تقول المقولة الشائعة "لا يوجد أعداء دائمون، أو أصدقاء دائمون، بل توجد مصلحة دائمة"، هذه المقولة تصنِّف العلاقات بين الدول باعتبارهم أصدقاء أو أعداء وفقاً للمصلحة، وقد تختلف مقاعد الصداقة والعداء من مرحلة إلى أخرى وفقاً لهذه المصلحة، لكن يوجد مستوى آخر من العلاقات الذي أصبحت فيه العلاقة بين دولتين تجمع بين الصداقة والعداء في الوقت نفسه، التي تسمّى بـ"الأعدقاء"، أي العدو والصديق في آن.
أحد الأمثلة لهذه الحالة هو العلاقة بين روسيا وإيران، إذ إن العلاقات الروسية الإيرانية مدفوعة بتداخل وتضارب المصالح، وهو ما يعني أن تلك المصالح دفعتهما إلى التعاون أحياناً، والتنافس أحياناً أخرى، أي أنّ العلاقة بينهما لا تعرف شكل الصداقة الكاملة أو العداء الكامل، بل ما يعرف بـ"الأعدقاء".
يدير البلدان علاقاتهما على نحو يتّسم بالشراكة والتعاون، لكنها على الأرجح تتباين ما بين التعاون "الاستراتيجي" و"التكتيكي" بشأن قضايا الأمن المشترك، إلى جانب توافر قدر من عدم الثقة الطويلة الأمد بينهما، وضعف العلاقات الاقتصادية.
وتمثّلت قضايا التعاون المشترك في تداخل الأمن والمصالح، والمخاوف بشأن عدم الاستقرار في كل من الشرق الأوسط وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى وأفغانستان، فتعاملت روسيا مع إيران جزءاً من مشروعها الاستراتيجي لتحدي سيادة الولايات المتحدة، إلى جانب تعزيز مكانتها الإقليمية، والاعتراف بها قوة عظمى.
وفي الشرق الأوسط كانت الحرب الأهلية السورية عاملاً مهماً لتوسيع نطاق التفاعل الدبلوماسي والعسكري بينهما. أمّا في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز فرغبة الطرفين في مقاومة الوجود أميركي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أسفرت عن إجبار إيران على قبول تأكيد روسيا مجال نفوذها في تلك المنطقة، غير أنّ التفاهمات بين الطرفين لم تمنع من وجود نقاط اختلاف.
وتعمّقت العلاقات بينهما على مستوى العلاقات العسكرية والاقتصادية والدعم الدبلوماسي، فعلى المستوى العسكري، ونتيجة لتعرّض إيران لضغوط الولايات المتحدة، والعقوبات الدولية، تعززت مبيعات الأسلحة الروسية إلى إيران، التي اعتبرت أهم متغير على مستوى العلاقات الثنائية، إذ أصبحت إيران ثالث أكبر متلقٍ للأسلحة الروسية بعد الصين والهند.
لكن، شهدت تلك العلاقات توتراً بفعل تراجع روسيا عام 2010 عن تسليم إيران صفقة صواريخ "إس 300" التي كانت روسيا وإيران اتفقتا عليها، وتذرّعت روسيا بقرار مجلس الأمن رقم 1929، الخاص بحظر بيع الأسلحة إلى الأخيرة، على الرغم من أنّ أنظمة الصواريخ أرض جو الدفاعية كانت مُعفاة من القرار 1929.
والسبب الحقيقي للسلوك الروسي كان رغبة موسكو في التصالح مع المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة بعد الحرب الروسية الجورجية في 2008، ما دفع إيران إلى تقديم شكوى ضد روسيا في محكمة العدل الدولية، ومن ثمّ حينما جاء فلاديمير بوتين رئيساً لروسيا عام 2012 كانت العلاقات بين الطرفين في أدنى مستوياتها.
أمَّا اقتصادياً، فاعتبرت روسيا إيران مركز عبور في إطار خططها لتوسيع صادراتها، كما نظرت إلى بناء محطة بوشهر للطاقة النووية مع إيران وسيلة لإحياء صناعتها النووية، وتصوّر روسيا نفسها قوة عظمى مسؤولة، دفعها في كثيرٍ من الأحيان خلال استعدائها الغربي والإقليمي أن تجتذب شركاء من خلال تعاون أوثق مع إيران.
على الطرف الآخر، ظلّت روسيا شريكاً حاسماً لسياسة إيران الدولية، بسبب وضعها عضواً دائماً في الأمم المتحدة بمجلس الأمن وضامناً لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) بشأن برنامج إيران النووي لعام 2015.
