قبل أن يحين الموعد المُقرَّر لزيارة الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير للسودان غداً الخميس 27 فبراير (شباط)، كان آخر ما تبقى في ذاكرة السودانيين من العلاقات السودانية - الألمانية، هو العلاقة الوديّة التي جمعت بين ألمانيا وإقليم دارفور في سبعينيات القرن الـ19. وصل الرحالة والطبيب الألماني جوستاف ناخيتغال إلى دارفور عن طريق بحيرة تشاد وودَّاي. وخلال بضعة أشهرٍ من 9 مارس (آذار) إلى مايو (أيار) 1874، استطاع ناخيتغال جمع معلومات عن المنطقة بمساعدة السلطان إبراهيم قرَض، الذي كانت دولته على وشك السقوط في يد الزبير باشا رحمة تاجر الرقيق السوداني المعروف في العام التالي، ودخلت دارفور تحت نفوذ الحكم التركي - المصري حتى اندلاع الثورة المهدية. ولأنَّ ما دوُّن ضئيلٌ مقارنةً بما حدث على أرض دارفور، وظلَّ شفاهياً ناقلاً ثراء العادات والتقاليد والحكم والإدارة هناك، فإنَّه في هذه الحالة تصدق مقولة المؤرِّخ محمد سعيد القدال "إنَّ تاريخ السودان لا يزال في صدور الرجال".
شاهد على التاريخ
وكان حصيلة تلك الرحلة التي استغرقت ست سنوات، كتاب ألَّفه ناختيغال باسم "الصحراء وبلاد السودان"، وهو وصف مفصَّل لرحلته عبر الصحراء الكبرى، شمل تاريخ المنطقة وحكَّامها ونباتها وسكانها ونشاطهم الاقتصادي والاجتماعي. واسم بلاد السودان عند المؤرخين والجغرافيين كان يشير إلى الحزام الذي يقع جنوب الصحراء وشمال الغابات الاستوائية، ويمتد شرقاً حتى ساحل البحر الأحمر، أما غرباً فيصل إلى نهر السنغال والمحيط الأطلسي. احتوى الكتاب على ثلاثة مجلدّات لرحلته عبر الصحراء الكبرى، وفي المجلد الثالث والأخير قام بسرد رحلته من ودّاي (في شرق تشاد الحالية) عبر دارفور (في غرب السودان الحالي)، وأخيراً إلى الخرطوم على نهر النيل. هذه المسافة التي قطعها ناختيغال في أفريقيا حتى وصل إلى السودان حوالى (10.000 كلم)، لم تكن قد وطأتها قدم أي أوروبي قبله. وبذلك تجيء أهميته كأبرز رحالة ألمانيا وأشهرهم في أفريقيا والعالم.
وقد جاءت سياحته في سلطنتي ودَّاي ودارفور ضمن تحركات الرحَّالة الألمان هاينرش بارت وأهروفلدر وبكلر مسكاو وألفريد أدموند بريم وغيرهارد رولفس وسلاطين النمساوي الجنسية الألماني الثقافة واللغة، وغيرهم في إطار محاولات ألمانيا التوسعية وطموحاتها الإمبريالية في أفريقيا، التي قضى عليها انتصار الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) في الحربين العالميتين على التوالي، حتى فقدت مستعمراتها في تنجانيقا ورواندا وبوروندي شرق أفريقيا وفي الكاميرون وسط أفريقيا وفي ناميبيا جنوب أفريقيا، وتقاسم الحلفاء المنتصرون تركتها هناك. وعلى الرغم من قصر المدة التي مكثها في دارفور، إلَّا أنَّ ذلك لم يمنع ناختيغال من جمع مادة غزيرة ثرة وروايات شفاهية ومكتوبة عن تاريخ دارفور الوسيط، خصوصاً أنَّه كان آخر من شاهد سلطنة دارفور ووثَّق تاريخها، وهي في آخر حلقة من حلقات انهيارها وسقوطها بعد أن ظلَّت لأكثر من ثلاثة قرون كما في بعض الروايات.
بين نظرتين
لقد استثار السودان بوصفه موطناً لتطورات حضارية كثيرة، انتباه العالم الخارجي على مدى تاريخه، فبدأ اهتمام علماء الآثار والأجناس الألمان به منذ القرن الـ19. كما أثارت مسألة وجوده في منطقة وسطى بين البلدان العربية والأفريقية، اهتمامهم في مجالات عدة كالسياسة والتاريخ.
فلو تفحصنا الرواية المجردة، التي كانت تقدّم الشخصية السودانية للرحّالة الألمان بوصفهم رواداً في هذا المجال، سنجدها قد قدَّمت شخصية ناقصة أو مُحاطة بأطر من الغرائبية، الأمر الذي دعا إلى إنتاج رواية بديلة تدحض ذلك التقديم المعبَّأ بمظاهر العلوّ العنصري. كان النقل الغربي قد نسج خيوطاً من الأوهام حول الشخصية الأفريقية بشكل عام، وكرَّس تشويهها لتبرير الاستعمار باعتباره واجباً حضارياً، وكذلك فعل العقل الجمعي الذي كان يشدُّ بكل قواه على تلك الخيوط. وهذه الصورة ليست ببعيدة عن الأذهان، فتاريخياً نجد أنَّ المفاهيم والنظريات والتحليلات التي تناولت الإنسان غير الغربي في زمن الاستعمار، كشفت عن تمييز عنصري واضح، ولم تمثِّل إلَّا أفكاراً اعتمدت فروضاً لا أساس لها سوى في الذهن الغربي المركزي، بل كثيراً ما استهدفت خدمة المشروع التطبيقي للاستعمار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما ناختيغال فكان سرده لدارفور بناء على المشاهدة وليس النقل، إذ قام بتقسيم سكان دارفور إلى عرب وزنج من ناحية، وإلى سكان أصليين وأقوام جرى غزوها وأغراب من جهة أخرى. فيما رأى في عرضه المجمل لتاريخ دارفور، الأثر الذي أحدثه العنصر العربي عبر القرون على القبائل المحلية، وكيف، وفقاً للروايات المحلية، نشأت آخر مملكة من اختلاط "التنجر" وهم قبيلة عربية، مع "الفوارة"، وهم سادة البلاد الأصليين. ويبدو أنَّ "التنجر" بسبب قلة عددهم قد ضاعوا في هذا الاختلاط ما يجعلهم يحسبون في عداد الفروع غير العربية في "مملكة الفور".
رابط وجداني
عبَّر ناختيغال عن الجو العام السائد أثناء مكوثه في دارفور بأنَّه علِم من رفاقه عن التغيرات في أوروبا، خصوصاً ألمانيا نتيجة الحرب مع فرنسا وبداية الصراع الحضاري والمعاناة في إسبانيا، وفترة عدم الاستقرار الانتقالية في فرنسا وموت نابليون بونابرت. ولكنه كان متأثّراً بشكلٍ مباشر بسبب ما وصفه بأنَّه منذ ذلك التاريخ بدأت العداوات المفتوحة بين مصر ودارفور، حينما أُرسلت تعليماتٌ لإسماعيل باشا حاكم عام السودان المصري في الخرطوم بالزحف إلى دارفور، وزُوّد الزبير باشا بقوات نظامية وبمدفعٍ. وأخذت قواته أيضاً تقوم بهجمات إلى الشمال الغربي من منطقة الرزيقات على منطقة الهبانية. وما كان يمرُّ يوم من دون وصول أنباء مُقلقة عن الحرب.
هذا الرابط الوجداني الذي حمل صورة إيجابية عن دارفور، كانت تقابلها صورة مشوَّشة عن السودان تشكَّلت في ظروف متوتّرة من الصراعات والنزاعات، وبوصف أنَّ أفريقيا المكان المناسب للتلوين برمزية الرغبة البدائية الأولى، فقد تشبَّعت بهذا المعنى الرمزي وساهم في ابتعاد الرحالة عنها، ثم دحضه إقبال البعض مثل ناختيغال عليها. وهذا يعني أنَّ الرحالة غير المحايد بالفعل أعطى صورة ذاتية أكثر مما هي صورة موضوعية، وبذلك نأى عن أن يكون جغرافياً مشغولاً بالمظهر الخارجي للمكان إلى أقصى حد ممكن.
اندلاع الحرب
وبقيت تلك الذكرى رمزاً لاهتمام ألمانيا بدارفور، وهو اهتمام تجلَّى في المقابل بهجرة كثير من أبناء دارفور إلى ألمانيا بعد اندلاع الحرب هناك منذ عام 2003. وذلك هو ما أهَّل ألمانيا لأن تكون فاعلة بقدر كبير خلال أحداث دارفور من جهة، كما جعلها من جهة أخرى الوجهة المُفضَّلة للمهاجرين وطالبي اللجوء السياسي من أبناء المنطقة. كما اعتمد دورها على استضافة رموز الحركات المُسلَّحة ورعاية جزء من مباحثات السلام. وأصبحت في وقت من الأوقات مركزاً لحركة الناشطين السياسيين ومنطلقاً لنشاطهم السياسي والثقافي والاجتماعي، خصوصاً أن بعضهم متزوج من ألمانيات. وهذا ينطبق على القادة السياسيين والأكاديميين والإعلاميين، إذ تستضيف ألمانيا أكبر عدد من أبناء دارفور مقارنة ببقية دول أوروبا.
ومنذ انفجار أزمة دارفور عام 2003، تراوحت المشكلة بين محطاتٍ مهمة يصعب تخطيها كونها استنفذت كثيراً من الجهود لوضع حل نهائي للأزمة. لم تحقّق أي منها حلاً دائماً بل كانت مقدمات لمشاكسات تبدأ باتفاق على التوقيع وتنتهي بنقض العهود والمواثيق. كانت البداية باتفاق وقف النار الإنساني الخاص بالنزاع في دارفور الموقع في أنجمينا بتاريخ 8 أبريل (نيسان) 2004، بين الحكومة السودانية والحركتين المسلحتين "العدل والمساواة"، وحركة "تحرير السودان". ثم بروتوكولات عدة خاصة بإنشاء مساعدات إنسانية واتفاق حول ترتيبات إنشاء لجنة لوقف النار ونشر مراقبين دوليين، ثم البروتوكول المتعلّق بالوضع الإنساني في دارفور، وبروتوكول تعزيز الوضع الأمني وإعلان المبادئ لتسوية النزاع السوداني في دارفور. وعندما وُضعت خطة عمل في مباحثات سلام دارفور، أشاد بها يوشكا فيشر وزير الخارجية الألماني آنذاك عند زيارته السودان، وطالب وزير الخارجية السوداني مصطفى عثمان إسماعيل بضرورة نزع سلاح ميليشيات "الجنجويد"، إلا أن رد الوزير السوداني كان أن ألمانيا تأوي العديد من قيادات الحركتين المسلحتين في دارفور المسؤولين عن الخروق التي نفذوها بعد اتفاق أنجمينا، وأن على ألمانيا ألا تمدَّهم بالمال وأن تحثَّهم على الكف عن مخططاتهم العسكرية في دارفور. ولما بدأت مفاوضات السلام بين الحكومة السودانية والحركتين في أغسطس (آب) 2004، أكّدت الخارجية الألمانية دعمها لخطوات الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، وأنها ضمن دول الاتحاد الأوروبي لن تسمح "ببلقنة إقليم دارفور ومع وحدة الأراضي السودانية". وهكذا مثل الموقف الألماني أكبر داعم في المجموعة الأوروبية لقضية دارفور في وجه حكومة الخرطوم السابقة.
وما رسَّخه ناختيغال هو أنه قدم ألمانيا كنموذج حي كونها الدولة الأوروبية الوحيدة التي تشارك حالياً عسكرياً في بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (يوناميد)، فضلاً عن اهتمامها بالاستمرار في دعم الحكومة الانتقالية من أجل حل نزاع دارفور. فما قام به ناختيغال جاء عكس ما تناقله الرحالة عن دارفور، إذ صُوّر الإقليم كدائرة مغلقة تُنسج حولها الأساطير. كما أن معظم الرحالة لم ينتبهوا إلى أهمية المعالجة التاريخية والتحليل الاجتماعي للعلاقات الغربية - الأفريقية، بل تبنى معظمهم أخطاء الأنماط المطروحة من المراحل السابقة، أو التي روجتها المدارس الاستشراقية والأنثروبولوجية عن الشعوب وتطوراتها وأهدافها.