نعرف أنّ مؤرخي الأدب والنقاد والباحثين في شؤون إبداعات عصر النهضة الإيطالية لم يفتهم ذلك الرابط الذي يجمع بين نصوص الإيطالي بوكاتشيو المعروفة بـ"ديكاميرون"، والليالي العربية المعروفة بـ"ألف ليلة وليلة"، مؤكدين أن بوكاتشيو عرف الليالي بالتأكيد، وأنه حين صاغ حكاياته المئة التي يتألَّف منها كتابه المعتبر إشارة الولادة للأدب الروائي الأوروبي بالمعنى الحديث للكلمة، كانت تلك الليالي العربية في باله.
لكن، بأي لغة؟ ومن أي طريق؟ يبقى هذا لغزاً لم يحله أحدٌ من الذين أكدوا دائماً أنه لا يمكن أن يكون في الأمر توارد خواطر أو دور للصدفة. بل إنّ السينمائي الإيطالي، الراحل مقتولاً في عام 1975، بيار باولو بازوليني، لم يتورّع عن التركيز على القرابة بين العملين، مضيفاً إلى ذلك قرابة أخرى لهما مع كتاب "حكايات كانتربري" للكاتب الإنجليزي تشوسر اللاحق عليهما، ومن هنا جمع الكتب الثلاثة في ثلاثيته السينمائية "ثلاثية الحياة"، لكن هذا موضوع آخر.
الحقيقة، أن ما يهمنا هنا هو التوقف عند "ديكاميرون" نفسه، مهتمين بما يمكن أن نسميه "الحكاية وراء الحكاية". وهي هنا تتشارك مع ما في خلفية "ألف ليلة وليلة" بمعنى من المعاني: تحديداً بأن الكتابين إنما ولدا من خوف مشترك من الموت.
الحكي للإفلات من الموت
فإذا كانت شهرزاد في الليالي العربية ابتكرت مئات الحكايات الشيقة، لتحكيها إلى شهريار الذي تزوّجها، وهو عازم على قتلها انتقاماً عبرها من كل النساء بسبب خيانة زوجة سابقة له، محاولة أن تسابق الزمن درءاً للموت المتربص بها ما إن يقضي الملك وطره منها كما هدّد، فكان ابتداعها الحكايات وتوقّفها في كل ليلة عند نقطة شيقة من الحكاية كي تُبقي شهريارها على ظمئه في انتظار البقية التي لن تأتيه إلا في الليلة التالية، ها هي حكايات "ديكاميرون" تولد بدورها وإن كان بشكل مختلف بعض الشيء، من الخوف من الموت، لكن ممثلاً هذه المرة بوباء الطاعون الذي كان انتشر في فلورنسا موطن الحكايات.
الحكاية التي وراء الحكاية هنا إذن، التي لم تكن الحاجة إلى معرفتها مهمة بقدر ما هي مهمة في أيامنا هذه في أي زمن آخر، وسنقول لماذا بشكل أوضح بعد سطور، هي أن عشرة شبان وشابات (ثلاثة شبان وسبع صبايا من أبناء علية القوم في فلورنسا) وجدوا أنفسهم مضطرين إلى مبارحة المدينة خوفاً من الطاعون الهاجم عليها، وكذلك من أن يضطروا إلى اللجوء داخل بيوتهم محجوراً عليهم، فغادروا إلى منطقة ريفية بعيدة عن أي إمكانية للعدوى، ثم طوال أيام "الحجر الصحي" (العشرة ومن هنا عنوان الكتاب الذي يعني حرفياً "العشرية")، وراحوا يتبارون في استنباط الحكايات إبداعاً أو تذكّراً أو جمعاً، بطريقة يكون فيها على كل واحد منهم أن يحكي حكاية في كل يوم، بحيث كان المجموع مئة حكاية هي حكايات الكتاب كما وصلتنا. ومن هنا عرف أولئك الشبان، الذين قيل كثيراً إنهم من نتاج خيال بوكاتشيو بحيث مثّل الصبيان الثلاثة منهم ثلاثة وجوه له متنوعة ومبدعة بأشكال مختلفة، بينما رمزت الصبايا السبع إلى حبيبات سابقات له سيكون من الواضح أنهن تأثرن أصلاً بما كان يحكيه لهن. وهذا الترميز يجعل من بوكاتشيو وحده واضعاً للكتاب، وربما في الفترة التي حُجر فيها عليه بفعل الطاعون، غير أن هذا التفصيل لن يعود ذا أهمية كبيرة هنا بالطبع.
بدلاً من الشكوى والنواح
المهم، أن الكاتب عرف كيف يستغلّ الحبس الاضطراري، محوّلاً إياه إلى مكان للإبداع، بدلاً من أن يجعل منه مكاناً للشكوى من العزلة والقهر واللافعل كما يحدث كثيراً في أيامنا هذه. وفي السياق قد يجدر بنا هنا وللمناسبة أن نتساءل أمام العزل الذي يعيشه مئات ملايين البشر في مدن العالم جميعاً ولأيام تتجاوز ما عُهد عن الزمن الطبيعي لأي حجر صحي، عن الأعمال الإبداعية التي ستنتج عن ذلك كله، عن قيمتها؟ وعن نظرة متلقي المستقبل لها؟ ثم باختصار، عما إن لم يكن هذا العزل فرصة يُستعاد فيها الإبداع الحقيقي الناتج عن التأمل الفردي، فيعود إلى مكانة ربما يكون قد فقدها خلال الأزمان المنقضية؟ واضح أننا هنا أمام سؤال فولتيري جدير ببطل برواية "كانديد" لهذا الفيلسوف الفرنسي، لكنه سؤال سنحتاج إلى وقت قبل أن نعرف جوابه علماً أن هذا الجواب لا يمكنه إلا أن يكون عملياً! ومهما يكن من أمر هنا، قد يكون من المفيد، بعد كل شيء، أن نعود هنا إلى الكتاب الذي نصفه هنا بأنه وليد الحجر الصحي.
