Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرية والتغيير بين الجيش والدعم السريع... الشر الذي لم تجربه من قبل

مما قد يستغرب له المرء التقارب الدرامي لـ"قحت" مع قوات حميدتي بعد طول خصومة

وجدت قوى الحرية والتغيير السودانية في قوات الدعم السريع نصيراً في وجه خصومها من الإسلاميين (أ ب) 

ملخص

وجدت "قحت" في تحولات حميدتي المتسارعة إلى صفها نصرة في وجه معارضيها من الإسلاميين وغيرهم وعزاء.

ليس صعباً أن نفهم هجوم قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) (قحت) على القوات المسلحة والإسلاميين في الحرب القائمة ليومنا في السودان، فقد فطمت أجيال منهم على معارضة دولة الجيش في السودان ومشروع الإسلاميين لـ"توبة الدولة إلى الدين" في عبارة لشيخهم حسن الترابي.

وسعيد الحظ من يجتمع عليه عصفورا خصومه لكي يصيبهما بحجر واحد، لكن مما قد يستغرب له المرء التقارب الدرامي لـ"قحت" مع قوات "الدعم السريع" بعد طول خصومة، فبدا مما تقرأ لرموز في "قحت" كأنهم يعيدون لمصلحتها كتابة تاريخها معهم. فتجد من يقول إن فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة الدموي في يونيو (حزيران) 2019 كان من تدبير الإسلاميين، ولم تكن تلك الرواية عن المجزرة التي حملت ذنبها لـ"الدعم السريع" حتى وقت قريب.

ومن جهة أخرى، ما ذكروا جريمة قديمة معروفة لـ"الدعم السريع" مثل جرائم الحرب في دارفور منذ 2003 إلا قالوا إنها خطيئة الإسلاميين لأنهم من جيشوهم للغرض، بل قال أحدهم إن "الدعم السريع" هم أبناء "قبائل كريمة ومن شيوخ كرام حوّلهم الإخوان إلى وحوش بشرية". وميز أحدهم قتال "الدعم السريع" بأنها تقاتل، خلافاً لقتال القوات المسلحة والإسلاميين، بشرف، وما احتلوا بيوت الناس في الخرطوم إلا مكرهين من فرط توحش الجيش.

لكن الأكثر استغراباً بالفعل هو كيف أمنت "قحت" لـ"الدعم السريع" حتى قبلت منها دعواها عن الحرب وما بعدها بغير نأمة ريبة، فزكّى السياسي المخضرم والقيادي في "قحت" ياسر عرمان، "الدعم السريع" لأنها على جانب الصحة في موقفها من الحرب وما بعدها، فقال إن الدعم "تقول عبارات صحيحة بأنها تريد إنهاء الحرب. تريد تحولاً ديمقراطياً. لن نقول لها لا تقولي ذلك. سنختبرها عملياً. دع الفريق أول البرهان والقوات المسلحة تقول الشيء نفسه، وأن يذهبا معاً للتوقيع على الاتفاق الإطاري". وهذا الإطاري هو الذي انفجرت الحرب في الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي في سياق خطته للإصلاح الأمني والعسكري. ولا يعرف المرء إن جاز لسياسي محنك مثل عرمان إرجاء الحكم على مصداقية مثل "الدعم السريع" للزمن. فما رآه الناس منها في الحرب والسلم منذ قيامها في 2013 موجب للحذر من دون مثل تزكية عرمان التي تعطل الحكم بالسابقة في انتظار اللاحقة.

وهي تزكية بدا أن قوات "الدعم السريع" استحقتها لأياديها على "قحت" وهي في غمرة الصراع مع الإسلاميين وخصومها الآخرين في الحرية والتغيير طوال النصف الثاني من 2022. فلم يرحب محمد حمدان دقلو بمبادرة الطيب الجد، خليفة الشيخ ود بدر في ضواحي الخرطوم التي تنادى إليها أولئك الخصوم في أغسطس (آب) 2022. فصب حميدتي ماءً بارداً عليها لم ينتظره الإسلاميون منه. كما رحب بمشروع الدستور الانتقالي، مع أنه لم يطلع عليه، وقد وضعته تسييرية نقابة المحامين ذات الميل لـ"قحت" في حين ناصبه خصومها العداء، بل ندد في خطاب له تفريق الدولة بين المتظاهرين بحسب غرضهم، فقال إنها أذنت لخصوم "قحت" بالتظاهر حتى عند بوابة القصر الجمهوري في حين فرقت موكب لشباب المقاومة بالقوة.

وأضاف "أنا مع التغيير، حتى الشباب الذين يسيئون إليّ في الشوارع أنا معهم"، ثم توج ذلك كله بالاعتذار من انقلاب الـ21 من أكتوبر (تشرين الأول) 2012 الذي أطاح الحكومة الانتقالية لثورة 2019 وقال إنه كان خطأ ليعلن التزامه ما ورد في الاتفاق الإطاري حول مبدأ "الجيش الواحد ودمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة".

ووجدت "قحت" في تحولات حميدتي المتسارعة إلى صفها نصرة في وجه معارضيها من الإسلاميين وغيرهم وعزاء، فرحبت مثلاً ببيان حميدتي في الـ22 من يوليو (تموز) 2022 الذي اعتذر فيه من الانقلاب وقالت إنه "جاء كامتداد لخطوات تراجع السلطة الانقلابية والتي نتجت من بسالة شعبنا وتمسكه بقضاياه العادلة واستكمال مسيرة ثورة ديسمبر المجيدة".

لا يتوقع المرء من سياسي مثل عرمان قضى سحابة صباه حتى الشيخوخة في أسخن محطات السياسة السودانية أن يؤجل الحكم على مشروع قوات "الدعم السريع" إلى يوم في المستقبل. فكان المنتظر أن تسعفه فراسته للحكم عليه من فوق معرفة أدق بنظمها وسلسة القيادة فيها ومواردها وعلاقاتها الإقليمية والعالمية. وهي التفاصيل التي يلبد الشيطان في طياتها في عبارة إنجليزية أشاعها عرمان في خطابنا السياسي.

من جهة أخرى، فهذه ليست مرة عرمان الأولى في التعاطي مع جيش غير نظامي، فكان اختلف مع الحزب الشيوعي في 1988 حول ما وصفه بموقف الحزب السلبي من حركة تحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق، ورغب عرمان في أن يرى حماسة أكبر لهما من الحزب، بل انتظاماً من عضويته في سلكهما لبناء السودان الجديد المقطوع من قماشة برنامج الشيوعيين أنفسهم. ولم يتفق موقفه للحزب الذي كان يرى استنفاد النظام الديمقراطي القائم آنذاك بفضل ثورة أبريل 1985. وافترقا ليلتحق عرمان بالحركة الشعبية ويتميز سياسياً بين صفوفها وعند زعيمها.  

فماذا كانت محصلة هذا الجيش غير النظامي الذي هاجر إليه عرمان من وطن ديمقراطي يطلب ديمقراطية أفضل، في الحكم؟ لن نطيل وسنكتفي بالقول إنه لا أحد، بعد أن رأينا من حال جنوب السودان بعد استقلاله، يأتي بذكر السودان الجديد على فمه هذه الأيام. كأن مأمولاً أن يكون جنوب السودان واجهة تسوق للفكرة فصار مقبرة لها. 

ولم يصمد الجيش الشعبي الذي علق عليه عرمان بناء السودان الجديد لا لخلاف جنرالاته حول الانتخابات في 2010 قبل الانفصال عن السودان ولا لترتيبات الحكم بعده. فاندلعت "ثورة الجنرالات"، في قول الصحافي خالد أبو أحمد، إثر احتجاجات مختلفة على نتائج الانتخابات التي خاضها بعضهم. فاحتج الفريق قلواك قاي على سقوط السيدة أنجلينا، زوجة رياك مشار، نائب رئيس الجمهورية، لنيل ولاية الوحدة بدعوى أنهما معاً من شعب النوير، الخصم التقليدي لشعب الدينكا الذي منه تعبان دينق الفائز بالمنصب. فلما احتج قاي على ذلك أقصوه من الجيش ليتعين نائباً لمدير سجون ولاية الوحدة. فأعلن تمرده في 20 ألف جندي قائلاً إن جوبا لا تعرف غير لغة السلاح. وطلب في تفاوض لاحق مع الحكومة إبعاد تعبان دينق من المنصب ومحاكمته، وكان قد نسب دينق إلى شمال السودان، وقال إنه من قرية شبشة بولاية النيل الأبيض واسمه الأصلي محمد الحسن حاج الصديق الملقب بـ"تعبان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان من بين من احتج على الانتخابات الفريق جورج طور في هيئة أركان قيادة الجيش الشعبي منذ 1983 وهو من شعب النوير أيضاً. فسقط في الانتخابات ليكون والياً على جونقلي أمام مرشح الحركة الشعبية كوال ميانق، فهجم على مدينة ملكال، وكانت حربه صعبة لتمرسه في القتال ضد جيش الحكومة السودانية. وخسر العقيد ديفيد ياو ياو، قائد قوة الكوبرا في الجيش الشعبي، الانتخابات فتمرد. وانعقد الحلف بين هؤلاء الضباط العظام وانضم إليهم كل من قائد سلاح المدفعية في الجيش الشعبي فيتر قاديت وغابربيل تانج، وقائد شمال منطقة بحر الغزال عبدالباقي أول أقانج وجون ألونج. وجعلوا قاي رئيساً لهيئة أركان حرب جيشهم. فحاصر قاي عاصمة ولاية الوحدة وكاد يجتاحها، فاعتقلوا عائلته، ورفض المساومة مع الحكومة على رغم ذلك لأنها تحت سيطرة الدينكا في قوله.

أما قاديت، فتمكن من هزيمة الجيش الشعبي وهدد بإزالة حكومة سلفاكير في ثلاثة أسابيع. واستسلم تانج للأسر بعد معركة مع الجيش الشعبي. وقتلت الحكومة قاي خلسة فقفلت باب التفاوض مع الجنرالات المتمردين لاستنكارهم الغدر من وراء مقتله. وصدر للمتمردين "إعلان ميوم" الذي طالب بحل الحكومة ووقعه قاديت وقائد القوة المدمجة مع جيش الخرطوم كارلو كول والعقيد بول جاتكوث عضو برلماني سابق في حلف مع أطور.

أما تفرق الجيش الشعبي إلى دينكا ونوير والتطهير العرقي الذي وقع في أثر ذلك، فكان بعض مادة كتاب إليزابيث شاكلفورد "قناة المنشق" (2020). وكانت شاكلفورد دبلوماسية في سفارة أميركا بجنوب السودان اضطرت إلى الاستقالة لإساءة السفارة استخدام نفوذها من أجل حماية دولة جنوب السودان من المؤاخذة المستحقة. فكانت السفارة تلطف من تقاريرها شفقة بدولة وصفتها بأنها خرجت إلى الوجود من عدم "أسطورة خلق" أميركية. فكانت أميركا لا تريد أن تبدو كمن تدين نفسها لاصطناع دولة خرقاء. فبعد تعدٍّ لجماعة من الجيش الشعبي على دبلوماسية مع الأمم المتحدة، كتبت شاكلفورد "على رغم كل جهودنا ودولاراتنا لم يتغير شيء. فالجيش الشعبي جيش غابة وليس جيشاً مهنياً. ولن يصبح جيشاً وطنياً بهوية وطنية. لن تتغير طبيعته، بخاصة أنه لم يكن هذا التغيير مما شغل القادة في الدولة"، بل أنشأ سلفاكير ميليشيات خاصة لحمايته من خاصة أهله الدينكا عرفت بـ"صبيان لوري" ولوري هي مزرعة سلفاكير القريبة من جوبا، وأصر على دمجها في حرسه الجمهوري، كتيبة النمر، ولم يسمع لاعتراض قيادة الجيش الشعبي على ذلك.

واستولى سلفاكير على بلدة هجليج السودانية على رغم تحذير الرئيس أوباما نفسه له بألا يفعل ذلك، ودارت الحرب بين السودان وجنوب السودان لستة أشهر حتى استردها السودان لحظيرته. كما نصحته السفيرة الأميركية وكبار موظفي وزارة الخارجية والقصر الجمهوري ألا يفصل نائبه رياك مشار، ففعل، واندلعت الحرب بين قواتهما، دينكا ضد نوير.

لا يعرف المرء إن كان جسد الأمة سيتحمل مخاطرة أخرى مع جيش غير نظامي على بينة تصريحات منه عن الديمقراطية والمدنية لا تزيد على كونها مادة علاقات عامة بينما الشيطان في تفاصيل بنيته. فإذا أضربنا عن معرفتها والحكم عليها بفراسة كان اعتزال "قحت" للقوات المسلحة التي ذاقت منها الأمرين والتواثق مع "الدعم السريع" مثل ما ذاع عن الممثلة الأميركية ماي وست وقولها إنها إذا واجهها الخيار بين شرّين اختارت الشر الذي لم تجربه من قبل. ومعلوم أن "قحت" جربت العلقم من "الدعم السريع" مع ذلك، ولكن ليس في سدة الحكم.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء