Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المرحلة الانتقالية في اليمن (15)

لم تنته حتى الآن معركة تعز وما زالت جروحها مفتوحة ودماء أهلها مستباحة

احتدام المعارك في مدينة تعز كان مبعثه عوامل عدة اختلط فيها السياسي بالمذهبي والمناطقي (غيتي)

كانت تعز ساحة شرسة لقتال اندلع إثر اقتحام ميليشيات تتبع جماعة "أنصار الله"، ولم تجد مقاومة في الأيام الأولى، ولم يشارك طيران التحالف في مساندة "المقاومة" إلا في الأيام الأخيرة التي سبقت الإعلان عن انتهاء "عاصفة الحزم" والبدء في عملية "إعادة الأمل"، وكان تشكيل "المقاومة" عشوائياً، وتوزعت ولاءات معسكرات الجيش التي أعلن بعضها ولاءه للرئيس هادي وبعض آخر ساند جماعة "أنصار الله".

في واقع الأمر، فإن احتدام المعارك داخل مدينة تعز بطريقة لم تشهدها طوال تاريخها كان مبعثه عوامل عدة اختلط فيها السياسي بالمذهبي والمناطقي. وعلى الرغم من أن المبرر الذي أعلنته جماعة "أنصار الله" لاقتحام المدينة في نهايات نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 هو أنهم قدموا لمحاربة عناصر متطرفة، كما التحق بصفوفهم جزء كبير من أنصار الرئيس الراحل المنتمين للمؤتمر الشعبي العام.

حاول محافظ تعز حينها شوقي أحمد هائل أن ينأى بالمحافظة عن معركة مدمرة كانت معالمها تتشكل بسرعة فائقة، لكنه فشل في ذلك لأنه استند فقط إلى تاريخ وثروة أسرته ولم يكن له سند عسكري ولا حزبي قوي على الأرض، وعمد إلى تناول القضايا المصيرية بأسلوب لم يحقق نجاحاً في مسعاه إلى إبعاد الإدارة المحلية عن الاستقطاب، الذي كان يستهدف القوى السياسية والمسلحين التابعين لها، وكان واضحاً أن "حزب الإصلاح" رآه هدفاً رئيساً، فشن حملة مسيئة ضده، انتهت بتركه المنصب.

لم يكن للعقل المجرد من العواطف أن يخطئ في أن تعز تنزلق بسرعة نحو معركة ستنال من نسيجها الاجتماعي وتعكر تعايشها الإنساني، الذي ترسخ على مدى عقود طويلة وتفقدها مدنيتها التي كانت عنوانها وروحها. ومن المحزن أن الشروخ التي كانت قد بدأت بالالتئام بعد عقود من الشكوك والمخاوف طفت على السطح وصارت وقوداً للمعركة الطاحنة التي أحالت المدينة إلى أطلال، كما توزعت الولاءات داخلها حزبياً وبحسب التمويل الخارجي، الذي أغرق المحافظة في حالة استقطاب غير مسبوقة عبر عدد من الشخصيات والأحزاب.

انتهت معركة عدن، ولم تنته حتى الآن معركة تعز وما زالت جروحها مفتوحة ودماء أهلها مستباحة بيد عصابات كانت في البدء ترفع شعارات "المقاومة" و"التحرير" وانتهت إلى أن تصير ميليشيات وعصابات تقاتل بعضها بعضاً وتتنازع السيطرة على أحيائها، كما تحول الكثير من وجهاتها إلى ما يشبه قادة المافيا الذين لا يهمهم إلا جني المال ولو على حساب الأبرياء. ولم تزل ميليشيات الحوثيين وأنصارهم ممن "تحوّثوا"، يغلقون مداخل المدينة ويمنعون العبور منها، فجعلوا حياة الناس جحيماً وعذاباً لامتهانهم وإذلالهم وابتزازهم، بعدما خرجوا من قلب المدينة إلى أطرافها.

منذ أن عادت عدن إلى "حضن الدولة" وخرج الحوثيون منها ومن كل المحافظات الجنوبية لم يتمكن الرئيس هادي من الاستقرار فيها، وهاجر أغلب المسؤولين مع أسرهم وتركوا "العاصمة المؤقتة" إلا في فترات قصيرة متقطعة، فانعكس ذلك على تدهور الخدمات وانعدام الأمن وانقطاع المرتبات. لكن الأخطر من كل ذلك كان خلق حالة من الإحباط من أداء "الشرعية" بكل أجهزتها، والذي أدى بدوره إلى غضب شعبي واحتقان متصاعد، لم تحاول معالجته بالاقتراب من الناس بل زاد ابتعادها عنهم وتهربها، وتركتهم يواجهون كل الأعباء التي هي في الأصل مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية.

بمرور الوقت، بدأت ردود الفعل تتزايد غضباً من غياب الحكومة، ما سمح لعدد من القيادات الجنوبية برفع شعارات مثل "استعادة الدولة"، "فك الارتباط" و"الانفصال"، فاستجاب لها المواطنون في جنوب اليمن وتصوروها خلاصاً من أزماتهم المعيشية ومعاناتهم. وهكذا، في سبتمبر (أيلول) 2016، أعلن اللواء عيدروس الزبيدي، الذي كان محافظاً لعدن بعد اغتيال محافظها جعفر محمد سعيد في ديسمبر (كانون الأول) 2015 بسيارة مفخخة، تشكيل كيان سياسي جنوبي تحول بعد عامين إلى "المجلس الانتقالي الجنوبي".

كان الإعلان عن "المجلس الانتقالي الجنوبي" نتاجاً طبيعياً لغياب سلطات الدولة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الحوثيين في الجنوب، والتي تقول إنها تمثل 85 في المئة من مساحة الأرض اليمنية. وكان من المنطقي أن يبحث المواطنون عن أي كيان يعتقدون أنه قد يتمكن من تأمين حياتهم اليومية بأبسط مظاهرها. وهو أمر يلجأ إليه الناس حين تغيب البدائل الوطنية النزيهة، لكن "المجلس" أخطأ في رفع سقف تطلعات الناس ورفضهم التعاون مع الحكومة المعترف بها دولياً، مع الإبقاء على اعترافهم بشرعية رئيسها. وهو تناقض لم يتمكن "المجلس" من تجاوزه حتى الآن.

مرت المرحلة الانتقالية بمحطات بدأت في 21 فبراير (شباط) 2012، بالاستفتاء على تولي نائب الرئيس عبدربه منصور هادي منصب الرئاسة فترة عامين. وعلى الرغم من ارتفاع منسوب الأمل في البداية، إلا أن المتابع المتجرد من المصلحة والعواطف كان له أن يلحظ اضطراب أسلوب إدارتها، وكان أبرز تلك المشاهد هو إهمال هادي المتعمد دور رئيس الحكومة الأستاذ محمد سالم باسندوة وندرة لقاءاتهما. والواقع أن الرئيس أراد تقمص أسلوب الرئيس السابق علي عبدالله صالح، لكنه لم يكن مدركاً أن الظروف المحيطة بالرئاسة قد اختلفت كلية، ولم يكن قادراً على التحكم بها وإدارتها بما يلائم الأوضاع المتغيرة.

إن ما جرى خلال العامين 2012 و2014، شكل مقدمة هزلية هيأت للأحداث التي جرت بعدها بداية من الحرب في مارس (آذار) 2015، فكانت إدارة الدولة تسير بصورة عشوائية، وتحولت جلسات مجلس الوزراء إلى خلافات مستدامة بين الشريكين المؤقتين، وتباطأت كثيراً عجلة التنمية لانشغال كبار المسؤولين بقضايا لا تعنى بالهموم المعيشية للناس، ولكن أخطر ما حدث خلالهما هي الإجراءات المتتالية التي تناولت الجيش وما سمي إعادة الهيكلة، لأنها على الرغم من وجود خبراء عسكريين استقدمتهم الأمم المتحدة للإسهام في العملية، إلا أن الجانبين السياسي والحزبي طغيا على الخطط المعدة، وكان الهم الأوحد للرئيس هادي هو التخلص من كل القيادات التي عملت في الحرس الجمهوري وكان يعتبرها موالية لصالح ونجله أحمد، قائد الحرس الجمهوري، وتجنب التعامل معها، وكانت شكوكه تجاه ولائها له كبيرة، وكان ذلك مناسباً لخطاب "حزب الإصلاح"، الذي كانت آلته الإعلامية تسمي الجيش اليمني الجيش العائلي.

خسر الرئيس هادي سباق الزمن الذي كان متاحاً له خلال عامين لإحداث التغييرات، التي تساعده في تأمين استقرار الأوضاع، لكنه ابتعد عن الجميع وبقي يرى الوطن من خلال دائرة ضيقة، ولم يكن الكثير من المسؤولين قادرين على التواصل معه إلا نادراً. وزاد على ذلك، تعاظم الشكوك بينه وبين الرئيس الراحل الذي حمله إلى موقعه منذ عام 1994، ما ضاعف قلقه من كل الأجهزة القائمة ولم يستعن بها، بل تعمد إضعافها وإهمال دورها.

كان الرئيس هادي قادراً على تجنيب البلاد كارثة الحرب، لكنه فشل في اختيار معاونيه وابتعد عن الناس ولم يبذل الجهد الكافي لمواجهة المخاطر التي عصفت بالوطن خلال الفترة الانتقالية الأولى. فمن "عودة عمران إلى حضن الدولة"، إلى "استعادة الدولة"، دفع البلاد في مسار الأحقاد والكراهية والدماء والدمار، وتعامل مع موقع الرئاسة بخفة وعدم تقدير قيمتها السياسية والمعنوية.

المزيد من آراء