108 أعوام من الزمن مضت على كارثة آر إم إس تيتانيك سفينة نقل البضائع والركاب الإنجليزية التي ابتلعتها مياه المحيط الأطلنطي صباح يوم 15 أبريل (نيسان) عام 1912، وما زال بإمكاننا التنقيب عن مزيد من الأسرار المدفونة تحت عمق 3800 متراً، باحثين عن قصص لا تنتهي في الحب، الخوف والتضحية، وفي الأمل بالنجاة وفقدانه.
عظمة الإنسان وقوة القدر
نبدأ قصتنا من الصفحات الأولى لأرشيف المأساة، حين طلبت شركة بريطانيا للنقل البحري (وايت ستار لاين) في العام 1908 من حوض بناء السفن هارلاند وولف في أيرلندا الشمالية، صناعة أضخم ناقلة بحرية بمواصفات خيالية حُدّت بطول 26 متراً وعرض 28 متراً، وبوزن يفوق الـ52 طناً وبارتفاع حوالي 53 متراً أي ما يعادل مبنى مكوناً من 11 طابقاً.
قدّرت التكلفة النهائية لبناء السفينة بـ 7.5 مليون دولار. وتمّ بناؤها لتتسع لـ 3.547 شخصاً تقريباً بين ركاب وأفراد طاقم، وفق ثلاث مستويات هي: الدرجة الأولى، الدرجة الثانية، والدرجة الثالثة بما يضمن التوزّع الطبقي الاجتماعي على متنها. وما هو ليس مبالغ فيه أن مناطق درجتها الأولى تضمّنت من الفخامة والرفاهية ما يضاهي أفخم القصور حول العالم كي تليق بنخبة أثرياء أميركا وبريطانيا الذين كان من بينهم الأميركي بنجامين غاغينهيم والبريطاني الكولونيل جون جاكوب استور. مع العلم أن التصاميم الداخلية للسفينة كانت مستوحاة من فندق الريتز في لندن.
أما اسم "تيتانيك" فقد استوحي من اسم "Τiτάν" من الميثيولوجيا الإغريقية، ومعناه الجبابرة المنحدرين من سلالة الآلهة الأقوياء. إنه اسم يناسب أسطورة عكست عظمة الإنسان وقدرته على الإبداع والتشييد، واستخدم فيها أشهر المهنسين والمبتكرين، أقوى التقنيات وأكثرها تطوراً في تاريخ صناعة الناقلات البحرية وسط حملة دعائية وإعلامية دفعت 100 ألف شخص ليشهدوا إطلاقها يوم 31 مايو (أيار) عام 1911.
لكن وللأسف، يبدو المثل الشهير "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن" مناسباً جداً لقصة التيتانيك، فبعد أن انطلقت بقيادة القبطان إدوارد سميث بتاريخ 10 أبريل (نيسان) 1912 في رحلتها الأولى من لندن إلى نيويورك عبر المحيط الأطلسي، واجهت السفينة أسوأ الأقدار غير المتوقعة على الإطلاق. ومن كان يتخيّل أن الطبيعة ستقرّر أن تنهي أسطورة التيتانيك التي لا تغرق ـ حسب مصمميها وصانعيها ـ خلال أربعة أيام فقط، لتواجه جبلاً جليدياً يجعل منها أولى الكوارث في تاريخ البشرية الحديث!؟. كانت كارثة من أشد الكوارث دموية في زمن السلم، شكّلت صدمة حقيقية للعالم نظراً إلى أن السفينة جُهّزت بأنظمة تكنولوجيا متقدمة جداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الغرق البطيء عزّز المعايير الاجتماعية
وما لم يذكره كثيرون، أكّدته أوديت نحاس في كتابها "أكبر كوارث القرن العشرين" حيث أشارت إلى أن رحلة التيتانيك كانت أشبه بمأساة منذ بدايتها. فما إن غادرت الباخرة الضخمة التي تبلغ حمولتها 46 ألفاً و329 طناً قاعدتها البحرية في "سوزمتن" إذا بها تجتاز سفينة نقل راسية تدعى "النيويورك". فجأة سُمعت أصوات انفجارات قوية تعود إلى انقطاع حبال الإرساء التي بدأت تتفكك كخيوط رفيعة ثم بدأت الباخرتان تتقاربان بشكل خطير. توقفت التيانيك في الوقت المناسب وتوقف معها "الرشف" الغريب وأعاد القاطرون "النيويورك" إلى المرفأ. وكادت الحادثة نفسها تتكرر بعد دقائق قليلة ولكن الباخرة "توتونيك" سحبت القلس واستدارت حتى تتمكن التيتانيك من المرور.
