأميركية أشارت إلى ضرورة التخلص من "طاعون ترمب المنتشر في السياسة الأميركية"؟ هذا إذن هو المثال المعاصر للطاعون كتعبير مجازي.

نهاية، وعلى الرغم من أنه من المبكر جداً التحدث اليوم عن مآلات الفنون أو الاتجاهات الأدبية ما بعد كورونا، إلا أني أتصور أن الأدب، مثله مثل غيره من الفنون الأخرى، سيشهد تحولاً كبيراً بعد هذه الأزمة العالمية، ذلك أن الأزمة ستغير الكثير سياسياً واقتصادياً في العديد من بلدان العالم، وسوف يعبر الأدب والفن عن هذه المتغيرات، وربما يتمظهر التغير الأكبر لهذه الأزمة في الفضاء العام، حيث صعوبة تواجد الناس في المساحة ذاتها كما السابق، وهو ما سيغير السلوك البشري ولو إلى حين، مع تجميد أي أنشطة فنية أو ثقافية تقوم على الحضور الجماهيري أو التجاور الجسدي، ومن بينها السينما والمسرح والمهرجانات الأدبية أو الموسيقية، وهو ما سيخلق عالماً من التباعد والفردية، أو ما عبرت عنه صديقتنا العجوز في السطور أعلاه وهي تقول: "الآن علينا أن نبتعد عن الآخرين لنحميهم منا... ونحمي أنفسنا منهم".

ربما أكثر ما يرد على ذهني الآن، ما حدث من حراك فني وموسيقي وثقافي إبان حرب فيتنام خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أتصور أننا سنشهد ظهور اتجاهات أعنف ستعلو ساحة الأدب والفن والحركات الفلسفية، بخاصة في أوروبا التي كانت المسرح الأكثر تضرراً من كورونا حتى اليوم، فهذا ما يحدث عادة بعد الحروب والثورات والكوارث البيئية وسنوات الكساد الاقتصادي، لكنها الحركات الأدبية والفنية التي ستتناقض أيضاً في ما بينها، فاللحظة التي نحياها اليوم تشبه إلى حد بعيد تلك اللحظة ذاتها التي تخلقت منها حركة الهيبيز في أميركا لتنتشر بعد ذلك في عديد من الدول الأوروبية والغربية، والتي كان أساسها الاحتجاج والتمرد على السياسيين والرأسماليين الذين يقودون ثقافة الاستهلاك، وهو ذاته ما يحدث اليوم على المستويات كافة، مع اختلاف جوهري كبير، وهو أن حركة الهيبيز قامت وأحد أعمدتها الرئيسية هو الاستسلام لنشوة التحرر الجسدي بالانغماس في المخدرات والموسيقى والجنس، فيما ستكون الحركات الفنية والأدبية الجديدة مجبرة، في لحظة تخلقها، على رسم خريطة جديدة للجسد البشري وإمكاناته في عالم ما بعد كورونا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة