فجر يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020 قرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إنهاء حالة التعايش القائمة بين المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، خصوصاً العراق، والمصالح الإيرانية، عندما اتخذ قراراً تبناه بوضوح باغتيال قائد قوة القدس في حرس الثورة، والمسؤول عن نفوذ طهران في الإقليم، الجنرال قاسم سليماني، فاتحاً بذلك الباب على مرحلة جديدة من التعامل مع النظام الإيراني تقوم على التخلي عن سياسة المراعاة التي كانت معتمدة من قبل أسلافه، والرهان على إمكانية جلب التعاون الإيراني مقابل تعزيز دور طهران ونفوذها الإقليمي، لصالح سياسة واضحة تذهب إلى تبني خيار الحصار والعقوبات الاقتصادية والسياسية والمالية لإجبار نظام هذه الدولة على التخلي عن طموحاته التوسعية في المنطقة وتقليم أظافره الأمنية والعسكرية التي نشرها في العديد من بلدان وعواصم الدول، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن.
ومنذ انتفاضة عام 1991 في العراق، أو ما يُعرف بـ"الانتفاضة الشعبانية" في الأدبيات السياسية للمعارضة العراقية، والتي جاءت نتيجة استشعار الشارع الشعبي العراقي الداخلي حالة الضعف التي أصابت نظام الرئيس صدام حسين بعد الهزيمة المدوية التي لحقت بمؤسستيه العسكرية والأمنية في معركة تحرير الكويت، لم تعترض طهران على الإجراء الذي اتخذته الولايات المتحدة بغض النظر عن الحضر الجوي الذي كان مفروضاً على العراق، ما سمح للنظام باللجوء إلى استخدام أقسى أنواع العنف والملاحقة الجوية، مستعملاً سلاح السمتيات (المروحيات) في ملاحقة وضرب المتظاهرين والمنتفضين والسماح له بإعادة فرض سيطرته على المحافظات الأربعة عشر المنتفضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عندها كان التفاهم السياسي بين طهران وواشنطن غير المعلن هو ضرورة المحافظة على النظام القائم في العراق على أن لا يكون قادراً على شن حروب جديدة أو امتلاك قدرات عسكرية قد تشكل تهديداً لاستقرار المنطقة، وأن لا يسمح بسقوطه أمام ضربات القوى والأحزاب المعارضة والتحركات الداخلية، على قاعدة الحاجة إلى وجوده وبقائه لمنع دخول المنطقة في مسار تغيير الأنظمة إذا ما تم السماح بالتغيير في العراق.
هذه السياسة التي أرساها الرئيس الإيراني الأسبق الراحل هاشمي رفسنجاني، في التعامل مع العراق ما بعد تحرير الكويت والانتفاضة الشعبانية، جعل إيران أحد أهم النوافذ الاقتصادية والسياسية للنظام العراقي في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية والحصار الذي فرضته واشنطن عبر مجلس الأمن، إضافة إلى الأردن بحدود ما، وكل من سوريا وتركيا وإقليم كردستان الذي بدأ بتعزيز وضعه الإداري بتكريس سلطة الحكم الذاتي، في حين لجأت الدول العربية المجاورة للعراق إلى إقفال حدودها بشكل محكم انطلاقاً من أنها كانت الهدف الرئيس لطموحات وأهداف صدام العدائية.
عندما قررت الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش احتلال العراق وإسقاط النظام فيه، كانت إيران من أولى الدول التي اطلعت على هذا القرار، حتى أنها كانت على علم بساعة الصفر للجهوم الصاروخي الذي شكل إشارة البدء للعمليات العسكرية، وقد عملت طهران والقيادة الإيرانية بجهد كبير لترتيب المرحلة الجديدة ما بعد سقوط النظام، وتحولت أروقة الدوائر العسكرية والأمنية والسياسية في طهران إلى خلية نحل لاستقبال القيادات العراقية التي تعمل مع العواصم الدولية، خصوصاً واشنطن لترتيب مرحلة ما بعد صدام، حتى أن الجرأة الإيرانية وصلت حداً أبلغت فيه القيادات العراقية التي رفضت زيارة طهران، وهي نادرة، أن طريق العودة إلى بغداد يمر حصراً من طهران وبالتنسيق معها.
التعامل الإيراني مع الحدث العراقي عام 2003 يقترب منه مع احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان، فقد وفرت هذه الحروب الأميركية الفرصة أمام النظام في طهران للتخلص من أهم مصدري تهديد له بأيد أميركية من دون أن يتكبد تكاليف ذلك المالية والبشرية، بل عمل على استغلال ذلك لتكريس دوره المتعاون من خلال الدفع بالفصائل الموالية له، والتي سبق أن احتضنها طوال العقود السابقة لتلعب دوراً محورياً وأساسياً في العمليات العسكرية المواكبة لعملية دخول القوات الدولية إلى العراق، ففتح حدوده أمام الفصائل العراقية العسكرية، خصوصاً "فيلق بدر" الذراغ العسكرية للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بقيادة محمد باقر الحكيم للدخول إلى جنوب العراق بالتنسيق مع القوات الأميركية والبريطانية كعامل مساعد للسيطرة والاشتباك مع بقايا التشكيلات العسكرية التابعة للنظام العراقي.
