Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 "كورونا" وتداعياته السياسية على الشعب الإيراني

سلّط انتشار الفيروس و"الإشاعات الكاذبة" بعض الضوء على قلّة ثقة الإيرانيين بالسلطة في القضايا المهمّة

نائب وزير الصحة الايراني، إيراج حريرجي، يمسح العرق عن جبينه في مؤتمر صحافي، ومذذاك ثبتت إصابته (غيتي)

كتب محمود صادقي على تويتر "أظهر فحص الكورونا الذي أجريته نتيجة إيجابية... أملي بمواصلة العيش في هذا العالم ليس كبيراً". ثمّ ناشد رئيس السلطة القضائية الإيرانية إطلاق سراح المعتقلين المتّهمين بارتكاب جرائم سياسيّة لتفادي فرص التقاطهم العدوى والسماح لهم بالعودة إلى حضن عائلاتهم في هذه المدة المقلقة للغاية.

وشكّلت الرسالة التي كتبها أحد أعضاء البرلمان الإيراني، أو مجلس الشورى، مثلاً على تخطّي الوباء عتبة الأزمة الصحية الخطيرة ليتحوّل إلى أزمة سياسية أيضاً تطال العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين. كما فتح الطريق أمام جدال عنيف يدور في أنحاء البلاد حول مدى ثقة الشعب بأصحاب السلطة في القضايا المهمة.

ويحمل الموضوع صلة أخرى بالسياسة. فقد أصابت عدوى كوفيد-19 ثلاثة سياسيين آخرين ممّا أثار تخمينات مفادها أن حامل العدوى شخصيّة تتحرّك في أعلى دوائر الدولة. ومن المُصابين معصومة إبتكار، أوّل امرأة تنضمّ إلى مجلس الوزراء في البلاد، وهي سيّدة اشتهرت حول العالم بصفتها الناطقة باسم محتجزي الرهائن داخل السفارة الأميركية في العام 1979. وهي الآن نائبة الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والأسرة، وتقول تقارير غير مؤكّدة إنها حضرت اجتماعاً وزارياً شارك فيه الرئيس حسن روحاني قبل تشخيصها بالعدوى.

وأكد رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، مجتبى ذو النور من جهته، الشعب في بيان له أنه "لا داعي للقلق. أنا حالياً في الحجر الصحّي. وبإذن الله، سوف ينتصر شعبنا على كورونا". أمّا نائب وزير الصحة الإيراني، إيراج حريرجي، فبدت عليه علامات ارتفاع الحرارة وكان يسعل ويعرق جبينه أثناء مشاركته في مؤتمر صحافي لانتقاد التقارير الإعلامية "المسببة للذعر" حول انتشار المرض.

وفي اليوم التالي، أعلن حريرجي عن إصابته بالعدوى وخضوعه للعلاج ودخوله الحجر الصحي. لكن الصحافيين الذين حضروا المؤتمر الإعلامي شعروا بالغضب الشديد لاحتمال تعرّضهم لفيروس كورونا، فساهموا بزيادة موجة الانتقادات التي طالت السلوك الرسمي تجاه الموضوع كما سيل المزاعم التي تُعدّ بعضها نظريات مؤامرة جامحة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وجاء رد الفعل الرسمي على شكل قمع "للإشاعات الكاذبة". فجرى اعتقال 24 شخصاً على خلفية منشورات لهم على الإنترنت فيما "أخلي سبيل" 118 آخرين، بحسب تصريحات وحيد ماجد، قائد شرطة الإنترنت في البلاد. لكن الضغوطات دفعت بالحكومة أيضاً إلى النظر في شكوى الشعب بأنّه تعرّض للتضليل.

لكن حتّى قبل انتشار الأنباء حول وصول كوفيد-19، ظهرت قلّة الثقة خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت الأسبوع الماضي، وهي من أهم الانتخابات في تاريخ البلاد الحديث التي سيتخطى وقعها حدود إيران: إذ بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات داخل العاصمة طهران أكثر من 25 في المئة بقليل فيما سجّلت بقية البلاد نسبة 42.5 في المئة. وهذه أدنى النسب التي تسجّلها أيّ انتخابات منذ الثورة الإسلامية التي أطاحت الشاه.

ويعزى شعور الناخبين بالخيبة إلى ما اعتبره الناس فشل حكومة روحاني الإصلاحية في الوفاء بوعدها عبر تنفيذ إصلاحات اجتماعية واقتصادية شاملة، وهي الوعود التي تسببت بفوزها بتفويض كبير خلال الانتخابات التي جرت منذ ثلاث سنوات.

ويعود سبب هذا الفشل بشكل أساسي إلى انسحاب دونالد ترمب من الاتفاق الذي جمع القوى الدولية وإيران حول برنامج البلاد النووي إضافة إلى فرضه عقوبات على البلاد. وهذا ما دفع باقتصاد البلاد إلى حافّة الخطر. لكن خلال تغطيتي الانتخابات، وجدت أنّ معظم الناس يحمّلون مسؤولية هذا الوضع على ما يعتبرونه فساد السياسيين المحليين وعدم كفاءتهم بقدر ما يلومون الرئيس الأميركي.

وتكرّرت على مسامعي شكاوى فحواها الأساسية "لا تستطيع أن تصدّق أي شيء يقولونه". وهي جملة تتردد بالطبع في بلدان أخرى لدى الحديث عن السلطة الحاكمة، والغرب ضمنها، وقد يُنظر إلى المتشددين الذين فازوا بالسيطرة على المجلس على أنّهم نسخة أخرى عن انتصار الشعبوية.

 وانعكس هذا المزاج المضطرب من خلال الغضب والحزن تجاه اغتيال الجنرال قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني على يد الأميركيين وفي التظاهرات الشعبية التي اندلعت على أثر إسقاط الطائرة الأوكرانية. وانفجرت موجة الغضب بسبب نفي الحكومة في بادئ الأمر مسؤوليتها عن كارثة الطائرة. ووصل فيروس كورونا وسط هذه العاصفة المثالية فأصبح يُستخدم الآن على أنّه مثال جديد عن الروايات الرسمية التي لا يمكن تصديقها وعن التغطية على انعدام الكفاءة.

لكن الاتهامات الشعبية متناقضة في بعض الأحيان. وكنت شاهداً على هذا حين قال لي أحد المسؤولين عشيّة الانتخابات إنّ عدد الناخبين قد يكون قليلاً بسبب الخوف من العدوى. ونقلت ما سمعته إلى شابة أعرفها فغرّد أحد أصدقائها بأنّ الحكومة تضخّم الموضوع لتخفي عدم مشاركة الناس بسبب استيائهم السياسي. بعد ذلك بأيام، زعم الشباب أنفسهم أنّ السلطات تقترف جرماً بمحاولة التقليل من مدى انتشار الوباء الفعلي.

وكانت السلطة في المقابل، تصدر كذلك بيانات متناقضة خاصة بها. فالمرشد الأعلى الخامنئي والرئيس روحاني حثّا الناخبين على التصويت، وأعلنا أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها سوف يوظّفون عزوفهم عن الانتخاب لخدمة أهدافهم المغرضة بمهاجمة إيران وإضعافها.

وبعد صدور معدلات الناخبين، اتّهم خامنئي الإعلام المحلي والدولي بتضخيم مخاطر الفيروس. لكن لدى إعلانه النتائج جزئياً، لمّح وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي إلى أنّ ابتعاد الناخبين عن مراكز الاقتراع منطقيّ في ظلّ ارتفاع أعداد المصابين والوفيات. وشدّد "إننا نعتقد أنّ عدد الأصوات ومعدّل المشاركة في الانتخابات (في ظل الظروف الراهنة) مقبول بلا شكّ".

لكن الإحصاءات حول أعداد المصابين موضع جدال حادّ. وتقول الحصيلة الرسمية بوجود 245 إصابة و26 حالة وفاة. لكن الأخصائيين الذين يتعاملون مع كوفيد-19 يعتقدون أنّ حصيلة الوفيّات تشير إلى التقاط عدد أكبر بكثير من الناس للعدوى.

وكان من المفترض أن يقوم نائب وزير الصحة قبل أن يمرض بدوره، بنفي ادّعاء أحمد أمير أبادي فراهاني النائب في البرلمان عن محافظة "قم" حيث بدأ الوباء، أنّ 50 شخصاً توفّوا في المدينة وحدها وأنّ السلطات تقود عمليّة تغطية خبيثة على الموضوع. وأعلن حريرجي أنه سيستقيل في حال ثبتت وفاة نصف هذا العدد من الأشخاص.

وكان علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، قد طلب من المدّعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري "التأكّد من صحّة" المزاعم. وقد يكون طلبه محاولة للتأكّد من الوقائع أو تهديداً مبطّناً ضدّ النائب.  ولو كان ذلك تهديدا فإنه لم ينجح. ومدينة قم التي يمثّلها أميرعبادي فاراهاني من أكثر المدن الشيعية قدسيّة كما أنّها معقل السلطة الدينيّة. والنائب ضابط سابق في الحرس الثوري الإيراني شارك في الحرب ضد العراق وفي معركة حصار البصرة.

ورفض النائب سحب زعمه موضحاً أنّه أرسل لائحة بأسماء 40 شخصاً توفّوا إلى وزارة الصحّة وهو ينتظر استقالة حريرجي.

وجوبهت التقارير الأولى عن وصول فيروس كورونا بالسخرية في طهران. وقال أحد الزبائن داخل مقهى لعامل النظافة "أنظر هناك، أستطيع أن أرى بعض الكورونا". فيما كتبت سيّدة اكتشفت حملها غير المتوقّع على وسائل التواصل الإجتماعي "قد لا يعدو الأمر طبعاً إصابتي ببعض الكورونا". ومازح محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني من جهته نظيره الأسترالي ألكساندر شالنبريغ فقال له لدى مصافحته "أقسم بالله أني غير مصاب بفيروس كورونا المستجدّ ذاك".  

لكنّ الجو العام تبدّل مع ظهور عدد أكبر من الحالات، وعلى غرار الوضع في أماكن أخرى، بدأ مخزون الأقنعة الطبية والقفازات ومعقّم اليدين بالاختفاء من المتاجر وأخذت أسعار ما تبقّى من هذه البضائع بالارتفاع. وتبرّعت إيران بثلاثة ملايين قناع للوجه لبكين "في إشارة إلى الصداقة القديمة والتاريخية التي تجمع البلدين" حين ظهر الفيروس للمرة الأولى في الصين. كما اشترت الشركات الصينية المخزون الإيراني من هذه البضائع. لكن الحكومة الإيرانية منعت الآن تصدير أقنعة الوجه ثلاثة أشهر وأمرت المصانع بتكثيف الإنتاج.

وزعمت الشركات الطبيّة أنّها ممنوعة من شراء عدّة الفحص بسبب العقوبات الأميركية. وقال رامين فلّاح، عضو مجلس إدارة الاتحاد الإيراني لمستوردي المعدّات الطبيّة، إن "العديد من الشركات الدولية مستعدّة لإمداد إيران بعدّة اختبار فيروس كورونا لكننا لا نستطيع إرسال المال لها". وتنفي واشنطن أنّ العقوبات تطال المنتجات الطبية لوجود استثناء يتعلّق بالسلع الإنسانية. لكن الإيرانيين يشيرون إلى الصعوبة البالغة المحيطة بإتمام العمليات الماليّة لأنّ المصارف غير مستعدّة لمعارضة العقوبات الأميركية الإضافية على المعاملات الماليّة. إنّما من المفترض أن تخفّ حدّة المشكلة بعد إعلان الولايات المتّحدة يوم الخميس عن سماحها بإجراء تجارة إنسانية محدّدة مع مصرف إيران المركزي الذي فُرضت عليه العقوبات سابقاً، من خلال قناة إغاثة سويسريّة.

وتراجع منسوب التسلية والسخرية الآن وزادت نسبة الخوف. قمت بزيارات مثيرة للاهتمام إلى قُم خلال رحلات سابقة إلى إيران، وعندما ذكرت أنني سأقصد المكان (مع معرفتي برد الفعل على كلامي) لم يقبل أيّ من الذين كانوا يتبادلون النكات حول الفيروس طلب مرافقتي إلى المدينة. لم تحدث الرحلة، وشعرت بكثير من الارتياح.

ثمّ أخذ يتفاقم توتر المزاج العامّ مع بدء الخطوط الجوية الدولية بإلغاء رحلاتها. أمّا مقاعد الرحلات المتبقيّة فأخذت تختفي بسرعة. لكن لم يستطع كلّ من رغب في الرحيل أن يفعل ذلك حتّى وإن اشترى تذكرة. فقد أُخبر الركّاب الإيرانيون قبل صعودهم على متن الرحلة التي استقلّيتها باتّجاه مسقط إنّ الحكومة العُمانية منعت مؤقتاً دخول المواطنين الإيرانيين. واعترض الركّاب بانفعال ملوّحين بالتذاكر التي دفعوا ثمنها لكن شيئاً لم يتغيّر وأقلعت الطائرة من دونهم.

واتّبع عدد من دول المنطقة السياسة نفسها. فأغلقت أربع دول مجاورة هي تركيا وباكستان وأفغانستان وأرمينيا حدودها البريّة. بينما منع العراق والبحرين والكويت والإمارات السفر من إيران وإليها. وهذه هي الدول التي تعتمد عليها إيران تجارياً بعد أن أقصتها العقوبات الأميركية فعلياً عن الاقتصاد العالمي. كما يعيش الكثير من الإيرانيين في بعض هذه الدول. وأدّى ما حصل إلى تنامي الإحساس بالعزل في أوساط شعب تبدّدت آماله بالانفتاح على العالم الخارجي مع قرب انهيار الاتفاق النووي. وفي الوقت نفسه، عزّزت أحداث من قبيل اغتيال الجنرال سليماني والاستيلاء على الناقلات النفطية في الخليج احتمالات الحرب.  

التقيت آراش وسارة غاراباني داخل مقهى الفندق الذي نزلت فيه يوم مغادرتي للبلاد. وجاء الزوجان المقيمان في تركيا إلى طهران لرؤية والدة سارة البالغة من العمر 68 سنة لأنها مريضة- "لكن ليس بفيروس كورونا"، كما سارعت سارة للقول. وبعد إلغاء رحلتهما على متن الخطوط الجوية التركية، كانا يشعران بقلقٍ بالغ إزاء سبيل العودة إلى ابنهما وابنتهما الصغيرين اللذين يرعاهما بعض الأصدقاء في إسطنبول.

وقالت سارة "وقع ما حدث هنا كالصدمة. علينا العودة إلى طفلينا إنّما علينا أن نجد الآن طريقةً أخرى للعودة ونبحث في الخيارات كافة. وفي الوقت نفسه، نشعر بكثير من القلق تجاه أهلنا هنا، فماذا سيصيبهم بوجود هذا الفيروس؟ وماذا لو لم نرهم مجدداً. أعلم أنّ في العالم آخرين يعانون وأننا لسنا مميّزين بهذا المعنى. لكننا قلقون مما يجري، قلقون جدّاً".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات