Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سقوط باريس" لإيليّا إهرنبورغ : الهزيمة بعيون أجنبية

الكاتب السوفياتي يشارك الفرنسيين أفراحهم ومذلّاتهم

إيليّا إهرنبورغ في لوحة فنية لرسام سوفياتيّ

في سنوات الخمسين من القرن العشرين، ولا سيما بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان اللحظة التاريخية الفاصلة المعلنة لإنتهاء العهد الستاليني فعليا – ثلاث سنوات بعد موت صاحب العهد - جدّت في الحياة السياسية في العالم كلمة كانت ذات وقع مقبول، لتصبح بسرعة التعبير المفضّل لعشرات الملايين من الناس في أوروبا خاصة، الذين تنفسوا الصعداء أخيرا قائلين: لن تكون هناك بعد الآن حروب عالمية بين القوتين الأعظم بل يبدو أن الحرب الباردة نفسها لن تتواصل.

لا نهتم هنا بهذا الموضوع سواء كان تفاؤل الناس في محله أو لم يكن. ما نتوقف عنده هو الكلمة المعنية وكانت "إذابة الجليد" – في العلاقات بين الكتلتين -. عرف الناس جميعهم الكلمة وارتاحوا إليها رابطينها بخروتشيف وتقريره الشهير. لكن الحقيقة أن الزعيم السوفياتي لم يكن هو من ابتكر الكلمة. من فعل ذلك كان الكانب السوفياتي إيليا إهرنبرغ الذي كان قد عنون بها كتابا له صدر في العام 1954، أي قبل عامين من عزو الكلمة إلى زعيم بلاده. ومن هنا ما يقال عادة من أن إهرنبرغ هو "مذيب الجليد" الحقيقي حتى ولو أن هذا الأمر بات منسيّا في الساحة العامة اليوم.

لكن إهرنبرغ لم يكن كذلك فقط، بل إنه كان أيضا الكاتب الذي عرف كيف يأخذ على عاتقه واجبا كان على الفرنسيين فعله فـ"سبقهم" هو إلى ذلك. وهو يتعلق بموضوع يخص فرنسا وألمانيا لكنه عرف هو كيف يتصدى له بأفضل مما كان في مقدور أي كاتب فرنسي – أو ألماني – أن يفعل. وما هذا الموضوع سوى الإحتلال الألماني لفرنسا والذي سيدوم سنوات بعدما باغت الفرنسيين في العام 1940 وهم غافلون يتناقشون في جنس الملائكة كعادتهم.

نظرة داخلية/ خارجية

طبعا لن يكون من الدقة أو الإنصاف أن نؤكد هنا أن أدبا فرنسيّا مكثقا ورائعا حتى، لم يُنتج في فرنسا حول الهزيمة والإحتلال، فاللائحة لو شئنا وضعها، ستشغل أضعاف مساحة هذه الزاوية. بل يمكن القول أن القسم الأكبر من المبدعين الفرنسيين وأحيانا غير الفرنسيين ساهموا في ذلك. لكن الواقع يقول لنا أن ما من نصّ عرف كيف يرصد ما حدث عند الهزيمة بقدر ما فعل كتاب "سقوط باريس" الذي وضعه إيليا إهرنبرغ ونشره أولا في موسكو في وقت كانت فيه أضواء آخر النفق لا تزال بعيدة.

والحقيقة أن الكاتب الروسي لم يكتب فصول كتابه من بعيد بل من داخل باريس نفسها متوخيا فيه لا أن يرصد ما يحدث ويعلق عليه وحسب، بل أن يتغلغل إلى داخل الحياة اليومية للعديد من الشخصيات الباريسية وغير الباريسية، متراجعا في الزمن بضع سنوات حتى يروي حكاية فرنسا كلها طوال النصف الثاني من سنوات الثلاثين حتى انقضاء العامين الأولين على الإحتلال، بنظرة يمكن وصفها بالخارجية/ الداخلية. ولنسارع إلى القول هنا أن إيليا إهرنبلاغ عاش بالفعل كل تلك السنوات في فرنسا، من ناحية أملا في أن تساعده تلك الحياة الفرنسية على إنجاز أعمال أدبية تنفد من براثن الجدانوفية المسيطرة على الحياة الثقافية في موسكو تحت ظل ستالين الثقيل. إذ حتى ولو لم يكن إهرنبرغ كاتبا منشقا ولو أنه لم يكن ينوي الصدام مع سلطات بلاده، كان يتطلع إلى شيء من حرية الحركة. وهكذا وجد من يكلفه من جديد بأن يكون مراسلا لصحف رسمية وانطلق حينها إلى باريس يشتَمّ فيها رائحة الحرية ويمارس إبداعا متحررا من القيود الحزبية. ونعرف طبعا أن باريس التي وصلها في عز أفراح حكم "الجبهة الشعبية" – أي الإئتلاف اليساري-، ستترك المكان في العام 1940 لباريس أخرى، "نازية" هذه المرة هتلرية الهوى. والحقيقة أن "سقوط باريس" تصور لنا ذلك الإنتقال من خلال العديد من الشخصيات والعائلات والمثقفين والمناضلين والأفكار التي يأتي الكتاب ليعيّشنا في وسطها بطريقة تذكّر بأجمل وأقوى أعمال إميل زولا. ففي النهاية أتى "سقوط باريس" أشبه بعمل لزولا. وذا نكهة باريسية لا ريب فيها.

لوحة بانورامية

بل أكثر من ذلك أتى قصيدة حب تغازل الشعب الفرنسي واصفة أفراحه الأولى معلنة حزنها لما أصاب تلك الأفراح على أيدي النازيين، وكذلك أسفها لوجود فرنسيين كثر بين المتواطئين مع المحتل. ففي نهاية الأمر، بدا الكتاب لوحة بانورامية كتبه قلم وضع نفسه في خدمة عينين ترصدان وأذنين تصغيان لما يحدث ولخلفية ما يحدث.

 وكان ذلك طبعا قبل سنوات طويلة من تلك "الثورة الخروتشيفية" التي أتت بإذابة الجليد جاعلة من إهرنبرغ "المعادل الأدبي والفكري لما كانه نيكيتا خروتشوف في المجال السياسي" ولا بد أن نشير إلى أن إيليّا اهرتبورغ كان له، فيما كتبه، في الحالين، من المصداقية ما لم يكن لغيره. كما جعلت كل ما قاله عن فرنسا تحت النازية ثم لاحقا عن المرحلة الستالينية، بل عن التاريخ السوفياتي كله يلقى آذانا صاغية، ويساهم في تمهيد الأذهان لتقبل ما جاء به خروتشوف بعد عامين. ومن هنا حين رحل إهرنبورغ عن عالمنا في العام 1967، شُيّع كبطل من أبطال الاتحاد السوفياتي واعتبرته الصحافة السوفياتية واحداً من كبار الكتّاب السوفيات في القرن العشرين.

والحقيقة أن إخضاع أدب إهرنبورغ وشعره للفحص الدقيق اليوم قد يكون من شأنه أن ينسف هذه الفكرة، لكن هذا لا يمنع من القول بأن دور إهرنبورغ في الحياة الأدبية والصحفية الروسية كان كبيراً، ولا سيما خلال عمله كمراسل حربي لصحيفة «الازفستيا»، وصحيفة «النجم الاحمر»، حيث كتب، وهو مشارك في الحرب الإسبانية، بعض أبدع التحقيقات عن تلك الحرب.

تجوال أوروبيّ

ولد إهرنبورغ العام 1891 في مدينة كييف (عاصمة أوكرانيا اليوم)، لكنه أمضى طفولته في موسكو، ثم أمضى جل شبابه في باريس. وهو سافر إلى العاصمة الفرنسية بعد أن كان قد اعتقل في موسكو في 1907 بسبب «نشاطات تخريبية» وانتمائه إلى تنظيمات شيوعية. و في باريس اختلط الكاتب الشاب بأوساط الثوريين الروس المنفيين، كما اختلط بالأوساط الادبية التقدمية في فرنسا. وفي باريس نشر أول أشعاره، كما كتب أولى مقالاته الصحفية.

وهو عاد إلى روسيا في 1917 إثر انتصار الثورة البولشيفية، وساهم في النهضة الأدبية والفكرية، غير انه سرعان ما شعر بالحنين إلى باريس وحياتها الصاخبة فتوجه إليها في 1921 كمراسل لصحيفة الدولة الرسمية. وفي باريس خاض الكتابة الصحفية والأدبية في وقت واحد، وتابع الحياة الفكرية وساهم في النقاشات الفكرية التي سادت العاصمة الفرنسية من حول النظرة إلى الاتحاد السوفياتي، والتي أثارتها كتابات أندريه جيد. في أواسط الثلاثينات توجه إهرنبورغ إلى إسبانيا لتغطية حربها الأهلية، ثم عاد إلى فرنسا مكللاً بالغار الأدبي لأن كتاباته حول تلك الحرب جعلته بطلاً حقيقيا وأكسبته شهرة ومكانة كبيرتين. لكن بقاءه في فرنسا، هذه المرة، لم يطل، إذ أنه اضطر للعودة إلى موسكو إثر الغزو الألماني لفرنسا. وفي موسكو، راح من جديد يخوض الكتابة حول الحرب مما جعله يعتبر واحداً من ألمع الصحفيين السوفيات على الاطلاق. وفي الوقت نفسه واصل كتابة الشعر والرواية وبدأت رواياته تنتشر على نطاق واسع. ويقسم النقاد أعماله عادة إلى ثلاث مراحل: مرحلة الثلاثينات حين أصدر «زفاف موسكو» وخاصة «مغامرات خوليو خورونيتو الغريبة»؛ ثم مرحلة ما بعد الحرب الثانية، حيث خاض الكتابة الروائية السياسية المباشرة وكان من أبرز نتاجاته إلى جانب «سقوط باريس»، «العاصفة» (1947) و«الأسطول التاسع» (1951). أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة إذابة الجليد التي صار فيها سيدا من سادة الأدب الناقد للممارسات الستالينية، وهي الفترة التي بدأها برواية «إذابة الجليد» وواصل خلالها الكتابة مستفيداً من مناخات ليبرالية جديدة سادت خلال بدايات العهد الخروتشوفي، وكان من أبرز ما كتبه خلال تلك الفترة نص «السنوات والرجال» الذي نشره مسلسلاً في «نوفي مير» وكان اشبه بسيرة ذاتية له تحدثت عن نصف قرن من تاريخ سوفياتي كان من الواضح ان إهرنبورغ لا ينظر إليه نظرة كلّية التعطف.

المزيد من ثقافة