Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السحب" لأريستوفان: لماذا يضلل الفيلسوف الشبيبة؟

سقراط في نظر معاصره الساخر مجرد سوفسطائي سخيف

سقراط يتجرع السم في سجنه بريشة الفرنسي جاك لوي دافيد

هو بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة، أول فيلسوف عقلاني حتى وإن كنا لا نعرف له كتابا أو نظريات مدوّنة أو حتى منقولة بصدقية واضحة. كل ما أُُثر عنه فقرات من هنا وآراء من هناك ولا سيما تلك المقولة الشهيرة: "إعرف نفسك بنفسك" وكونه كان يقول عن فلسفته أنها تجعل منه أشبه بالقابلة القانونية – وكانت تلك مهنة أمه على أي حال - فـ"أنا أولّد الأفكار عند أصحابها بمجرد أن ألعب معهم لعبة السؤال والجواب"، كما كان يقول. غير أن الأهم من ذلك هو أن سقراط الذي عُرف أكثر ما عُرف من خلال العديد من حوارات "مريده" أفلاطون التي روت فصولا من حياته واستعرضت أفكاره واصلة إلى حدّ الحديث عن إعدامه بإجبار الأثينيين له على تجرع السمّ بعد أن حكمت عليه محاكمهم بذلك بتهمة إفساده الشبيبة. والحقيقة أن أفلاطون لم يكن الوحيد الذي كرّس فكره وإبداعه للدفاع عن أستاذه. فسقراط تحوّل مع الزمن من شخصية حقيقية تشغل نقطة البداية من تاريخ ما للفكر الإنساني، إلى أشبه ما يكون بشخصية درامية تقف على قدم المساواة مع أعظم الشخصيات الدرامية في التاريخ. وهكذا من كزينوفون معاصره ومعاصر أفلاطون، إلى الإيطالي غوارديني في عصر النهضة وما بعده، وصولا إلى الموسيقي الفرنسي إريك ساتي مرورا بعشرت غيرهم من مبدعين في المجالات كافة، رُسمت صور مدهشة لسقراط على شكل لوحات وأوبرات وروايات ومسرحيات وما إلى ذلك، قبل أن يختصر المخرج الإيطالي روبرتو روسليني ذلك كله في فيلم بديع صوره في سبعينيات القرن العشرين.

وربما لا نكون في حاجة هنا إلى القول أن كلّ الذين تناولوا سقراط في أعمالهم الإبداعية أو الفكرية إنما فعلوا ما قام به المفكر المصري سلامة موسى معتبرينه شهيد حرية الفكر. لدى الجميع كان لسقراط الحقيقي أو الدرامي تلك الصفة. لدى الجميع ولكن مع استثناءات قلية بل نادرة، لعل أبرزها الكاتب المسرحي الإغريقي أريستوفان معاصر سقراط وأفلاطون تقريبا، والذي لم يتورّع في أوج اندلاع "قضية سقراط" أيام "الديمقراطية الأثينية" عن كتابة مسرحيته التي ستطبق شهرتها الآفاق، بعدما قُدّمت في المدينة/ الدولة اليونانية ونالت من الجوائز والنجاح الشعبي ما نالته، حائزة بالطبع على رضى سلطات ذلك الزمن، وإقبال المتفرجين الذين كان كثر منهم حاقدين على ذلك الفيلسوف الذي أراد تنويرهم وإيقاظهم فرفضوا "مصرّين على البقاء في ظلمات جهالتهم"، على حد تعبير واحد من مفكّري تلك الأيام.

عنون أريستوفان مسرحيته الساخرة تلك بـ"السحب"، ولسوف نقول بعد سطور معنى هذا العنوان. أما هنا فنتوقف عند أحداث المسرحية وشخصياتها بما فيها طبعا، سقراط الذي يُقدّم باسمه، لكنه يظهر هنا كنقيض تام لذاك الذي عرفناه دائما من خلال ما كتبه أفلاطون عنه.

ذلك الفاسد المفسد

في "السحب" التي قُدّمت للمرة الأولى في العام 423 ق.م. يطالعنا سقراط وهو في الحادية والستين من عمره متَّهَما بالـ"لا تقوى" و"إفساد الشبيبة" اتهاما تؤيّده المسرحية ولو بصورة كاريكاتورية، وهي تصوّر الرجل تحت سمات واحد من أولئك السوفسطائيين الثرثارين – الذين نعرف من خلال حواريات أفلاطون على أية حال أنهم كانوا خصوما فكريين ألدّاء لسقراط -. لكن أريستوفان شاءه سوفسطائيا مأجورا يستعين به العجوز الثري ستريبسياد كي يساعده على تقويم وتأديب ابنه فيديبيد، جاعلا إياه ينصر القضايا الظالمة على القضايا العادلة. وطبعا سيقوم سقراط بالمهمة المطلوبة مقابل الأجر السخي الذي يدفعه له الثري العجوز الذي لا يريد لابنه أن يكون طيّبا لأن ذلك يكلفه الكثير أما إفساده فسيكون مربحا له. ولما كان سقراط، في رأي الديمقراطية الأثينية كما في رأي الكاتب، ماهرا في إفساد الصالحين، ها هو يقوم بعمله هنا وهو الهرطوقي الذي لا يؤمن إلا بالفوضى ومقدرة اللغة على التلاعب بالعقول. ولكنه أيضا وخاصة يؤمن بالسحب التي تمثل في المسرحية توهان العقول وانصراف السوفسطائيين – وسقراط بالتالي – إلى الإرتباط بترهات تعلو على الواقع الإنساني وتضيّع الشبان في متاهات اللاواقع والزوغان بعيدا عن الآلهة. وكل هذا تقدّمه المسرحية وكأنه أمر مفروغ منه مصوّرة بشكل ضاحك، "سخافة سقراط" في الإمعان في التحدث عن تلك الأمور وكأنها حقائق أزلية، وعن المفاسد وكأنها هي هي الأخلاق المطلوبة. ومتناولا بعض السطحيات المزعومة علمية وكأنها أسمى الدروس الفكرية بما في ذلك الإنشغال بالجدليات الواهية وقواعد اللغة الخاطئة.

كل هذا يصفه سقراط ب"السحب" مقتنعا ومقنعاً به، ومتمسكا بحكاية السحب التي تتمثّل هنا على الخشبة من خلال مجموعة من نساء ذوات أنوف مبالغ في طولها وألوان رمادية تطغى عليهن وعلى ثيابهن، بصورة منفرة. ولكن إذا كان ستربسياد قد أراد الإستعانة بسقراط لمجرد أن يعلّم ولده في المقام الأول، فن التخلف عن دفع الديون التي كان راكمها على أبيه، فإنه سوف يُذهل ويَغضب حين يكتشف أن تعاليم سقراط قد ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. لقد خرج فيديبيد من صف سقراط وقد تحول هو نفسه إلى سوفسطائي لا يتوقف عن التوهان بين السحب ذوات الأنوف الطويلة غير عابئ على أي حال بالديون التي كبّدها لأبيه. صحيح أن تحوّل الإبن إلى سوفسطائي قد سرّ الأب أول الأمر جيث خيّل إليه أن العلم الذي اكتسبه إبنه من الفيلسوف سوف يمكنه من أن يكسب أية دعوى قضائية تقام ضده من الدائنين... ومن هنا راح يطرد هؤلاء الدائنين ضاربا إياهم بالعصي في كل مرة قصدوه لاسترداد أموالهم وهو واثق بأن ما يفعله قانونيّ. ولكنه بعد حين سيلاحظ أنه قد خُدع وأن عقابه بات يأتيه من عقر داره: إذ ها هو يُضرب بالعصيّ من قبل إبنه نفسه الذي، بقناعة علمية "سقراطية" متكاملة أخبره أنه هو، أي الإبن، إنما يتصرّف تبعا لأحكام القوانين التي تعطي الأبناء الحق المطلق في تقويم آبائهم. أفلم يعلمه سقراط هذا في واحد من دروسه الأكثر صلابة والتي لقنه إياها في بؤرة التفكير التي كان يلقي دروسه فيها؟

المهزلة التي عاشت طويلا

أجل لقد كان سقراط من علّمه ذلك الدرس الثمين كجزء من "فلسفته" الفاسدة المفسدة. ومن هنا، وإذ أدرك ستريبسياد فداحة الخطأ الذي ارتكبه بتسليمه مقدرات إبنه إلى "ذلك السوفسطائي اللئيم" بحسب توصيفه، انطلق متضرعا إلى الآلهة، ثم اندفع نحو بيت سقراط وقد عزم على أن يشعل النار فيه. من الواضح أننا هنا أمام مسرحية قد تكون هزلية ومسلية بشكل يتماشى مع أسلوب أريستوفان (450 – 385 ق.م.) المعهود، في العدد القليل الذي وصل إلينا من بين المسرحيات الكثيرة التي كتبها في حياته ونال عنها من الجوائز ما جعله يُعتبر المعادل الهزلي لأسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس مجتمعين، وثلاثتهم كما نعرف كانوا من أساطين الدراما الفجائعية الإغريقية؛ غير أن "السحب" هوجمت كثيرا من جانب السقراطيين الذين دائما ما رأوا فيها بروباغندا سلطوية كان همها أن تبرّر ما تقترفه السلطات بحق ذلك الفيلسوف. غير أن ذلك الهجوم لم يمنع المسرحية من أن تبقى حتى يومنا هذا، وبصرف النظر عن صوابيتها الفكرية أو الأخلاقية والتاريخية، واحدة من علامات المسرح الإغريقي، بل حتى واحدة من أولى المسرحيات التي خرجت هزليا من إطار الحكايات العائلية والإجتماعية وكوميديات السادة والعبيد والطلاق والزواج وصراع المرأة والرجل للسيطرة على شؤون البيت والعائلة، إلى ملكوت الفكر منددة ناقدة وغالبا بقدر كبير من الحقد والتحامل من المدهش أنه نال إعجاب أثينا التي كانت توسم بالعقلانية المتشددة في ذلك الحين!

المزيد من ثقافة