Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مارا - ساد" لبيتر فايس... تغيير المجتمع أم تغيير الذات؟

قائد الثورة الفرنسية وزعيم العدمية الفردية في مصح للمجانين

شعبية هذه المسرحية والشهرة التي حققتها تعودان إلى مضمونها ونَفَسها الثوري (غيتي)

"اضطهاد واغتيال مارا كما يمثله نزلاء مصح شارنتون تحت إدارة المركيز دوساد"، ربما كان هذا العنوان أغرب وأطول عنوان حملته مسرحية خلال النصف الثاني من القرن الـ 20. ولكن من الواضح أن شعبية هذه المسرحية والشهرة الكبيرة التي أضفتها على كاتبها لا تعودان إلى غرابة العنوان وطوله، بل إلى مضمون المسرحية نفسها ونَفَسها الثوري وانتماء كاتبها بيتر فايس إلى المدرسة البريختية، وهو أمر كان مستحباً في تلك السنوات الثورية الزاهية، سنوات الفن الثوري والرغبات الحاسمة في تغيير العالم، وانتفاضة الشبيبة على فنون الآباء وجموديتهم.

كما يشير العنوان، من الواضح أن الموضوع الرئيس لهذه المسرحية، هو اغتيال الثورية الفرنسية شارلوت كورداي لذلك الزعيم الذي كان واحداً من أبرز قادة الثورة الفرنسية، وواحداً من كبار إرهابييها. ونعرف من خلال الرواية التاريخية أن اغتيال مارا لم يكن لا على أيدي أنصار الملكية ولا على يد أجانب، بل كان من تدبير الثوار أنفسهم في وقت كانت تلك الثورة قد بدأت تلتهم أبناءها. وإذا كنا نعرف أن فنانين وسينمائيين كثراً قد تناولوا تلك المقتلة ومن بينهم المخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي في سنوات الـ 90، فإن علينا أن نتنبه إلى أننا في مسرحية بيتر فايس التي نتناولها هنا، لسنا أمام عمل مسرحي تاريخي عاديّ، بل أمام عمل إبداعيّ يتجاوز الحدث التاريخي نفسه ليتوقف عند تجديدات تشكيلية استقاها الكاتب من أساليب بريخت في مجالي المسرح الملحمي والمسرح الموسيقي، ناهيك باستناد الكاتب إلى الشاعر والكاتب الفرنسي أنطونان آرتو بالنسبة إلى ربط الجنون بالإبداع كما بالنسبة إلى طرح الأسئلة الفلسفية حول الثورة ودور الفكر فيها. ثم السؤال الرئيسي حول هل يمكن حقاً لأية ثورة أن تنجح في نهاية الأمر؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تاريخ في قلب التاريخ

والحقيقة أن ليست لدينا هنا مسرحية واحدة، بل مسرحيتان، تنتمي الاثنتان معاً إلى العمل التاريخي وتعودان معاً في أحداثهما إلى الحقبة التاريخية نفسها مع فارق بضع سنوات بين الأولى الرئيسة والثانية التي هي عبارة من مسرحية داخل المسرحية. ولنوضح، هناك المسرحية التي تدور في العام 1808 بعدما انتهت الثورة، وثمة الآن في مصح شارنتون التاريخي غير بعيد من باريس نزلاء كثر من الثوريين كما من المجانين العاديين، وقد اجتمعوا معا لتقديم المسرحية الأخرى، الجوانية، التي تروي من ناحيتها ما حدث قبل سنوات حين جرى اغتيال مارا من قبل المواطنة شارلوت التي فاجأته بسكينها في الحمام وقضت عليه. أما من كتب هذه المسرحية مشتغلاً على الوقائع التاريخية ولكن على هواه، فهو المركيز دو ساد النزيل بدوره في المصح الخاص بذوي العاهات العقلية، والذي كان قد تمكن من إقناع مدير المصح بتقديم العمل من تمثيل "المجانين" أنفسهم وأمام جمهور منهم. ومن هنا نجدنا نشاهد المسرحية الجوانية تقدَّم برعاية المدير الحاضر مع زوجته وابنته. غير أن ما نشهده في حقيقة الأمر، أكثر من الحدث نفسه إنما هو سجال عميق لا جنون فيه ولا أي شيء من هذا القبيل حول الثورة ومشروعيتها، ويدور بشكل رئيسي حول سؤال صعب: ما هي الثورة، أهي تبديل في الواقع الاجتماعي أم هي اشتغال المرء على ذاته كي يغيّرها؟

وهكذا تتوالى الأحداث في ازدواجيتها الزمانية أمامنا، وتتوالى أحداث الثورة الفرنسية متأرجحة بين حنين إليها وقسوة في الحكم عليها، ونجدنا أمام نظرتين للثورة تهيمنان على السياق ككل: نظرة المركيز دوساد الفردية العدمية، ونظرة مارا الذي نتابعه قبل اغتياله، ولكن كذلك في حوارات عميقة مفترضة بينه وبين ساد، وكذلك من خلال مدير المصح الذي يوالي اليوم السلطة الحاكمة تحت زعامة نابوليون الذي يرى كثر من "الممثلين" المفترضين، أنه هو من قضى على الثورة!

