قد يتساءل قارئ "وسواس"، للكاتبة اللبنانية ثناء عطوي، عن هوية هذا الكتاب الصادر ضمن سلسلة "يوميات عربية"عن دار المتوسط. هل هو كتاب مذكرات؟ يوميات؟ قصص؟ ليكتشف من ثمّ أنّه أمام سيرةٍ لا تتقيّد بمعايير أدبية، وإنما تتبِّع مزاج الكاتبة التي تكشف بعضاً من طفولتها، وتجاربها، ومشاهداتها بشفافيةٍ مطلقة. إنّها تسرد ذكرياتها بسلاسة تُقرّبها من الأسلوب الشفهي، فتتركها متفرقة الأجزاء من دون أن تهتم بإعادة ترتيبها في نصٍّ ناظم وموحّد.
يحملُ هذا الكتاب وقائع من سيرة ذاتية (المؤلفة) وسيرة غيرية (القرين/ الوسواس)، في آن. الأنا والآخر يجتمعان هنا ليُشكلاّ معاً شخصيةً واحدة، لا وجود لأحدهما دون الآخر: "أعرف، أيها الوسواس، أننا أسأنا فهم بعضنا بعضا مرات عدة، وتمنيت أحيانا أن تغادرني ولا تعود، أن تختفي ولا أقتفي لك أثراً. لكني أدعو في سري كي تنجو لأنّ في نجاتك نجاتي" (ص 114).
قرين أم ملهم؟
الوسواس هنا ليس مخيفاً ولا مكروهاً، بل إنّه قرينٌ تعيش معه الكاتبة ما يُشبه وحدة الحال. لا يقترب وسواس ثناء عطوي من الصورة الراسخة في أذهاننا عن الوسواس، بل إنّ الكاتبة تُؤنسِنُه، وتُكلّمه وتجعله الآخر المُعادل لأناها: "نجلس متقابلين، واحدنا أمام الآخر، رأسه أعلى من رأسي بقليل، ويتسلّق جسدي مرتفعاً، كي يرى ما في داخلي. أضعه في حقيبتي كلّ صباح، نحيلاً رشيقاً، يسقط أرضاً فألتقطه. أشعث الهيئة، يُشاكسني (...) الوسواس كائنٌ يمشي نحو نفسه، لا يثرثر، بل يُفكّر، هو حدودنا الفاصلة مع العالم، أساه عضوي، يلازمنا مثل أفكارنا، مثل ظلّنا وانعكاس ذواتنا" (ص5).
تطرح عطوي قضية العلاقة مع الوسواس بكثيرٍ من الاهتمام والإلحاح. إنّها تتخّذه جرحاً قد يؤلمها أحياناً، لكنه يظلّ شاهداً على ما اختبرته ومعادلاً لانتصارها على الموت. وهذا ما نستدلّ به من خلال العبارة التي اختارتها ثناء كي تقفل بها نصّها: "أن تفهم روحك في العمق يعني أن تقف بثباتٍ على قدميك". لا تعرف ثناء عطوي عمر وسواسها "الماكر"، ولا تخبرنا كيف اقتحم حياتها. لكنّ الكاتبة، الناجية من "سيمفونية" الموت المتكرّر، تتعاطى مع قرينها كأنّه ضيفٌ مرتقب بعد زمنٍ قضته في قلق وخوف وفقدٍ وانتظار. وهي حين تُخاطبه في نهاية كتابها، فإنها تُصارحه برغبتها في البقاء معه، وكأنّه بات مُلهمها ورفيق عزلتها الدائم: "أرغب في الحفاظ عليك، وفي بقائك معافى لأنك خارج من ضلعي، من يومياتي، راغباً بالعودة دائماً الى ذاتك، إلى ذاتي".
