من المؤكد أن كُثراً من الذين رأوا العام الماضي كتاباً عنوانه "الفن الحديث" يظهر بشكل مباغت وسط مجموعة من طبعات جديدة لكتب تحمل اسم الكاتب جوريس كارل هويسمان، اختلط الأمر عليهم بعض الشيء، فهم لئن كانوا يعرفون الكاتب منذ سنوات الدراسة باعتباره واحداً من كلاسيكيي الأدب الفرنسي رغم هولنديّة اسمه، فإن قلة منهم كانت تتصور أن له كتاباً في هذا الموضوع، ناسية أن كثراً من كتاب الرواية والشعر الكبار كانوا عند الحقبة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين يحرصون على أن يدلوا بدلوهم في الكتابة عن ذلك التجديد في الفن التشكيلي، وغيره أحياناً، جاعلاً منه مادة للتأمل والفكر الفلسفي، بينهم بودلير وأبولينير، واللائحة تطول. والحال أن الاهتمام بكتاب هويسمان هذا لم يأت يومها اعتباطاً، وإنما ضمن إطار عودة الكاتب إلى الواجهة بعد نسيان طويل.
ولنذكر هنا أن هويسمان كان معروفاً ومقروءاً على نطاق واسع عند بدايات القرن العشرين وليس في فرنسا وحدها. ولنرجع هنا بذاكرتنا إلى ذات صفحة في رواية أوسكار وايلد الشهيرة «صورة دوريان غراي» حيث يحدثنا المؤلف عن "كتاب أصفر" يقدمه اللورد هنري دوتون إلى دوريان، ويرينا كيف يلعب هذا الكتاب دوراً في التطور الذي يطرأ على بطل الرواية. و"الكتاب الأصفر" ليس سوى رواية "عكس السير" لهويسمان، الذي حين توفي عام 1907 حزنت الأوساط الأدبية الفرنسية كلها لرحيله، قبل أن يبدأ النسيان يطويه خلال السنوات التالية، ربما وصولاً إلى العام الماضي حيث كانت تلك الاحتفالات الصاخبة به، وإعادة نشر العديد من أعماله في طبعات شعبية.
كان هويسمان، على أي حال، ابناً حقيقياً لعصره ولتقلباته، فهو الذي بدأ كتابته متوجهاً صوب نزعة "طبيعية" تقربه من إميل زولا، سرعان ما راح يتجه مع "عكس السير" صوب نزعة جمالية خالصة، ليصبح من أشرس أعداء النزعة الطبيعية، بل حتى من متبنّي نزعة ماورائية غامضة. وكان ذلك التقلب مرآة صادقة للتقلب الذي عرفته "الموضات" الأدبية في فرنسا، بلده، في ذلك الحين.
والحقيقة أن كتابه "الفن الحديث" يكاد يكون المرآة الأصدق لتلك التقلبات، ناهيك عن أنه اعتبر في حينها واحداً من أكثر الكتب تشدداً في نظرته إلى الفن ودوره. هذا مع أن اهتمامات الكتاب، الذي كان نُشر أولاً على شكل دراسات نقدية في عدد من المجلات مثل "فولتير" و"المجلة الأدبية والفنية"، لا تتعدى أربعة أو خمسة معارض أُقيمت بين 1879 و1883، عام صدور الكتاب وهي معارض رسمية (79،80 و81) ومعارض لمستقلين. لكن مفعول نقد هويسمان ومواقفه تجاوزت تلك المواعيد لتلقي بظلالها على مجمل الحركة الفنية التي كانت تعيش أشد مراحل صخبها في ذلك الحين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفن الرسمي يبتذل ذوق الجمهور
منذ البداية يشدد هويسمان ضغطه على ما سمّاه الفن الرسمي، الذي "تفسد ابتذاليته ذوق الجمهور"، ويرى في المقابل أن المحدثين (الانطباعيين بالنسبة إليه)، هم وحدهم الذين يعطون الجمهور ما يعتبره خشبة خلاص فنية. ويخص بمديحه ديغا، الذي يرى فيه "أملاً كبيراً للفن الجديد بالمزايا البصرية التي يتسم به عمله".
وبعد حين نرى هويسمان يضيف إلى ديغا اسمين آخرين، هما مانيه وكوربيه، حيث يفتي بأن الأول يركز همّه على الموضوع، فيما يشتغل الثاني على قيم إنسانية لا لبس فيها في أعماله، معتبرا الاثنين امتداداً لبيلاسكويث وغويا وإل غريكو. كما للفن الياباني الذي كان يشع حديثاً على الساحة الفرنسية. ولئن كان كاتبنا رصد هذا كله في صالونات عامي 1979 و1980، فإن ما سوف يرصده عام 1981، لا سيما في الصالون الرسمي، سيثير استياءه حيث بات يبدو له أن "ثمة نزعة عسكرية وسياسية باتت تغزو الفن"، ليعبر أكثر وأكثر عن مشاهد سياسية "ليست في حاجة إليه". بل هي في حاجة إلى التجديدات التي "يُحدثها ديغا نفسه في منحوتاته"، ولكن كذلك "غوغان في عارياته الاستوائيات، بخاصة بيسارو بمشاهده الطبيعية".
ويقوده هذا، لا سيما في أحد ملاحق الكتاب إلى التوقف عند رسم الطبيعة من مانيه إلى مونيه، مروراً خاصة برينوار، وكل هذا بأسلوب أدبي صارم بدا فيه (الكاتب - الناقد) أقرب إلى أن يكون من المنادين بالفن البصري الخالص؛ الفن "الذي يحتفل بكل ما هو بصري، وبكل ما هو إنسانيّ في الوقت نفسه"، ما جعل كتاب "الفن الحديث" واحداً من النصوص الرئيسة التي مهدت لألوف الكتب التي ستصدر عن الانطباعية لاحقاً، لا سيما بعدما نُسي احتفاء هويسمان بها لأكثر من قرن.
البؤس وعبثية الوجود
ولد هويسمان بباريس عام 1848 ابناً لوالد ينحدر من أسرة من الفنانين الفلاماند. في بداياته درس الحقوق، ثم ما لبث أن ترك الجامعة ليلتحق كموظف بوزارة الداخلية. وبعد تجربته في الجندية ترك العمل العسكري وجال في الشمال الأوروبي ليعود من هناك وينشر مجموعة شعرية أولى عام 1874، تبعها بأول رواية كتبها بعنوان «مارث، حكاية فتاة».
كانت نزعة الرواية طبيعية، فلفتت نظر زولا، الذي ضم هويسمان إلى جماعته، في وقت انغمس الأخير بحياة الجماعة لدرجة أنه أسهم بقصة قصيرة، إلى جانب موباسان وآخرين، في مجموعة «عشيّات ميدان» التي كانت أشبه ببيان يعلن عن وجود تلك الجماعة الأدبية. غير أن هويسمان سرعان ما راح يبدو في كتاباته التالية منحرفاً عن روح الجماعة الطبيعية. صحيح أنه صوّر البؤس وتفاصيل الحياة الصغيرة مثلهم، وصوّر العلاقات الاجتماعية على شاكلتهم، لكن ذلك كان سرعان ما يتخذ لديه دلالة على عبثية الوجود وانغلاق الآفاق، وهو أمر كان يتناقض تماماً مع إقبال "الطبيعيين" على العيش ورغبتهم في تصوير البؤس من أجل إبدال مصيره. وهكذا راحت الصراعات تنمو بين الجانبين، حتى كانت القطيعة النهائية في العالم 1884 حين نشر هويسمان كتابه الأشهر "عكس السير"، حيث نجد بطل الرواية "دي استتس" منهاراً يائساً عاجزاً عن العثور على أي وسيلة للخروج من مأزق العيش، باستثناء الانهيار العصبي والنفساني والبحث عن خيالات ميتة. وهكذا اعتبرت تلك الرواية بداية لتيار الرمزية الذي كان يحاول، تحت حمى موريس باريس أن ينهض على أنقاض النزعة الطبيعية.
نحو الظواهر اللاطبيعية
مهما يكن، فإن تلك الفترة بالذات كانت الفترة التي شهدت بداية اهتمام هويسمان بالظواهر اللاطبيعية وبشتى ضروب التنجيم والسحر والشعوذة. حيث لا نراه فقط يعبر عن كل ذلك في كتاباته التالية، بل نراه أيضاً زائراً مخلصاً لشتى أنواع السحرة والمنجمين.
لقد بدا هويسمان في ذلك الحين وكأنه اكتشف عالماً لا يريد أن يتركه يفلت من بين يديه. وعبّر عن ذلك في كتابه «هناك» (1891). والأغرب من هذا أن الكاتب الذي بدأ عقلانياً سرعان ما أضحى، تحت تأثير قس غريب الأطوار تعرف إليه، فريسةً لكل أصناف المخاوف، حيث راح يمضي أيامه وهو يعبّر عن خوفه من مخاطر وتهديدات تتربص به. وقاده ذلك كله إلى الغوص في المسيحية الكاثوليكية، وهو ابن الأصول البروتستانتية، حيث نراه يعلن اعتناقه الكاثوليكية في 1896، ما أثار حفيظة الدوائر الأدبية الباريسية في ذلك الحين.
ولم يكتف هويسمان بذلك، بل توجه ليعيش عيش النساك بالقرب من دير "ليغوجي"، لكنه سرعان ما عاد إلى باريس ولجأ إلى دير الرهبان البندكتيين، وراح يكتب أعمالاً يطغى عليها الطابع الديني من دون أن تتنازل، عن التعبيرات الجمالية التي رافقت كتابته منذ البدايات. وهكذا، لئن كان اهتمامه السابق بالفن قد دفعه لاكتشاف رسامين كانوا شبه مجهولين مثل سيزان وديغا وسورا وبيسارو، فإنه ظل على تعبده للفن الآخر، ولكن من خلال نصوص رائعة كتبها عن أهم الكاتدرائيات، وفي مقدمتها كاتدرائية شارتر.
توفي هويسمان عام 1907، في زمن كانت الحياة الأدبية والفنية قد تخطته. وظلّ يبدو شبه منسي إلا من غلاة الأكاديميين وطلاب المدارس الثانوية الذين كان يُفرض عليهم، حتى العام الماضي حين "عاد إلى الواجهات من جديد" وراحت تصدر عنه الكتب والدراسات.