أما بما يخصّ حادثة الغرق في اليوم الرابع من الرحلة، ذكرت نحاس أن لورانس بيزلي وهو أحد الناجين، أكّد أنه لم يسمع صوت اصطدام ولم يشعر بصدمة أو اهتزاز بسيط. وبالرغم من برودة الطقس وقف بعض المسافرين على جسر الباخرة يلعبون بالثلج الذي حمله جبل الجليد المميت إليهم لحظة الاصطدام. وأنه في إحدى الصالات المريحة والدافئة وقف مسافر ورفع كأسه لصديقه طالباً منه الصعود على متن السفينة ليجد له قطعة من الثلج يضيفها إلى مشروبه.
تطلّب الأمر وقتاً ليفهم الجميع أن الارتطام كان خطيراً وقاتلاً. وعندما لاحظ القبطان "سميث" أن الأضرار جسيمة طلب من الميكانيكيين جاك فيليبس وهارولد برايد التأهّب لإرسال نداءات استغاثة. وبعد إدراكه أن التيتانيك تغرق شيئاً فشيئاً، أي بعد 25 دقيقة من الاصطدام، أمر بإطلاق زوارق الإنقاذ التي كانت تكفي ل52 % فقط من الأشخاص على متنها، ثم عاد بعد عشر دقائق إلى قاعة الإرسال ليطلب من الميكانيكيين أن يطلقا نداء الاستغاثة، قائلاً: "قد تكون فرصتنا الأخيرة".
وفقاً لنحاس تردّد الناس في البداية قبل مغادرة الباخرة التي بدت أمتن من الزوارق الهزيلة. كان جميع الركاب يتصرفون بهدوء. لم تحدث أية بلبلة كتلك التي تتسبب بسقوط العديد من الأموات في حالات الغرق الأخرى، وذلك رغم الحادث البسيط والمؤذي الذي وقع بين الركاب واستدعى تدخل الضابط. وما إن بدأت الزوارق تصل إلى الماء، راحت مجموعة من الموسيقيين المجتمعين على متن الباخرة تعزف "أقرب إليك يا إلهي". فبدأ بعض الركاب ينشدون معهم فيما انحنى البعض الآخر فوق درابزين الباخرة ليروا للمرة الأخيرة الوجوه التي أحبّوها والتي تختفي شيئاً فشيئاً في الظلام.
استدعى سلوك ركاب وطاقم التايتنك، العلماء حول العالم ليبحثوا في تمظهراته وقت حادثة الغرق. إحدى الدراسات عنوانها "السلوك في ظل الظروف القاسية: كارثة تيتانيك" نشرت في مجلة "المنظورات الاقتصادية" عام 2011، حاولت تقديم الأدلة حول كيفية تصرف الأشخاص في ظروف مشابهة مهدّدة للحياة. الافتراض الشائع أنه في مثل هذه المواقف، سوف تسود ردود الفعل ذات المصلحة الذاتية ومن المتوقع أن يختفي التماسك الاجتماعي خاصة وأن الفشل في تأمين مقعد في قارب نجاة يكفل الموت. لكن واعتماداً على منهج التحليل الاقتصادي باستخدام أدوات قياس علمية، خلصت الدراسة إلى أن الغرق البطيء للتيتانيك، سمح بظهور أنماط سلوكية محدّدة بأعراف اجتماعية كانت سائدة وقتها. مثل أفضلية إجلاء ركاب الطبقات العليا، وأولوية إنقاذ النساء والأطفال وتوفير قوارب النجاة من أجلهم.