حياة مبعثرة
قبل يومٍ واحد من الحرب، كانت ثناء اليافعة ترتدي فستاناً أبيض مطرّزاً بالأشكال اختارته خصيصاً للتصوير عند استوديو الفوتوغرافي الأرمني المعروف في بيروت. ولم تكن تدرك يومها أنّ الحرب الأهلية ستنفجر بعد ساعات قليلة، لتقلب حياتها رأساً على عقب وتغدو تائهة بين الملاجئ، بعيدا عن صديقتيها ريتا وكريستيان، عقب انقسام بيروت بيروت الى اثنتين: الغربية (المسلمة) والشرقية (المسيحية). وبمصادفةٍ غريبة، تلتقي ثناء (الصحافية) بصورتها القديمة في معرضٍ يضمّ صوراً فوتوغرافية التقطت قبل الحرب بيوم واحد: "عندما أنعمتُ النظر في صورتي المعلقة على جدران المعرض، رحتُ أتحسس جسدي وشعري كمن يتفقّد روحه، أو يتعرّف الى آخر غيره، بل غريب عنه".
تقدم عطوي سيرتها كشذرات متناثرة من دون أن تتبِّع كرونولوجية زمنية أو تراتبية معينة، بل إنها تكتب بما يتلاءم وطبيعة حياتها المبعثرة بين كثيرٍ من المناطق والمدارس والملاجئ، هي التي قضت طفولتها في بحثٍ متواصل عن ألعابها وكتبها وثيابها وتذكارات صديقاتها... ومع ذلك، يمكن القول إنّ أحداث الكتاب- أو ذكرياته- تدور ضمن حركة ثلاثية المراحل: الحرب الأهلية/ الحرب اللبنانية/ الإسرائيلية/ ما بعد الحربين. الاستقرار في حياة عطوي، كما في تاريخ بلدها، ظلّ مؤقتاً، إن لم نقل زائفاً. كيف يمكن أن تنتهي الحرب وتبقى حاضرة في كلّ شيء؟ في الذاكرة، في المدينة، في الأبنية المهجورة، في الفنادق المدمرة، وفي لغة الناس ومصطلحاتهم؟
حرب دائمة
الحرب في حياة الكاتبة لم تنتهِ بانتهاء الحرب الأهلية، بل رافقتها في عملها كمراسلة على خط النار. فالاستقرار ظلّ مؤقتاً، إن لم نقل زائفاً في حياة الكاتبة. وفي واحد من المشاهد، تستعيد ثناء تجربتها مع صحافية أجنبية بوجهٍ "محروق" كانت ضمن وفدٍ يُغطي العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان. وجه الصحافية "المشوّه" جرّاء قنبلة انفجرت بجانبها أثناء تغطيتها الحرب البوسنية جعلها الأكثر صلابة بين كلّ زملائها الإعلاميين. هكذا، باتت عطوي ترى الى ضعف عينها اليسرى نعمةً تسمح لها أن تشاهد المجازر بعين واحدة، وبالتالي أن تكون أقوى من غيرها في مواجهة الواقع. "هكذا يمنح الله لكل منا عاهة على قياسه. سأعرف في الحرب ما معنى ألا يرى الإنسان إلاّ نصف الأشياء، أو ما يختاره. آمنتُ بأن الله يعطي عيناً واحدة لمن يستحقّ" (ص70).
الحرب تكشف الوجوه الخفيّة للحياة. ما نراه في السلم هو فقط ما يطفو على السطح. والعمق، يتجلّى في الحروب فقط. هذا ما نستدركه ونحن نقرأ قصة أحمد، الرجل الجنوبيّ الذي فقد عائلته كلّها في مجزرة قانا. لكنّه بعد سنوات، تزوّج أخت زوجته وأنجب منها ابنة سمّاها مريم، على اسم أرملته، ثمّ ثلاثة أبناء حملوا أسماء أخوتهم الذين قضوا في المجزرة. "عائلة طبق الأصل أعاد إنتاجها من الشقيقة التوأم (...) يُشبه اشتقاق حياة أخرى... اشتقاق حياة توأم لحياة سابقة هو نوع من التعالق الإنساني، ليس خوفاً من الإندثار والإنفصال، كلا، فأن تندثر يعني أن تحيا ثانيةً بشكل آخر. وأن تنفصل يعني أن تعيش من جديد" (ص 84).
"وسواس" هو إذا نص مفتوح تسوقنا الكاتبة من خلاله الى حياةٍ لا يكتمل معناها من دون الموت، سواء أكان الموت فردياً، أم جماعياً.