الاحتلال الأميركي للعراق وانتشار أكثر من 150 ألف جندي على حدوده الجنوبية لإيران، تحول بعد استقرار الأمور والأوضاع للإدارة الأميركية إلى عبء للنظام في طهران الذي بدأ يستشعر مصادر الخطر من هذا الوجود الذي بات يشكل الطرف الآخر للكماشة الأميركية على عنق إيران، والتي شكلت أفغانستان طرفها الثاني التي ينتشر عدد مماثل من الجنود الأميركيين على أرضها، وقد زادت المخاوف الإيرانية بعد الموقف العدائي الذي أعلنه الرئيس بوش عندما وضع إيران في محور الشر وأنها مصدر التهديد المباشر لأمن واستقرار الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الكشف عن باخرة الأسلحة "كارين ايه" المرسلة إلى الفصائل الفلسطينية في الداخل واتهام إسرائيل لحرس الثورة بالوقوف وراء ذلك.
أمام هذه التحديات التي أسهم الوجود الأميركي العسكري في محيط إيران في فرضها على قيادة النظام في طهران، فضلاً عن تخلي الرئيس الأميركي عن كل المؤشرات الإيجابية التي أرسلتها طهران من خلال تعاونها في الملفين العراقي والأفغاني ووضعها في محور الشر، فرض على هذه القيادة إعادة النظر في التعامل مع هذا الوجود واعتباره مصدر تهديد، فكان لا بد لها من الانتقال إلى مستوى آخر وجديد في التعامل معه، بحيث لا تسمح له بفرض التوجهات والسياسات التي يرغب فيها وقد تؤدي إلى إخراجها واستبعادها عن الحلول المقترحة والتسويات التي سيفرضها لإنتاج الأنظمة التي يريدها في هذين البلدين، بما يساعده على رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، بعيداً عن الشراكة الإيرانية أو حرمانها من أي موقع أو دور في مستقبل المنطقة.
ونتيجة لهذه التحديات، وجد النظام الإيراني أن المرحلة الجديدة تفرض عليه إدخال تعديلات على استراتيجية تعامله مع الوجود الأمريكي في العراق، مستفيداً من الانكفاء العربي عن هذه الساحة، من خلال تعزيز نفوذه السياسي عبر حلفائه بتوفير كامل الدعم لهم للتغلغل في مفاصل السلطة والنظام الجديد والإمساك به، إلى جانب بناء شبكات من فصائل مقاتلة مهمتها تعقيد الوجود العسكري والأمني الأميريكي، عبر تصعيد عمليات استهداف هذه القوات في مختلف المناطق العراقية، بهدف تحويل العراق إلى "مستنقع" يمنع الإدارة الأميركية من التفكير في أي خطوة ضد إيران، ويجعل منها في الوقت نفسه حاجة من أجل الخروج من هذا المستنقع، وهي استراتيجية لم تتردد قيادات في النظام، إن كان الرئيس الأسبق محمد خاتمي أو حتى رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، من الحديث عن استعداد بلادهم لمساعدة واشنطن لتأمين خروج آمن لها من هذا المستنقع.
مستفيداً من نفوذه وهيمنته على التركيبة السياسية الجديدة في العراق، استطاع النظام الإيراني فرض نفسه شريكاً أساسيا للإدارة الأميركية على حساب كل اللاعبين الآخرين، وجعل من الصعب على واشنطن أن تتفرد في تركيب السلطة في هذا البلد من دون الأخذ بمصالحه ومصالح حلفائه الذين أمسكوا بالسلطة والإدارة، بحيث جعل من العراق ساحة صراع وحوار مع واشنطن حول جميع الملفات من النووي مروراً بالإقليمي وصولاً إلى الساحات المتداخلة بينهما.
وقد ساعد على إرساء هذه المعادلة القناعة التي توصل إليها الطرفان، الإيراني والأميركي، بتعقيدات المواجهة المباشرة بينهما حتى على أرض العراق، وإمكانية قبولهما برسم حدود الشراكة بينهما على هذه الساحة، بحيث تستطيع واشنطن الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، وتكون طهران ضمنت عدم تحولها إلى هدف مستقبلي لآلة الحرب الأميركية.
ويمكن القول إن هذه المعادلة بين واشنطن وطهران استمرت منذ عام 2003 حتى عام 2018، وكان مستوى الخلاف والصراع بينهما محكوماً بسقف المصالح والاتفاق على حجم حصة كل واحدة منهما على الساحة العراقية مع الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات التي تتركها على علاقة العراق بمحطيه العربي وحتى بمصالح الدول العربية وأهمية التوازن بينها وبين النفوذ الإيراني المتغلل في المنطقة، وصولاً إلى المتحول الذي حصل مع وصول الرئيس دونالد ترمب إلى الرئاسة الأميركية، الذي نقل موقف الإدارة في واشنطن إلى مستوى جديد وحازم في مواجهة هذا الدور الإيراني، وبالتالي الدخول في مواجهة مباشرة مع طهران في محاولة لتحجيم طموحاتها النووية والإقليمية والعسكرية، وقد شكلت العملية العسكرية التي نفذتها الطائرات الأميركية فجر الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020 ذروة التحول في موقف واشنطن وكسر قواعد الاشتباك التي كانت قائمة مع طهران بعد سلسلة من الإجراءات والقرارات على مستوى العقوبات الاقتصادية والحصار السياسي للنظام الإيراني، ما يعني أن الإدارة الأميركية انتقلت من مرحلة التعايش إلى مرحلة التصدي والتحجيم، وهو ما قد يجعل المرحلة المقبلة في حال عودة الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض في ولاية جديدة، مرحلة أكثر سخونة في حال لم تذهب طهران إلى تسويات قاسية ومؤلمة تقطع الطريق على إجراءات أكثر إيلاماً.