وتذكر الدارسة أن نسبة الغرقى كانت أكبر بين البريطانيين لأنهم كانوا على ثقة تامة بأن هذه السفينة الإنجليزية الخارقة لن تغرق أبداً. فرفضوا الإجلاء وصمّموا على البقاء على متنها.
أرواح الضحايا لم تهدأ بعد!
الموت في بحر أو محيط يختلف حتماً عن الموت على أرض صلبة. الرحيل في المياه مفزع أكثر، يضاعف من خوفك من المجهول الذي تفرضه فكرة الموت، ذلك أن القاع المظلم قد يكون أقصى درجات المجهول.
عند هذه النقطة، تغدو كلمة "رعب" وما يرادفها من "ذعر" و"خوف"، فاشلة في توصيف ساعات الكارثة الحتمية. إنها تجربة تختلف عن الموت برصاصة تخترق رأسك أو قلبك، أو بحادث سير أو بتفجير أو بغيرها من طرق مفارقة الحياة المباغتة. المأساة في التيتانيك أن ركابها كان معهم من الوقت الكثير بينما هم مدركين وواعين أنهم سيضيعون في مجهول لا يرحم. وفي أفضل حالاتهم، إن نجوا، هم مضطرون لمفارقة أحبة لهم.
يؤمن كثيرون بأن من يموت في البحار والمحيطات لا تهدأ روحه أبداً، تظلّ تحوم وتتقلّب مع تقلّب الموج باحثةً عن مرسى يكون ملاذها الأخير. تذكرني هذه الفكرة، بخبر كنت قد قرأته قبل عامين تقريباً عن بيع مرآة تايتينك "المسكونة" في مزادٍ علني. إنها مرآة القبطان إدوارد سميث الذي كان قد نظر فيها آخر مرة قبل أن يغادر منزله نحو رحلته الأولى والأخيرة في تايتينك. حيث أكّد معظم أفراد العائلة ممن ورثوا المرآة على مدى 100 عام وأكثر، أنهم كانوا يرون ملامح وجه القبطان في نظرته الأخيرة لها..
من بين الأرواح المعذبة في قاع الأطلنطي، أرواح عربٍ استقلّوها لأسباب مختلفة ومعظمهم من أبناء الجنسية اللبنانية. إلا أنه كان من الصعب معرفة جنسياتهم بعد الحادثة مباشرة، لأن أسماءهم ضمن قوائم الركاب اختلفت كتابتها باللغة الإنجليزية عما هي عليه باللغة العربية. وهو ما يمكن أن نسمّيه أو نطلق عليه مجازاً مصطلح "الموت مرتان"، الأولى هي الموت الحقيقي حيث الروح تخرج من الجسد، والثانية هي موت قهري تلا الأولى وسببه نتيجة عدم الاعتراف بوجودك أصلاً، ليتم الاعتراف بعدمه. بالإضافة، طبعاً، إلى قهرك بأن تموت في بلادٍ ليست بلادك سافرت إليها بحثاً عن حياةٍ أجمل، فإذا بها تفاجئك بالموت.
وفي أكتوبر 2017 قام فنانون تشكيليون لبنانيون برسم 26 لوحة ضمن معرض بعنوان "التيتانيك" في منطقة عالية في لبنان، من أجل تكريم عشرات اللبنانيين المهاجرين الذين كانوا في الرحلة المنكوبة، سواء من نجا منهم أو من غرق مع بقية ضحاياها.
وباء كورونا أحبط إحياء الكارثة
طالت جائحة فيروس كورونا ذكرى غرق التيتانيك هذا العام، حيث تأجّل معرض La Cité de la Mer الذي كان من المفترض افتتاحه قبل أيام في شيربورغ ـ فرنسا، متضمناً 57 قطعة تمّ التنقيب عنها واستردادها من حطام السفينة في قاع المحيط. المقتنيات هي مجموعة أغراض المسافرين الأوروبيين الذين استقلّوا السفينة خلال توقفها في ميناء شيربورغ.
