إذا كانت مقولة النخب تدل على مجموع الأشخاص الذين يعدون الأكثر كفاءة في مجالات السياسة والثقافة والعلم وسواها، وإذا كانت هذه المقولة تقوم على معيار قوة التأثير والنفوذ، فهي تعني أن من المفروض على هذه النخب أن تؤدي أدواراً رئيسية في التغيير السياسي والاجتماعي، وفي الإصلاح وبناء الدولة وترسيخ الوعي العام بقضايا جوهرية في مسار الأفراد والجماعات، والدعوة إلى تحقيق الديمقراطية والعدالة، والدفاع عن قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان. غير أن النخب العربية لم تتمكن من أداء هذه الأدوار ولا من تحقيق غاياتها على مستويات عدة. لم يتحقق الإصلاح السياسي والاجتماعي في العالم العربي، ولم يتم بناء الدولة الوطنية ولم يجد التغيير سبيلاً إلى السلطة والمجتمع، بل إن الأزمات العربية راحت تتفاقم عقداً تلو عقد، جارفة معها الآمال والطموحات الكثيرة. وليس مستغرباً أن ترتفع اليوم، في عصرنا الراهن، عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصوات تنعى هذه النخب متحدثة عن تراجعها بل عن انحلالها وسقوط أدوارها، متمسكة بحجج وذرائع عدة، في مقدمها عجز هذه النخب عن الانصهار في النسيج الاجتماعي والفكري للأكثرية، وانعزالها في ما يشبه "الأبراج العاجية" التي حالت دون تواصلها مع القاعدة، حتى شكلت هذه النخب "طبقة" تعيش على حدة وتفكر في معزل عن التحولات التي يشهدها المجتمع. ولا يمكن التغاضي عن مسألة إغراق هذه النخب في التنظير والأدلجة اللذين أوقعاها في حال من الاغتراب عن الواقع والتاريخ. وبدت المقترحات أو الحلول إن أمكن القول، التي تبنتها النخب بعيدة كل البعد من إمكانات التطبيق. وهذا ما أوجد هوة بين النخب والشعوب، بين النخب والواقع الراهن والمرتجى في آن واحد. وجاء الربيع العربي الذي كان من المتوقع أن يحمل بشائر التغيير، لينتهي إلى أحوال مأسوية وخراب يفوق التصور. وأكد هذا الربيع الذي استحال خريفاً، فشل هذه النخب في مشاريعها ومخططاتها وتوقعاتها، وكشف حال الانفصام الذي تعيشه في العمق. هنا تحقيق أجرته "اندبندنت عربية" مستطلعة آراء مثقفين عرب، من مفكرين وكتّاب، حول الأزمة التي تشهدها أوساط النخب العربية.
محمد الرميحي: أزمة دولة لا تملك مشروعاً حديثاً
في البداية، إن مفهوم النخب العربية مفهوم ملتبس، فماذا نعني بالنخب؟ هناك نخب اقتصادية ونخب عسكرية ونخب رياضية... فإن كان المقصود هو النخب الثقافية، والتي يوجد انقطاع بينها وبين الجمهور، فإن الأصل في الظاهرة هو فقر في القراءة لدى العرب. ومن الأرقام الصادمة والمتداولة أن العربي يقرأ في المتوسط ٦ دقائق سنوياً، في حين أن الغربي في شكل عام يقرأ ٢٠٠ ساعة، وإن الطفل الأميركي يقرأ ٦ دقائق في اليوم والطفل العربي يقرأ ٧ دقائق في السنة. اذاً الانقطاع بين المثقف (النخبوي) إن صحّ التعبير، وبين الجمهور يقع في "الهوة القرائية" فكيف يمكن أن يتواصل المثقف مع جمهور لا يقرأ. والفكرة المتداولة أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من الجمهور العربي لا يقرأ، فكرة يجب إعادة طرحها، لأن الجمهور العربي في شكل عام لا يقرأ حتى قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي. يرى البعض أن هناك معوقات للثقافة والقراءة، منها معوق "الفقر" ومعوق "الرفاه الاقتصادي"، كل يلعب دوراً في فقر القراءة العربية، لكنّ اختبار ذلك عن قرب يحمل نفي الفكرة. فهناك شعوب أفقر من بعض العرب تقرأ وهناك شعوب أغنى من بعض العرب تقرأ. المشكلة إذاً ثقافية بمعنى أن لا المدرسة العربية ولا الأسرة العربية مهتمتان بموضوع القراءة أو تضعانها في أولوياتها. لذلك يترك خريجونا الجامعة وهم "أميون في القراءة"، وبالتالي ضحالة في التفكير، فما بالك بالآخرين الذين هم أقل في سلم التعليم. العلاقة بين القراءة والمعرفة علاقة عضوية، وهي السبيل الوحيد لتحرير العقول واكتساب المعرفة وفهم الذات والآخر، إلا أن فقر القراءة يجعل من المثقفين العرب (وهم قلة) غير قادرين على التواصل مع الجمهور الأوسع. كما أن نقص القراءة يسبب ضعفاً في تكوين المثقف النخبوي، فكثير من أهل النخبة بالمعنى العام للكلمة تنقصهم المعرفة شبه الموسوعية، فتضيع عندهم الموضوعية ويسقطون في حبائل الأيديولوجيا، معتبرين ذلك ثقافة، أو في حبائل نقص المعرفة فيدخلون في جدل بسبب نقص شديد في المنهج التفكيري السليم. فأزمة النخب العربية بهذا المعنى هي أزمة مجتمع وأزمة دولة فاقدة للمشروع الحديث والمسيسة حتى العظم بأفكار إما طوباوية أو دينية أو مذهبية.
عبد الخالق عبد الله: خندق العالم الافتراضي
النخبة بطبيعتها نخبوية في تفكيرها وسلوكها وإلا لما سُميت نخبة تميزاً لها عن العامة أو الجمهور. حتى في العالم الواقعي هناك فجوة بين النخبة ثقافية كانت أم سياسية والجمهور. وهذه الفجوة تتسع حيناً وتنكمش أحياناً. وهذه الفجوة قد تعالج ببناء جسور ذهبية صلبة وأخرى خشبية هشة تتقطع من أول احتكاك.
ما حدث ويحدث في العالم الواقعي يحدث في العالم الافتراضي والتواصل الاجتماعي حيث حدث تخندق وليس فجوة يسهل تجسيرها. تخندق قادة الفكر والثقافة في العالم الافتراضي ليس في صالح نخبة الثقافة ولا الجمهور والنخبة تتحمل المسؤولية كاملة. إن عزوف وتردّد النخبة الثقافية في الحضور في التواصل الاجتماعي مرده إلى النظرة الدونية من المثقفين إلى وسائل التواصل الاجتماعي. وهي نظرة مخطئة أدت إلى انسحاب المثقف بعيداً من أجواء العالم الافتراضي الذي يعج بالحيوية وجاء ليبقى. وإحدى نتائج عزوف المثقف ترك التواصل الاجتماعي لثقافة التفاهة والبذاءة السائدة في الخطاب التويتري عربياً وعالمياً، بحيث تظهر الدراسة أن تويتر في شكل خاص، أسهم في نشر ثقافة الكراهية على الصعيد الفردي والمجتمعي والعالمي كما لم يكن منتشراً في أي فترة تاريخية سابقة. منسوب الكراهية زاد في شكل غير مسبوق في الخطاب الأميركي مثلاً، ويقوده ويعمّقه الرئيس دونالد ترمب. والأمر ذاته ينسحب على الخطاب في مجتمعات عدة. لذلك فإن المثقف يرتكب خطأ جسيماً في ابتعاده عن العالم الافتراضي ويتحمل مسؤولية ترك الأجواء لمشاهير البذاءة والتفاهة والضحالة والنطّيحة. هؤلاء أصبحوا سادة تويتر وفيسبوك والإنترنت الذي يزداد تغلغلاً في الحياة حتى أصبح كل ما هو افتراضي واقعياً وكل ما هو واقعي افتراضياً. والمجال الافتراضي يزحف بقوة وبسرعة تجاري سرعة الضوء وأخذ يزاحم العالم الواقعي على كل مستوى من المستويات الحياتية. ولذلك فإن كان سبب عزوف المثقف العربي جهله بالعالم الافتراضي، فعليه أن يتدارك جهله، وإن كان سبب العزوف حيرة المثقف فعليه تجاوز خيرته وتردده الذي يدفع ثمنه المثقف والجمهور، وإن كان السبب ترفعه فهذا الترفع ليس في محله وليس هذا وقته ولا مستقبل له. وإن كان سبب العزوف الخوف من الانكشاف على الجمهور، فإن العزلة أشد ضراوة وقساوة من الانكشاف على الجمهور.
أحمد عائل فقيهي: أزمة عقل
هناك تراجع كبير لدور النخبة في العالم العربي، بسبب قوة الإعلام الحديث وتراجع الإعلام التقليدي، إضافة إلى أن هناك تهميشاً للثقافة بمعناها العميق. أصبحت السطحية هي السائدة، ولم يعد هناك دور كبير للعقل العربي المؤثر، كما كان جيل طه حسين والعقاد وأحمد أمين. ولم يعد هناك أسماء مثل محمد أركون والجابري. هناك أزمة عقل وأزمة معرفة وهوية وما طغى على السطح هو الهامش وليس العميق... لم يعد هناك ثقافة مراكز ثقافية كالقاهرة وبغداد ودمشق. هناك هروب من النخب عن أداء دورها الحقيقي في مواجهة الجهل والتخلف بالمعنى الحضاري.
