على الرغم من أن 64 دولة حول العالم اختار الناخبون فيها نساء لتولي منصب الرئيس أو رئيس الوزراء منذ الحرب العالمية الثانية، فإن أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأميركية، لم تتمكن المرأة فيها من تحقيق تلك المكانة، ومع ذبول حظوظ المرشحتين الديمقراطيتين إيمي كلوباتشير وإليزابيث وارين خلال السباق الحالي داخل الحزب الديمقراطي، أصبح في حكم المؤكد أن الرئيس دونالد ترمب سينافس رجلاً في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وتتفاعل في أوساط النخبة السياسية أسئلة كثيرة عن الأسباب الحقيقية التي حالت دون تمكن المرأة من كسب ثقة الناخب الأميركي في دولة تمكنت فيها المرأة من تحقيق مكاسب سياسية عديدة كان آخرها انتخابات الكونغرس 2018 التي جعلت تمثيل النساء يقفز إلى أعلى نسبة له في مجلسَي النواب والشيوخ في تاريخ الولايات المتحدة بعدد 126 امرأة.
الاستثناء الأميركي
في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، احتفلت النساء حول العالم بانتخاب الشابة سانا مارين (34 سنة) لتصبح أصغر زعيمة عالمية بين الرجال والنساء، بعدما انتخبت رئيسة لوزراء فنلندا، ذلك البلد الصغير القابع في شمال أوروبا، لكن بقدر البهجة التي علت وجوه النساء بسبب انتصار هذه الفتاة الجميلة، بقدر ما جلب قدراً من الغيرة لدى النساء الأميركيات، خصوصاً بعدما ظلت الولايات المتحدة في حالة استثناء عن البلدان التي قادتها نساء حول العالم وعددها 64 بلداً وفقاً لمؤشر سلطة المرأة الصادر عن مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، الذي يعنى بتصنيف البلدان بحسب تقدمها في تحقيق المساواة بين الجنسين في المشاركة السياسية.
وعلى الرغم من اختلاف هذه البلدان من حيث الوضع العام للمرأة في المجتمع، إلا أن المرأة وصلت إلى أعلى منصب في الدولة، من بنغلاديش وباكستان في آسيا، إلى ليبيريا في إفريقيا، ومن ألمانيا وبريطانيا في أوروبا، إلى الأرجنتين في أميركا الجنوبية.
وحتى في الدول التي واجهت فيها النساء حواجز اجتماعية وسياسية واقتصادية، تمكنت المرأة من الصعود إلى قمة السلطة، بل إن دولاً مثل الفيليبين والأرجنتين، اعتلت فيها المرأة سُدة الحكم أكثر من مرة، واليوم هناك نحو 100 امرأة تولت أمور بلادها في العصر الحديث، بعضهنّ خلال فترات الحرب مثل مارغريت ثاتشر في المملكة المتحدة، وبعضهنّ خلال أزمات اقتصادية طاحنة مثل يوهان سيغورداردوتير في أيسلندا.
رقم قياسي
مع كل هذه المنجزات التي حققتها المرأة حول العالم، يصبح من المنطقي السؤال في الولايات المتحدة عما يعرقل المرأة الأميركية من الوصول إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض على مدى تاريخ الولايات المتحدة البالغ 244 عاماً.
كان من الملاحظ أن عدد النساء المرشحات إلى المنصب الرئاسي في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، سجل في بداية المنافسات رقماً قياسياً وهو ترشح 6 سيدات مقابل 17 رجلاً، وعلى مدى أشهر عدة، عبّر الناخبون عن رغبتهم في اختيار امرأة، ولكن هزيمة هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 جعلت كثيرين منهم يتصورون أن فوز امرأة في الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس دونالد ترمب سيكون أمراً عسيراً للغاية.
تحيّز جنسي أم صورة نمطية؟
وكشف استطلاع للرأي أجراه مركز إيبسوس أن 33 في المئة من الناخبين الديمقراطيين والمستقلين يعتقدون أن جيرانهم سيكونون مرتاحين لوجود امرأة في البيت الأبيض، الأمر الذي يكشف عن التحيز والتمييز الجنسي للمرشحين في أذهان كثيرين.
وتقول نيكول باور، الأستاذة في جامعة لويزيانا والمتخصصة في علم النفس السياسي، إن الرجال يسيطرون على المجال السياسي لأن هناك افتراضاً أساسياً بأنهم مؤهلون للترشح بسبب اعتقاد كثيرين من الناس أن أموراً مثل الكفاءة والطموح والحسم والثقة والشدة، ترتبط بالسلوك الذكوري، ونتيجة لذلك يفترضون أن الرجال أكثر قدرة على الترشح والمنافسة والاستمرار، بينما ينتظرون من المرأة أن تكدح وتعمل بقوة حتى يُؤخذ ترشحها على محمل الجد.
وتضيف باور أن القوالب النمطية في التفكير غالباً ما تكون كامنة في اللاوعي، ونادراً ما تظهر بالكامل في الخطاب السياسي للناس. وهو ما يؤكده استطلاع للرأي أجراه معهد غالوب الصيف الماضي حيث كشف أن 94 في المئة من الأميركيين لا يمانعون في تولي امرأة منصب الرئاسة. في حين أشار استطلاع أحدث أن 13 في المئة فقط من الأميركيين يعتقدون أن الرجال أكثر ملاءمة لممارسة السياسة من النساء.
مزايا للنساء
مع ذلك، هناك صور نمطية من شأنها أن تفيد النساء ولكنها أشبه بسلاح ذي حدين، حيث يُنظر إلى النساء باعتبارهنّ أكثر جدارة وخبرة في القضايا المرتبطة بالمرأة مثل الرعاية الصحية والاجتماعية ورعاية الأطفال وقضايا المرأة، لكن المرشحات سيستفدن فقط إذا ما كانت هذه القضايا تشكل أولوية للناخب، كما أن الناخبين ينظرون غالباً وبشكل نمطي إلى الرجال المرشحين باعتبارهم أفضل من النساء المرشحات في قضايا الاقتصاد والأمن القومي.
في الوقت نفسه، تلاحظ دراسات أكاديمية التعاطف مع النساء باعتبارهنّ أصدق من منافسيهنّ الرجال. وهي صفات يعتبرها معظم الناخبين ضرورة للسياسيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن سيسليا مو، أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا- بيركلي، حذرت من أن النظر إلى المرشحات من النساء على أنهنّ أكثر تحضراً وأخلاقاً، يحمل مسؤولية أكبر على النساء المرشحات، لأنه يفتح مجالاً أوسع لخيبات الأمل مع كل اختبار، في وقت لا يبدي الناخبون تسامحاً مع النساء بالقدر نفسه الذي يفعلونه مع الرجال، حيث يميل الناخبون إلى معاقبة المرأة المرشحة للانتخابات أكثر من الرجال، إذا تعلق الأمر بالفضائح أو الهجمات السياسية، بسبب توقعاتهم المرتفعة بأن المرأة يجب أن تكون نزيهة وقادرة على إصدار الأحكام بشكل جيد.
تأثير الولاء الحزبي
وفي حين تشير دراسات عديدة إلى أن النساء اللاتي تترشحنّ إلى المناصب القيادية عبر الانتخابات، يجب أن تتغلب على كثير من الصور النمطية والمعايير المزدوجة التي لا يواجهها عادة خصومهنّ من الذكور، تتفق غالبية الباحثين على أن الانتماء الحزبي والتوجه السياسي يتغلبان في معظم الأحيان على تحيز الناخبين ضد النساء في المناصب القيادية، حيث يصطف الناخبون إلى جانب مرشح الحزب بصرف النظر إذا ما كان رجلاً أو امرأة.
وتقول كاثلين دولان، أستاذة العلوم السياسية في جامعة وسكنسون، إن التحيز الجنسيّ قد يلعب دوراً أكبر خلال الانتخابات التمهيدية للأحزاب أكثر منه حينما تصل المرأة كمرشحة عن حزبها إلى المحطة التنافسية الأخيرة للوصول إلى البيت الأبيض، حيث يميل الناخبون إلى التقيد بالولاء الحزبي خلال التصويت، وهو ما تم بالفعل خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016 حين حصلت كلينتون وللمرة الأولى في تاريخ الأمة الأميركية بأغلبية الأصوات الشعبية للناخبين الأميركيين، على الرغم من أنها لم تتمكن من الفوز بأغلبية أصوات المجمع الانتخابي بما يمكنها من الفوز بالانتخابات.
صعوبة الانتخابات التمهيدية
وتعتقد راشيل فوغلستين، أستاذة القانون في جامعة جورج تاون في واشنطن، أن المرشحات للرئاسة في الولايات المتحدة تواجهن عقبة صعبة لا تواجهها نظرائهنّ في البلدان الأخرى، وهي أن المرشحة الأميركية تقوم بحملات طويلة ومرهقة ومكلفة كي تفوز بترشيح الحزب لها، وأثناء هذه الرحلة الطويلة تواجه صوراً نمطية شعبية وتحيزات جنسية عديدة، في حين النساء في النظم البرلمانية بالدول الأخرى يُنتخبن من أعضاء الحزب الفائز في الانتخابات العامة كي تشغلن منصب رئيسة الوزراء. ما يسمح لهنّ بتجاوز التحيزات الشعبية من الناخبين. وهو أمر غير موجود في صيغة الانتخابات الشعبية التي تجري في الولايات المتحدة.
الامتيازات والعلاقات العائلية
وتشير فوغلستين إلى الدور الذي تلعبه الامتيازات والعلاقات العائلية بشكل أو آخر في تقلد النساء سلطة الحكم في البلدان الأخرى حيث تظهر الصلات المباشرة بزعماء سابقين في بلدانهنّ مثل كريستينا فيرنانديز التي كانت السيدة الأولى في الأرجنتين قبل أن تصبح رئيسة البلاد، ومثل رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بنازير علي بوتو التي درست في جامعتي هارفارد الأميركية وأوكسفورد البريطانية وكان والدها رئيساً للوزراء ورئيساً لباكستان.
ومع توجه الناخبين الأميركيين إلى صناديق الاقتراع في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإن التساؤل إذا ما كان يمكن انتخاب امرأة على رأس أعلى سلطة في الولايات المتحدة والعالم، سيكون هو السؤال الخطأ، حيث سيتعين على الناخبين التساؤل عن المرشح الأفضل لتولي هذا المنصب، سواء كان رجلاً أو امرأة ، وإذا لم تكن حظوظ المرأة في هذه الانتخابات قد تضاءلت أو تلاشت بسبب عدم تقدم أي من المرشحات في الحزب الديمقراطي، فإن الأمل سيتجدد بعد أربع سنوات في محاولة جديدة كي تثبت المرأة الأميركية أنها قادرة على قيادة أقوى بلد في العالم شأنها في ذلك شأن الدول الـ65 التي سبقت الولايات المتحدة.