لدينا إذن بكل بساطة: ثلاثة رجال وسبع نساء يهربون خارج مدينة فلورنسا، أزهى المدن الأوروبية في ذلك الزمان، لمجرد الإفلات من الوباء (الطاعون) يصلون إلى مكان يرون أنه آمن، لكنهم لا يجدون ما يفعلون، فيروحون راوين لبعضهم بعضاً حكايات تشغل وقتهم: خلال عشرة أيام يروي كل واحد منهم عشر حكايات، ويكون المجموع مئة حكاية. "ألف ليلة وليلة" في إطارها العام ليست بعيدة هنا: الحكي درءاً للخطر والموت، والحكي تأسيساً لعالم جديد في عمل لا يزال حتى اليوم حياً، بعد أن أسس للأدب الإيطالي، وللقص العالمي، وأيضاً للنزعة الإنسانية في الأدب.
حين سكتت الكنيسة مرغمة
ذلك أن ما ميّز نصوص "ديكاميرون" عمّا سبقها في الآداب الأوروبية، في تلك الأزمان، كان انطلاقها من حكايات الحياة اليومية ومغامرات الإنسان وتشابكها، ونعرف أن ذلك التيار الذي وقفت الكنيسة والمحافظون من أعيان المجتمع ضده منذ انطلق ما إن اكتشف الناس أن في إمكانهم، إلى جانب اهتمامهم بالشؤون الدينية والعبادة، أن يلتفتوا إلى حيواتهم الخاصة أيضاً فيكرسوا لها اهتماماتهم، وجزءاً من وقتهم. وربما لا نكون هنا في حاجة زائدة على اللزوم للتذكير بأن هذا التيار الذي ساد أول الأمر لدى المثقفين، فكان أن سكتت عنه الكنيسة غافلة عن "أخطار عدواه" سرعان ما حاولت تلك الكنيسة احتواءه ما إن سرت تلك العدوى في أوساط الناس العاديين (العامّة) فانطلقت الكنيسة تحاربه. ويمكننا هنا بالطبع القول إنّ مجرد أن يكتب بوكاتشيو حكاياته بذهنية ذلك التيار كان ولا يزال يعتبر فعل مقاومة من أجل تنوير الإنسان وسعادته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتب بوكاتشيو خلال حياته كثيراً من النصوص النثرية والشعرية، وهو كرَّس جزءاً كبيراً من كتاباته لتمجيد "أستاذه" دانتي، وتخليد ذكراه، لكن "ديكاميرون" تبقى أهم أعماله وأكثرها بقاءً، وهي وحدها ضمنت له أن يعتبر مع بترارك ودانتي الرائد الأكبر للنزعة الإنسانية وباعث الأدب الإيطالي.
واللافت بالنسبة إلينا أن بوكاتشيو استقى إلهامه على ما يبدو، من نصوص النثر العربي في العصر الوسيط، بل إنه جعل بعض حكايات "ديكاميرون" يتمحور حول شخصيات وأحداث عربية وإسلامية، ومن ذلك الحكاية المكرّسة لذكرى صلاح الدين، الذي يبدو هنا في صورة زاهية، فارساً نبيلاً، صورة لم يكن الأدب الأوروبي عهدها من قبل، بالتالي فإن الحكواتية العشرة يبدون لنا اليوم أول الإنسانيين في الأدب، كما يعبّرون في ما يحكونه عن كوزموبوليتية مستغربة في ذلك الزمان. فالحكايات التي يروونها مستقاة من مصادر كثيرة: من الحكايات الشرقية، ومن الروايات الشعبية الفرنسية، ومن حكايات الفرسان الرومانيين، ومن الأغاني العاطفية ومغامرات أفاقي صقلية، وأساطير الشمال... إلخ.
مغامرة ونزق وتطرف
على هذه الشاكلة، كوّن بوكاتشيو تلك النصوص التي يختبئ وراءها حسّ المغامرة والنزق والتطرف، بصفته إحساساً أولياً وعميقاً بإنسانية الإنسان. من هنا، ذلك الخليط الذي نراه بين كبار القوم والطباخين، بين المحظيات وفتيات الهوى، وبين فارس مسلم مثل صلاح الدين وسيد عراك مثل جيابيليتو دي براتو. كل من هؤلاء له حكايته وعواطفه، وكل منهم له تعاطيه مع الآخرين، ودائماً من موقع يجعل السلوك محدداً بالظرف والبيئة.
ومن هنا ما قيل دائماً من أن الأدب (العالمي والأوروبي خصوصاً) بعد حكايات "ديكاميرون" لم يكن هو نفسه كما كان قبل الحكايات. في اختصار: أَنسَن بوكاتشيو الأدب، وجعله خارج إطار الانحصار داخل حدود كانت معينة في السابق، مثل الحدود القومية والدينية وما شابه.
ولد جيوفاني بوكاتشيو عام 1313 في باريس، لأب إيطالي يعمل في المصارف، وأم فرنسية قيل أحياناً إنها كانت من علية القوم في العاصمة الفرنسية. منذ طفولته بدأ بوكاتشيو يتدرب على التجارة. غير أنّ والده سرعان ما أرسله إلى نابولي، ليعيش في بلاط ملكها روبير دانجو، وهناك أغرم بابنة الملك، واختلط بمن في البلاط من مفكرين وعلماء، وراح يقرأ لهم ويحادثهم، ويسجل كل ما يلفت انتباهه، وهذا كله نجده لاحقاً معكوساً في حكايات "ديكاميرون".