"أوبرا القروش الثلاث"

وعلينا هنا أن نتوقف بعض الشيء عند موسيقية هذا العمل التي، وانطلاقاً بالتحديد من المثال الذي قدمه بريخت في "أوبرا القروش الثلاث" بموسيقى كورت فايل، عرفت ليس فقط كيف تضفي طابعاً ترفيهياً على مسرحية تطغى عليها حوارات نظرية، بل كيف تجعل العمل كله يبدو بالأغاني الـ 20 التي تنزرع فيه، أشبه بكوميديا موسيقية تقوم الأغاني الفردية والجماعية بالتعليق فيها على الأحداث بل تستبقها أحياناً.

ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن الإنجليزي بيتر بروك قدّم أفضل إخراج لهذا البعد الثنائي من ناحيتين (ناحية الفعل المسرحي مدمجاً بالفعل الموسيقي، وناحية كون المسرحية الأساسية تقدم ضمن مسرحية أخرى)، وسيكون هو نفسه، أي بروك، بعد حين من يؤفلم المسرحية ولكن بلغة أتت مسرحية أكثر كثيراً من كونها سينمائية.

كتب بيتر فايس مسرحيته هذه في العام 1964، في وقت كان فيه نقاد المسرح يبحثون عن كاتب ينطلق من بريخت ليؤسس لتيار، ما بعد، البريختية. ولقد استجابت المسرحية لذلك البحث إذ إن فايس تمكّن فيها من أن يرسم المجابهة بين جان بول مارا، أحد أقطاب الثورة الفرنسية، وبين المركيز دو ساد، كاتب العنف والجنس. أي بين المفكر والعامل الثوري الذي ينظر إليه التاريخ الفكري الماركسي على أنه كان ماركسياً قبل الأوان (مارا) وبين الكاتب الفرداني المتطرف في انطواء فكره على دواخل ذاتية. صحيح أن فايس لم يوجد حلاً للمجابهة بين هذين النمطين، غير أنه عرف كيف يطرح المسألة بشكل صحيح، وكيف يوجد للمسرح أفقه الجديد.

حياة حافلة

ولد بيتر فايس العام 1916، وبدأ حياته كرسام وكاتب قصص ومخرج سينمائي في بلده ألمانيا قبل أن ينتقل إلى السويد ويحصل على الجنسية السويدية التي لم تغير شيئاً لا في اتجاهاته ولا في لغة كتاباته. وهو نفسه كان لا يفتأ يردد أن مسألة الجنسية لا تهمه لأنها ليست أكثر من وسيلة تقنية تسهّل التنقل والإقامة وعبور الحدود.

أطلّ فايس على حلقات الأدب الضيقة، في البداية، من خلال كتابه النثري التجريبي "ظل جسد سائق العربة" (1960) ثم من خلال كتابه الثاني "محادثة الرجال الثلاثة المتنزهين" (1963)، وبعد ذلك جاء كتابان باكران له في السيرة الذاتية كان من الغريب أنهما لقيا نجاحاً كبيراً، على عكس ما كان قد حدث لمسرحياته التي بدأ يكتبها منذ أواخر سنوات الـ 40، حين كان لا يزال واقعاً تحت تأثير كافكا (كما في مسرحية "البرج" وهي مسرحية إذاعية كتبها عام 1948)، ثم تحت تأثير السورياليين (كما في "تأمين" التي كتبها عام 1952)، وفي بعض الأحيان تحت تأثير مسرح الدمى (كما في "ليلة مع الضيوف").

غير أن كل تلك الأعمال لم تخرج عن كونها إرهاصاً بولادة الكاتب المسرحي الحقيقي الذي لن يصل إلى خط سيره الحقيقي إلا من خلال اكتشافه مسرح برتولد بريخت الذي راح يمارس تأثيراً كبيراً عليه، ودفعه إلى مجابهة فكرية حادة مع الماركسية التي بدأ يرى فيها ما كان يبحث عنه على الدوام. وتحت تأثير هذه الماركسية (البريختية المنفتحة والنقدية) كتب فايس مسرحية "مارا/ ساد" عام 1964، وأتبعها في العام التالي بمسرحية "التحقيق" التي انطلق فيها، عبر لغة شعرية مبتكرة، من الحديث عن معسكرات الاعتقال في أوشفيتز لتوجيه أصابع الاتهام إلى النظام الرأسمالي ككل، مقيماً التوازن والتوازي بين أوشفيتز والرأسمالية.

"أغنية غول لوزيتانيا"

وكان نجاح "التحقيق" حافزاً دفع فايس لمتابعة مسيرته الاحتجاجية فكتب "أغنية غول لوزيتانيا" ضد استغلال البرتغاليين الرأسمالي لأنغولا. وبعد ذلك، كتب مسرحيته الشهيرة "خطاب فيتنام" (التي يتألف عنوانها الألماني من 48 كلمة) وهي مسرحية تندد بالتورط الأميركي في فيتنام. وتلت ذلك مسرحية "تروتسـكي في المنفى" التي أثارت، هذه المرة، استـياء الستالينيين الذين كانوا يعتقدون قبل ذلك أن فايس يمكنه أن يكون واحداً منهم، فإذا به يكتب مسرحية متميزة تسعى لرد الاعتبار إلى عدو ستالين على الساحة العالمية.

بعد "تروتسكي في المنفى" (1969) وكانت سنوات "الماركسية" قد بدأت تذوي، راحت أهمية فايس تتضاءل بالتدريج على الرغم من ازدياد تكريسه العالمي ومن الجوائز العديدة التي راحت تنهال عليه، إذ كان من الواضح أنه أضحى جزءاً من الماضي، أي من مرحلة الستينيات الزاهية. وهو حين رحل عن عالمنا العام 1982 كان قد أضحى شبه منسي على أي حال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة