Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

راوي علي المقري يتخبط في كتابة سيرة القائد المجهول

عمل يندرج في سياق "رواية الديكتاتور" ... بين واقعية ملتبسة وتخييل ضئيل

الروائي اليمني علي المقري (يوتيوب)

لا تحصى الروايات العالمية التي تندرج في خانة "رواية الدكتاتور" التي انطلقت في أميركا اللاتينية مع أعمال شهيرة أنجزها روائيون كبار من أمثال الباراغواني أغوستو روا باستوس والكوبي أليخو كاربانتيه والغواتيمالي ميغال أنخيل إستورياس والكولومبي غبريال غارثيا ماركيز والبيروفي ماريون فارغاس يوسا وسواهم. وما لبثت هذه الرواية أن شهدت تطوراً في الرؤية والتقنيات السردية مع صدور أعمال في أميركا اللاتينية وخارجها، كتبها روائيون جدد من أمثال التشيليين روبرتو بولانو وأنطونيو سكارميتا والصومالي نور الدين فرح والليبي هشام مطر والمغربي ياسمينة خضرا وسواهم. وبدا واضحاً أن شخصية الديكتاتور لم تبق وقفاً على أدب أميركا اللاتينية بل تخطتها إلى آداب شعوب عدة، وانطلقت إلى حقول فنية أخرى. وبعدما شقت هذه الرواية طريقها إلى الأدب العربي الجديد مع أعمال تناولت شخصيات ديكتاتورية عربية ومنها: "عالم صدام حسين" للكاتب مهدي حيدر (اسم مستعار) و"في بلاد الرجال" لليبي هشام مطر (بالإنجليزية) و"الليلة الأخيرة للرئيس" للجزائري ياسمينة خضرا (بالفرنسية) و"تشريخ طاغية" للبناني ألكسندر نجار (بالفرنسية) و"ديكتاتورية هادئة جداً" للتونسي توفيق بن بريك (بالفرنسية) و"الصخب والصمت" للسوري نهاد سيريس و"فتن الرؤوس والنسوة" للمغربي بنسالم حميش و"عين الشرق" للسوري إبراهيم الجبين وسواها. وحديثاً أصدر الروائي اليمني علي المقري رواية "في بلاد القائد" (دار المتوسط) التي تندرج في السياق نفسه. والمقري روائي يمني شاب (مواليد 1966) يقيم في فرنسا، عرفت روايته "اليهودي الحالي" نجاحاً وترجمت مع روايات أخرى له إلى الفرنسية والإنجليزية وسواهما.

الاسم المغفل

ولئن لم يسمّ المقري شخصية "القائد" علانية مكتفياً بهذه الكنية، ولا البلاد التي يحكمها وتدعى مجازاً "عراسوبيا" أو "بلاد الثورة"، وهو اسم اختاره القائد بنفسه، فبدا واضحاً أن معمر القذافي وليبيا هما المقصودان، ليس لأن الوقائع والأحداث تدل عليهما فقط، بل لأن مواصفات "القائد" المنحرف والطاغية والمجنون تؤكد هويته، على الرغم من لجوء المقري إلى تغريب الشخصية و"تضخيمها" قليلاً في المعنى "الغروتيسكي" للمضي في السخرية منها وفضح شذوذها وعدم سويتها، مثلما فعل روائيون كثر بشخصية الدكتاتور. وقد تشكل فضائح القذافي وسيرته الغريبة وشبه الغرائبية مادة غنية وجاهزة بين يدي أي روائي يبغي معالجتها. وقد تمكن فعلاً الروائي ياسمينة خضرا والروائي ألكسندر نجار من معالجة هذه الشخصية بصفتها الدكتاتورية في روايتيهما واستخدما كل ما توافر من وثائق ومعلومات وحكايات عن المعمر، بغية رسم صورة شاملة له، واقعية ومتخيلة في آن واحد. ويبدو أن المقري قرأ على الأقل، رواية خضرا بحسب ما كتب مرة في مدونته وأخذ عليها كما يقول "إشكاليات الكتابة التي لا يمكن أن يقع فيها أي عارف بالإمكانات الأولى لكتابة أي رواية". وحمل نصه عنواناً لافتاً هو "من يكتب رواية القذافي؟". غير أن رواية المقري لم تخل بدورها من مشكلات في المعالجة الروائية لشخصية القذافي والأفق السردي الذي اختاره لها ورؤيته إليها التي بدت عامة، عطفاً على تهربه من تسمية الشخصية وتعيين مكانها وزمنها، ما جعلها رواية مجازية أو ميتافورية ولكن من دون أن تبرر هاتين الصفتين. وقد يكون من حق المقري أن يعتمد هذه الطريقة المعروفة لكنها كانت تحتاج لديه إلى المزيد من البلورة والترسيخ لتتحاشى مكامن النقص التي تتهددها.

إلا أن المقري نجح في اعتماد لعبة الراوي (العليم طبعاً) الذي جعله روائياً بدوره ولكن بعيداً من صفة "القرين" مبدئياً، على رغم بعض المواصفات التي قد تذكر به شخصياً ومنها اسم علي. هذا الروائي (الراوي والبطل) الذي يقيم في بيت فقير في أحد الأحياء البائسة في القاهرة، يتلقى دعوة من شاعر يدعى محمدين، هو وزير سابق ومستشار لـ "القائد"، قائد بلاد تدعى "بلاد الثورة"، إلى المشاركة في كتابة سيرة القائد مع مجموعة من الكتّاب، لقاء مبلغ كبير من المال. يتم اللقاء بينهما في منزل روائي آخر في القاهرة يدعى إسماعيل النون. والمفاجئ (وغير المقنع) أن محمدين يقول للروائي علي، إن القائد معجب برواياته، وهذا الإعجاب تبديه لاحقاً ابنة القائد شيماء، ما يجعل من علي الفقير والمعدم والعاجز عن تطبيب امرأته سماح المصابة بالسرطان، روائياً مشهوراً ومعروفاً، مع أنه لم يفز بجائزة "شهرزاد" للرواية العربية جراء خلاف (شكلي) قام بين عضوين من لجنة التحكيم. لا يعلن الراوي (والروائي) هويته، أهو مواطن مصري أم مقيم في القاهرة؟ وكذلك هوية الروائي المعروف إسماعيل النون، لكن مقهى "زهرة البستان" معروف في قلب القاهرة. وعندما تتوفى زوجته في غيابه تدفن في ما يشبه المقبرة الجماعية فلا يبقى لها أثر، ما يدل على هويتها المغفلة.

الضيف المأسور

عندما يسافر علي إلى "بلاد الثورة" يجد نفسه مقيماً في "بيت الضيافة" الفخم، شبه مأسور، فمهمته يجب أن تظل سرية، وممنوع عليه الخروج والتنزه، مع أنه يكسر القرار مرة ويتنزه في المدينة متعرفاً إلى شوارع وساحات تحتل جدرانها صور القائد. حتى التلفزيون هو محلي، ينقل فقط أخبار القائد والقصر. وعندما يُقاد إلى القصر للقاء القائد يكتشف أن القصر على شكل خيمة يحيطه مئات الحراس والسيارات المسلحة. ويكتشف أيضاً أن القائد يملك فريقاً من النسوة والفتيات، يهتممن بشؤونه، وهاتان إشارتان إلى عالم القذافي. وفي "مكتب التوجيه الفكري" تبدأ اللقاءات فيتعرف إلى فريق كتابة سيرة القائد: الأحمد كاتب روايات عن حياة القائد، المحب مؤرخ متخصص بتاريخ القائد، أبو اليمن شاعر وزميل القائد في الدراسة، نادية رسامة وشاعرة سكرتيرة لجنة كتابة السيرة. وجميع هؤلاء كانوا لا يتوقفون عن المبالغة في كيل المدائح للقائد.

تتلهى لجنة الكتابة بالتفاصيل والعناوين وصفات القائد أو الأسماء التبجيلية التي يجب أن تطلق عليه إلى حد التأليه ومنها: "المبجل، المرجو، الملهم، الهمام، الثائر، العارف، الوعد، المخلد، المضيء، المغيّر وسواها. أما عنوان السيرة فتم الاختلاف عليه وقد اقترح علي: "العقد الفرد في سيرة الملهم الأحد معمر الدين والدنيا وسائس الناس"، لكن القائد اختار عنواناً آخر هو "العقد الجمان في سيرة المبجل الهمام". السيرة لم تكتب طبعاً، فالثورة سرعان ما تقع وتعم التظاهرات أنحاء البلاد. وليت المقري استفاد من فكرة السيرة ووضع للقائد سيرة متخيلة وغرائبية على طريقة ماركيز، منذ طفولته حتى وصوله إلى كرسي الحكم، فهو كان لينقذ الرواية من فقرها التخييلي ويضيف إليها حكايات شيقة لم ترد في أي رواية عن الديكتاتور. حتى في تطرقه إلى الحياة الجنسية للقائد بدا خجولاً وعابراً، ومما ذكره في هذا القبيل ادعاء القائد أنه صاحب خبرة في مرض سرطان الثدي لدى النساء ما أتاح له مرة فرصة ملامسة نهود فتيات كثيرات، واختيار الجميلات بينهنّ. وكان في إمكانه الاستفادة من رواية رهيبة شبه توثيقية عن حياة القذافي الجنسية كتبتها الفرنسية أنيك كوجان وعنوانها "الفرائس: بين حريم القذافي" . أما وصف الراوي للقائد بعدما قابله فجاء طريفاً وغير "كاريكاتوري"، فهو وجده مربوع القامة، لا طويلاً ولا قصيراً، متجهم الوجه وسارح البال، يرتدي عباءة بيضاء وقميصاً وبنطلوناً أبيضين وينتعل حذاء أبيض ذا كعبين طويلين من زجاج لامع.

الابنة ضد أبيها

أما ابنة القائد شيماء، فهي غير سوية أيضاً. وقد فوجئ بها الراوي (علي) تطلب منه الزواج من دون أن تتعرف إليه جيداً، وتسعى إلى الاختلاء به بغية ممارسة الحب معه. وتعلن إعجابها برواياته مثل أبيها (يا للمفارقة) وتذكره بإحدى بطلاته المحرومة من الجنس في روايته "رغبة" بسبب زوجها العنين. قالت له ابنة القائد التي تبلغ الثامنة والعشرين، بلا مواربة: "أنا أعيش الحرمان مثلها". طلبت الزواج منه سراً، فهو غريب والغرباء يمكن الاطمئنان إليهم، على خلاف أبناء البلاد. وهذا ما حرمها عيش متعتها. حتى زوجها اختفى فجأة وقيل إن القائد ذبحه لإفشائه سراً عائلياً. أما المصادفة غير المتوقعة فهي هروب شيماء وأمها بعد وقوع الثورة، إلى "بيت الضيافة" الذي يقطنه الراوي والذي تحول إلى مضافة للثوار وأهلهم. هربت مع أمها محجبتين لئلا يعرفهما أحد وينتقم منهما، وإذا بالراوي يكتشف أنهما تنامان في الجناح نفسه الذي ينام فيه. وهنا تصارح شيماء الراوي بأنها تريد أن يُحاكَم أبوها ولا يقتل وتقول: "حياتي معه عذاب في عذاب، لا أستطيع بوجوده أن أحقق رغباتي الشخصية". تنكر شيماء والدها مثلما أنكره معظم الذين كانوا إلى يمينه، بعد الثورة التي قامت ضده وأطاحته لاحقاً. ويفرد المقري صفحات للثورة في مقاربة عامة، لا سيما أن "بيت الضيافة" الذي يقطنه، استحال مقراً للثوار. أما نهاية القائد فهي تماثل كثيراً نهاية القذافي القاسية والشنيعة، كما سردها الراوي من خلال ما رأى وسمع، وهي معروفة أصلاً.

لم يأتِ الروائي علي المقري بجديد في استعادته صورة الديكتاتور، مع أنه على بينة من هذا الأدب الروائي الذي تناوله، ففي أحدى جلسات كتابة سيرة القائد يستعرض الراوي ثقافته في حقل أدب الديكتاتور ويسمي أسماء كثيرة. وقد ساهم مبدأ اللاتعيين والغفلة وتحاشي التسمية، في جعل الرواية مجازية أو ميتافورية كما تمت الإشارة سابقاً، من دون أن تفيهما حقهما. فشخصية الديكتاتور في المطلق تتطلب معالجة أشد طرافة وتخييلاً وغرائبية، والأمثلة هنا كثيرة. تُرى هل تسرّع المقري الذي بات له موقع في الرواية العربية الشابة، في إنجاز الرواية من دون البحث عن عناصر سردية جديدة وتقنيات جديدة، أم أنه شاء عمله في متناول القراء العاديين الذين لا يعنيهم سوى مادة السرد؟ أما شخصية الراوي الذي يدعى علي فبدت تحتاج إلى المزيد من التأطير والإبراز، وإلى إضفاء ملامح مزيدة، خصوصاً أنه واحد من الخاسرين الكبار، وعلى مستويين، مع النظام الديكتاتوري والثورة، فعاد إلى القاهرة خالي الوفاض، وقد فقد امرأته والأمل بعلاجها ودفنت من غير أن يشارك في جنازتها. ألم يكن من الممكن الإفادة أكثر من شخصية روائي معروف يؤدي دور الراوي ويخوض مغامرة خطرة هدفها مال الديكتاتور ولو لغاية إنسانية؟

المزيد من ثقافة