عبد الله العليان: في شبه عزلة
لا شك في أن أزمة النخب العربية، مع الواقع العربي، وعلى الأصح مع الجماهير، شبه منقطعة منذ عقود، وحتى قبل ظهور" الانترنت" ووسائل التواصل الاجتماعي، وازدادت عمقاً مع ظهور الثورة المعلوماتية، وما تبعها من قفزات علمية وتكنولوجية. ذلك أن بعض النخب، ربما كانت غالبيتها تعيش في أبراج عاجية، وفي شبه عزلة، منقطعة عن المجتمع وظروفه وتحدياته، وأصبحت بعض النخب مدجنة ـ إن صح التعبيرـ من قبل السلطة، وتمشي في ركابها، بل وتبرر لها ممارساتها السياسية حتى السلبية منها. وهذا ما جعل الجمهور، يفقد ثقته في النخب، وبخاصة المثقف، الذي كانت له مكانة في هذا المجتمع، في زمن انقضى. وعندما برزت وسائل التواصل الاجتماعي، ازداد الافتراق أكثر وأكثر، لأن هناك أحكاماً مسبقة عن ابتعاد النخب المثقفة، وخصوصاً عن دورها الرائد في مطالب الحرية والديمقراطية والتعددية. هذا صحيح ولكن من العدل والإنصاف ألا نحمّل هذه النخب كل المشكلات، لأنها واقعة في ظروف قاهرة، ولا تستطيع أن تلبي مطالب الجمهور العربي. فالمساحة الممنوحة محدودة كما نعتقد، لكن الإشكالية في تبرير بعض النخب ما تفعله السلطة أحياناً من ممارسات بينما يكمن دور النخب في الاستنارة والانفتاح والتعدد والحريات العامة، وقد ظلت هذه النخب في برجها العاجي تعيش من خلال "يوتوبيا" حالمة، بعيداً من الواقع الذي يعيشه المجتمع وظروفه وتحولاته. ومن النقد الذي يسمع من الجمهور العربي، تجاه النخب المثقفة، أن ما وقع من تراجعات سياسية وثقافية ونهضوية، كانت النخب المثقفة شاهدة عليها، لم تنتقدها ولكن لم تشارك فيها. ويقتضي دورها أن تكون موجِهاً للسلطة لاختيار الطريق الصحيح الذي يلبي مطالب الأمة، وخياراتها في الحرية والديمقراطية.
نبيل سليمان: متى لم تكن في أزمة؟
إذاً عاد الكلام عن أزمة النخب العربية! ولكن متى لم تكن هذه النخب في أزمة؟ ربما كان فصيل منها في مرحلة ما أقلّ مأزومية من سواه، وإذا بساسةٍ أو كتّابٍ أو قضاةٍ أكثر عافية، ولكن إلى حين فيما شهدت وعشت، كيلا أقول منذ أهلّ القرن العشرون، أو كيلا أتقفّى من لم يرَ النخب العربية غير مأزومة عبر تاريخها. ليست الأزمة سالبةً دوماً. فقد تكون تعبيراً عن مخاض أو منعطف. ولكن قد تكون تعبيراً عن عجز أو إفلاس أيضاً، وهذا ما أحسب أن النخب العربية فيه، ليس فقط منذ زلزال 2011، فلماذا؟
من بعض الجواب، وربما أهونه، أن أغلب النخب العربية – والتعميم لغة الحمقى – مبتلى بالذيلية القسرية للسياسي، ومع هذا الابتلاء تأتي الذيلية الطوعية، الانتهازية، من خوف أو من طمع أو من قصور أو لأي سبب شئت، فالمهم أن النخبوي هنا تابع لا تنقصه الصغارة. في زعمي أن من عناصر أزمة النخب أيضاً، هشاشة أو تعفّن الجذور الشعبية، المجتمعية، حيث صار النخبوي كالمنبتّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وقد يسخر ساخر من قولي هذا في زمن التبكيت الديكتاتوري وفي زمن ثورة الاتصالات. لكني لست منادياً بدعوى الجذور لماض ثوري، ماركسي أو دينيّ أو... قد تولّى. فأن تكون سرّة المثقف أو السياسي موصولة بالبشر ليست وقفاً على التحزب أو الجمهرة وما شاكل من لغة الماضي. أما ثورة الاتصالات، وبالتالي اندفاق ثقافة التواصل، فهي سلاح ذو حدين – أم أكثر؟ – أمام النخبوي. إن استغرقته فستضاعف من مأزوميته، مثلما يضاعف عزوفه أو تخلفه عن هذا الطوفان المتفاقم. تتميز ثقافة التواصل بالعدد اللامتناهي لمنتجيها، وباختلاط الحابل بالنابل فيها، ما جعل فيلسوفاً وروائياً مثل أمبرتو إيكو يصب لعنته على هذه الثقافة، وليس لأنها تشيد عزلة بين النخبة والجمهور. والأمر في الحالة العربية أعقد وأيسر في آن، ذلك أن نسبة من ينتج ويستهلك ثقافة التواصل لا تزال متدنية بفضل الحروب والفقر والأمية. من جهة أخرى، أشرعت ثقافة التواصل لكثير من النخب التي تشارك فيها، نوافذ جديدة، مما يسهم في تبديد العزلة التي تصنعها الديكتاتورية كما تصنعها طباعة ألف نسخة من الكتاب لأربعمئة مليون عربي. صورة كالحة هي إذن؟ نعم، لكنني سأظل أردّد: ولا بد لليل أن ينجلي.
فايز قزق: شراسة النخب التلفزيونيّة
هل كان لأهل النخب فعلاً مكان في الواجهات الثقافية؟ هل كان بمقدورهم أن يكونوا أصحاب قرار في الأماكن التي كان عليهم أن يكونوا مبدعين خلاقين لمصلحة شعوبهم فيها؟ أقول: لا. أنت تتحدث عن شيء تمت إبادته منذ زمنٍ بعيد؛ هناك مظاهر وظواهر "ثقافية" إذا شئت في سورية كما كل بلد عربي، هذا صحيح. فتجد قاصاً هنا، وروائياً هناك؛ مسرحياً هنا؛ وتشكيلياً هناك؛ لا أكثر ولا أقل؛ أما أن تتحدث عن نهضة ثقافية في بلدٍ عربي لو قامت على مستوى واحد من البلدان العربية؛ لتفادينا كل هذا الخراب؛ ولكن ليس على الإطلاق. أنت تتحدث عن نخب ثقافية قد تكون في ذهنكَ كما في ذهن من يقرأ كلماتي الآن؛ موجودة فقط في الواجهات التلفزيونية. لقد تمّت إبادة كل ما يمكن أن يكون واجهة ثقافية حقيقية صلبة في كل بلد عربي؛ واستبدالها بنخب تلفزيونية قوية وشرسة في مسألة الدفاع عن مناصبها وأرباحها؛ وتستطيع أن تقول ما تشاء على كل التلفزيونات وفي كل المقابلات والمناسبات وغير المناسبات، فهي تُفتي اليوم في كل شيء لأنها المعروفة والمُضاءة؛ ولأنها الأكثر شهرةً وسطوةً، فلو قلت مثلاً إسماعيل فهد إسماعيل فإن ثمانين في المئة من هذه الواجهة التلفزيونية لن يعرفوا هذا الروائي العريق الذي كتب رائعته "في حضرة العنقاء والخلِّ الوفي". هم لا يعنيهم ذلك؛ بل لا يرغبون في إعادة قراءة عباس محمود العقاد والمعركة الإبداعية بينه وبين طه حسين؛ ولا يستدركون معنى أن يُطمر اسم شخص كالسنباطي تحت ركام "الكليب". هم ليست لديهم أية رغبة في أن يستمعوا إليك، لكونهم يمنحون أنفسهم الصدقية لقول أي شيء، فقط لأنهم مشهورون جداً على مستوى العالم العربي؛ ويدركون أن لهذه الشهرة إمكان النفاذ إلى عقل الإنسان وإبادة ما يمكن أن يكون مهماً وحقيقياً من كلمة وشكل ولون وفعل. وهذا ما تبغيه كل الأنظمة العربية؛ بل قل الأنظمة على مستوى الكوكب؛ لقد خلقت الولايات المتحدة الأميركية حوضاً هائلاً من الأميين على مستوى الأرض؛ وكان لابد لها أن تخلق واجهات تستطيع من خلالها أن تنفذ إلى عقول هؤلاء. فالأمية هي الحوض الذي تستثمر فيه الولايات المتحدة على مستوى العالم بأسره. وأقول الولايات المتحدة هنا كنظام سياسي وليس كبلد. إذاً كان على كل إعلام أمةٍ من الأمم أن ينضوي تحت راية الإعلام الأميركي المستبد؛ وأن يقوم بتشكيل واجهة تلفزيونية تستطيع هذه الأمة من خلالها النفاذ إلى سياسة بل إلى جمهور هذا البلد أو ذاك.