وبحسب البيان الذي أصدره برنارد كوفين الرئيس التنفيذي لسيتي دو لا مير لوسائل الإعلام، تمّ تأجيل الافتتاح إلى موعد غير محدد بعد، مؤكداً أن الأغراض كانت ستصل من أتلانتا في ولاية جورجيا الأمريكية إلى فرنسا نهاية شهر مارس الماضي، لكنهم أوقفوا شحنها استجابة لخطة احتواء عدوى كورونا.
وبسبب الظروف الحالية أيضاً، أعادت المطربة العالمية سيلين ديون كتابة كلمات أغنيتها لفيلم التيتانيك التي فازت بها بالأوسكار My heart will go on، لتساعد في نشر تعاليم السلامة والوقاية من فيروس مرض كوفيد 19. فقد كتبت على حساباتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي: "أينما تكون، قريب أو بعيد، تأكد أنك تحافظ على مسافة آمنة بينك وبين الآخرين".
للمأساة وجوه كثيرة
بات من الصعب التمييز من النظرة الأولى، أن الصور الموجودة بين أيدينا حالياً للتايتنك هي صور فوتوغرافية حقيقية من مصادر أرشيف الكارثة، أم أنها تصاميم جرافيكية أو لوحات تشكيلية. إذ جسّد عدد من الفنانين التشكيليين خلال قرن وأكثر، مأساة السفينة الخارقة بالخطوط والألوان، حتى بدا بعضها كما لو كان نسخة صبق الأصل. أشهر هؤلاء هو الفنان الأميركي كين مارشال أول من صنع أعمالا تحاكي التيتانيك في العالم، واستطاع أن يقدّم في لوحاته صورة واقعية للسفينة مستفيداً من خصائص الهندسة والفن، ما جعل اللوحة الواحدة تبدو كما لو أنها لقطة مجتزأة من فيلم سينمائي ما.
درامياً وسينمائياً، لم يكن فيلم هوليوود "تيتانيك" الصادر عام 1997 من تأليف وإخراج جيمس كاميرون ومن بطولة ليوناردو ديكابريو وكيت وينسليت، هو الوحيد الذي حاكى درامياً غرق السفينة الأسطورية. لكنّه ومن دون شك كان الأشهر، حيث أنتج بتكلفة 200 مليون دولار وحصد 11 جائزة أوسكار.
وما لا يعرفه البعض أن العديد من الأعمال الدرامية السينمائية والتلفزيونية وحتى أعمال الرسوم المتحركة، قد تحدّثت عن تلك الكارثة التي تنبّأت بكوارث القرن العشرين اللاحقة. وكان أولى تلك الأعمال الفيلم الأميركي القصير "saved from titanic" عام 1912 مثّل فيه بعض الناجين من حادثة الغرق أدوراهم صامتين تماماً.
وبالنظر إلى ما تقدّم من أعمال، ومن باب المنطق كذلك، نؤكّد أنه لا يمكن لأي عمل مهما اتسعت رؤيته، أن يحيط بكامل الملحمة ويتناول كافة خيوطها وأحداثها ضمن سياقٍ درامي واحد. ففي كل ركن على متن التيتانيك حكايا ما زال بالإمكان روايتها برؤى جديدة، ومعظمها لم يروَ بعد. وما بين الرومانسية في الأعمال الروائية التي تجمع الواقعي والمتخيل في آن، وبين الوثائقي المهتم بتفكيك الأحجية والتقصّي وراء مزيد من الحقائق في صندوقها الأسود، ثمة سيناريوهات لم تملّ من التطرق إلى هذه المأساة طيلة قرن وأكثر من التاريخ البشري. فمع غرق ما يفوق الـ 1400 شخصاً من حوالي 2200 معظمهم من رجال الطاقم والذكور، توجد، بكل تأكيد، حكايا كثيرة ضاع بعضها معهم، بينما ما زال البعض الآخر ينتظر من يرويه.