أثناء فترة الحجر المنزلي الذي فرضه علينا انتشار وباء كورونا في العالم، تبقى ممارسة رياضة المشي صباحاً المتنفس الوحيد للكثيرين وأنا منهم. هي النزهة اليومية التي بتنا نستمتع بها.
منذ بدء فترة "النزهة" يستوقفني يومياً مشهد أمام أحد أكبر مراكز التسوق في لندن: "طابور منتظم من الناس" يقفون في الخارج بانتظار دورهم، بدون أي حاجة لرقيب يتأكد من التزامهم. قد يتكرر الأمر في معظم دول أوروبا وخاصة في الشمالية منها إلا أنه مميز في بريطانيا.
كورونا، الوباء الذي أصاب حتى الآن حوالي نصف مليون شخص من مختلف بقاع الكرة الأرضية، أجبر الناس على تموين المواد الغذائية والحاجيات الأساسية. قد تكون هذه الثقافة شائعة في الدول العربية ولكنها بالطبع ليست أمراً طبيعياً في الدول الغربية، ومنها بريطانيا حيث يتبضع الأشخاص بشكل يومي، إلا أن هذه الأزمة فرضت حالة خوف من عدم القدرة على الحصول على ما يلزم في حال زاد الوضع سوءاً، ودفعت بالبريطانيين إلى شراء ما يحتاجونه دفعة واحدة.
ولكن رغم كل ما ذكرت لم تتغير لدى الشعب المعروف بالتزامه وانتظامه "ثقافة الوقوف في الطابور"، ينتظمون وراء بعضهم تاركين مسافة لا بأس بها بين الشخص والآخر ملتزمين بتعليمات الحكومة الأخيرة بعدم الاقتراب والتجمع حفاظاً على صحتهم، ويبدو أن المقيمين هنا تشرّبوا بدورهم هذه العادة ويلتزمون هم أيضاً الوقوف بالطابور.
سبق لي منذ انتقالي إلى لندن أن لاحظت أن الوقوف في الطابور أو "الصف" شائع وطبيعي بدون أي تذمّر، يصطف البريطانيون في البنك أو للحصول على تذاكر ولركوب الحافلة ودخول السينما والدفع بعد التبضع، على عكس دول أخرى كثيرة وخاصة دولنا العربية - التي بدأ بعضها بمعدل لا يذكر يعتمد الاصطفاف - حيث يشعرك من ينتظر وراءك أنك السبب في تعطيل عجلة حياته ولكنني لم أتوقع أن أرى المشهد الراقي نفسه أثناء الظروف الحالية التي نعيشها، فتكلمت عنه خلال اجتماع التحرير الصباحي، وتعليقاً على الأمر أبلغني أحد الزملاء أن الوقوف في الطابور ببريطانيا هو اليوم ثقافة لكنه في الأصل قانون فرضته الحكومة في أيام الحروب والحاجة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد البحث تبين أن هذه الثقافة موجودة حتى قبل الحربين العالميتين، منذ أوائل القرن التاسع عشر أي مع بداية الثورة الصناعية، وتطور المدن وتوسعها وعندما وبدأ الوافدون بالوصول إلى البلاد بحثاً عن عمل، في ذلك الوقت تطلّب الوضع تنظيماً لإنجاز الأمور اليومية وضمان إتمامها بسرعة، وكان الوقوف في الطابور هو الأسلوب الأمثل.
ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية حرصت الحكومة البريطانية على المحافظة على أعلى قدر من الانضباط فدعت الناس إلى انتظار دورهم. ومنذ ذلك الوقت، غُرست ضرورة تنظيم صف في نفوس البريطانيين وهي ميزة قد يراها البعض فكاهية، إلا أنها في الواقع تسهّل الحياة وتسرّع بإنجاز الأمور بدلاً من هدر الوقت بالتقاتل على الدور.
وليس هذا فحسب، إذ رغم أن تخطي "الطابور" يعتبر أمراً فظاً ولكنه إضافة إلى ذلك جريمة إجتماعية بحسب هيئة النقل في لندن. عليك الانتظار في الطابور عند الوقوف أمام آلات الاستحصال على تذاكر المواصلات وإلا! قد تصل غرامة مخالفتك إلى ألف جنيه استرليني.
ولم ينته الأمر هنا، إذ يعتبر الوقوف في الطابور ببريطانيا "فن"، فالبريطاني يقف ما يعادل 47 يوماً من حياته منتظراً في الطابور، بحسب أحد استطلاعات الرأي، لذا لا بد له من أن يكون قد ابتكر قواعد يلتزم بها هو ومواطنوه، فـ "فن الوقوف في الطابور" له قواعده وأصوله وهو ليس اعتباطياً، أولا وكما ذكرنا سابقاً لا يجب أبداً تخطي الطابور أو تخطي دور من يقف أمامك، فقد ينتج عن ذلك تمتمة وانزعاج ممن ينتظرون، رغم أنه من المستبعد أن يوجه إليك أحدهم انتقاداً مباشراً، ثانياً إن لاحظت وجود مسافة غير قصيرة أمام من يقف قبلك لا تطلب منه التقدم "الأمر ليس مقبولاً"، كما لا يجب عليك الاقتراب كثيراً ممن هو أمامك "يحب البريطانيون" الحفاظ على مسافة معينة ولا يتحدثون مع بعضهم البعض إلا ما يقتصر على كلمات قليلة وبسيطة. ومن أهم قواعد الانتظار في الطابور أن لا تعرض على أي شخص جديد يصل مكانك "فمن يصل آخراً يقف في آخر الطابور" وإن كنت تجر عربة حاول أن لا تصطدم بمن يقف أمامك. وأخيراً قد يكون من المقبول أحياناً – ليس دائماً - أن تطلب من أحدهم المحافظة على دورك إن كنت ستعود بسرعة إلى مكانك.