بالتزامن مع ذلك، تتوسّع روسيا في تعزيز علاقتها بخصوم إيران الإقليميين، مثل السعودية والإمارات وإسرائيل. لكن أهم ما تتسّم به العلاقات بين روسيا وإيران هو توظيف موسكو علاقتها معها "ورقة مساومة"، وتعبيراً عن رفض سياسة الغرب، ولكن حتى في ذروة موالاة السياسة الخارجية الروسية للغرب في التسعينيات (1991 - 1996)، حافظت موسكو على علاقة بنّاءة مع إيران، وظلّت معاداة سياسات الولايات المتحدة أهم العوامل التي زوّدت روسيا وإيران بوجود القواسم المشتركة حتى عندما تختلف مصالحهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأخيراً، يلعب البرنامج النووي الإيراني دوراً بارزاً في سياسة روسيا الخارجية تجاه الولايات المتحدة، فعلى الرغم من امتثال روسيا كثيراً إلى العقوبات الدولية على إيران قبل إتمام خطة العمل الشاملة المشتركة وبعد إتمام الاتفاق، تخوّفت من حدوث تقارب في العلاقات بين إيران من جهة والولايات المتحدة ودول أوروبا من جهة أخرى، إلا أنّ فرض العقوبات الأميركية على إيران بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق ضاعف أهمية روسيا في السياسة الخارجية الإيرانية لتجنّب عزلتها الدولية.
وفي عام 2018 حينما اعترضت روسيا على القرار المُقدّم من الولايات المتحدة في مجلس الأمن بشأن إدانة إيران لتهريب الأسلحة إلى الحوثيين باليمن، وصفت إيران الفيتو الروسي بأنه أول فيتو لروسيا ضد قرار مناهض إيران منذ عهد الاتحاد السوفياتي، حينما اعترض على قرار بشأن أزمة الرهائن عام 1980.
الإشادة الإيرانية تتناقض مع الخطاب السياسي الإيراني الذي كثيراً ما انتقد الامتثال الروسي إلى العقوبات الدولية على إيران، ومع ذلك ما زالت روسيا تبذل جهودها الدبلوماسية لإنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة، رغم تخفيض إيران التدريجي التزاماتها بموجب الخطة.
وإلى جانب التعاون والتنسيق بشأن إنقاذ نظام بشار الأسد حليف الدولتين نجد أن إيران منحت روسيا الإذن باستخدام قاعدة نوجة الجوية في همدان لاستهداف تنظيم داعش وجبهة النصرة حول حلب ودير الزور وإدلب، ما أثار رد فعل عنيفاً في إيران، لاعتبار أن هذا الإذن انتهاك للمادة 146 من دستور البلاد، الذي يرفض وجود قوات أجنبية أو قواعد أجنبية على أراضيها، ما أدّى إلى انسحاب القوات الروسية خلال أسبوع، كما أن النخبة الإيرانية والاستجابة المجتمعية الرافضة هذا الأمر توضّحان أن لروسيا دوراً سلبياً في الوعي الجمعي الإيراني، والمرتبط بالحروب الروسية الفارسية، واستيلاء روسيا على أراضٍ إيرانية، وإرغامها على الخضوع إلى عدد من الامتيازات التجارية.
بشكل عام من منحنى العلاقات بين الطرفين تعاوناً وتنافساً، يعي كل منهما إدارة علاقاته بما يخدم مصالحه، لا سيما فى مواجهة الأطراف الإقليمية والدولية، وإن كانت هناك تحديات ستعمل فى حينها ربما على نقل هذا التعاون والتفاهم من خانة الأصدقاء إلى خانة الأعداء بناءً على ما يمثله كل منهما من تحديات للآخر، منها تصاعد التوترات المحيطة بإعادة إعمار سوريا، والإصلاح العسكري، والاستثمار الاقتصادي، فالهيمنة الإيرانية على المؤسسات السورية تمثل تحدياً لاستراتيجية روسيا المستقبلية تجاه سوريا، التي تشمل الانتقال السياسي والإصلاحات والمصالحة مع القوى الإقليمية والغرب، إلا أنّ ما دفع الطرفين إلى تخفيف هذه التوترات حالياً هو محاولة تركيا تشكيل مجال نفوذ في شمالي سوريا.
لكن، تشير ملامح النظام الإقليمي الشرق أوسطي وتفاعلاته إلى أن روسيا ستستمر في استخدام إيران لدعم مبادراتها الدبلوماسية وجهودها لتقويض السياسات الأميركية في المنطقة، وستظل تعمل على تجميع أوراق دعم سلوك إيران وأوراق مضادة لتحجيم هذا السلوك بما يخدم عودة الوجود الروسي بالشرق الأوسط.