Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محسن حرّاقي يستحضر صور التاريخ عبر التأويل الفني

أعماله المعروضة في باريس تقدم مشهداً شاملاً لتجربة مغربية

الفنان المغربي محسن حرّاقي في محترفه (اندبندنت عربية)

تحت عنوان "وجود الصورة يساهم في اختفائها"، تنظّم غاليري "إيمان فارس" الباريسية معرضاً فردياً للفنان المغربي محسن حرّاقي يتألف من أعمال متعددة الوسائط، يستكشف حرّاقي فيها وسائل قراءة الصور انطلاقاً من مبدأ تأمّلي بسيط مفاده أن الصور، مثل الخلايا أثناء توالدها، يلتهم بعضها بعضاً.

ولفهم مسعى الفنان التشكيلي، لا بد من الإشارة بدايةً إلى أنه درس في "المعهد الوطني للفنون الجميلة" في تطوان حيث تابع تعليماً ذا منحى تصوّري، لكن مرسّخ بقوة في الواقع. من هنا تلك الجمالية الهجينة ومبادئ النقل الفاعلة في فنّه، وأيضاً ذلك الاستثمار للصور من منطلق تربوي داخل أعمالٍ لا سعي فيها للاختباء خلف المظاهر، وتستدعي قراءة مفاهيمية.

وفي زمنٍ تبدو الصور حاضرة في كل مكان، ما يجعل من إنتاج المزيد منها مسألة حسّاسة لا تخلو من مجازفة، سعى حرّاقي في أبحاثه الجديدة إلى دراسة تاريخ الصورة وتحليله، وخصوصاً الصورة الفوتوغرافية، عبر ربط إشكاليات صيرورتها بمصدرها المادّي. وفي هذا السياق، جمع باقة صور تاريخية من أجل المساهمة في تقييمها من طريق إعادة العمل عليها. تدخّلات تندرج ضمن تلك التي يمكن لباحث القيام بها، وتتوق، وفقاً للفنان، إلى بلوغ انحرافٍ في قراءة هذه الصور وإعادة توجيه النظرة الملقاة عليها عبر إسقاط حروفٍ أو أشكال هندسية على سطحها.

الصور المختارة تعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى، لكنها توثّق لما كان يدور بعيداً من جبهات القتال. وباستبقائه على عناوينها، هدف حرّاقي إلى محو المسافة الزمنية التي تفصلنا عن مضمونها، بالتالي عن لحظة خطابها. وبالتصاميم والرموز التي أدخلها عليها، تمكّن من تحويلها إلى صورٍ جديدة لم ينجزها بنفسه لكنه ساهم ذهنياً في تشييدها. ولبلوغ ذلك، لجأ إلى آليات تنتمي إلى علوم البصريات والهندسة، وشكّلت له كمّاً من الوسائل التي تسمح بالتلاعب بالإدراك البصري ما أن يتم إشراكها بصور لا تتقاسم وإيّاها أي رابط ظاهر. وسائل لم يحوّل الفنان بواسطتها الصور من منظور تقني فحسب، بل معنوي أيضاً عبر إثرائه إياها بآفاق دلالية جديدة.

وصف أفريقيا

وثمّة سلسلة صور أخرى في معرضه الحالي تحمل عنوان "وصف أفريقيا" وتشكّل قصة انبثاق الصورة أيضاً جوهر بحثه فيها. ولإنجازها، استعان حرّاقي بالرسوم التزيينية التي نجدها في كتاب مواطنه، المستكشف والدبلوماسي الشهير ليون الأفريقي (الحسن بن محمد الوزان)، "وصف أفريقيا". رسوم أضاف الفنان عليها طبقة جديدة من المعنى عبر إعادة استنساخها على ركيزة ملتبسة، حجر الباطون أو الإسمنت الذي حلّ خلال فترة استعمار فرنسا المغرب العربي مكان المواد التي كانت تُستخدَم محلياً في البناء. ركيزة مشحونة بالدلالات إذاً مكّنته من استحضار "كفاءة" المستعمِر في التشييد، وفي الوقت نفسه، في القضاء على المهارات والخبرات المحلية.

وهذا ما يقودنا إلى طبيعة عمل حرّاقي ككُل الذي يلجأ فيه إلى وسائط متعددة، كالرسم والفيديو والتجهيز والصورة الفوتوغرافية والأداء، ككمٍّ من الوسائل التي تسمح في مساءلة رهانات اجتماعية وسياسية وتاريخية كبرى. وفي هذا السياق، يستكشف التشييدات الثقافية وعملية تشكّل الذاكرة والخيال الجماعيّين، مقارباً في طريقه موضوعات مهمة مختلفة، كنتائج الهجرة أو الاستعمار، عملية انتقال السلطة السياسية بالوراثة، العنصرية، التاريخ وأثره في الحاضر، المكتوب وركيزته الملموسة، أي الكتاب.

ففي موضوع الهجرة، أنجز تجهيزاً يتألّف من لافتات علّقها في المقطورة التي شكّلت منزله الأول في مدينة تولون الفرنسية، وكتب عليها "لحم من المغرب" أو "حلال" أو "خصم 40 في المئة" أو "افتح هنا". لافتات أراد من خلالها التدليل على السلوك المقولب والعنصرية اللذين يتم بواسطتهما التعامل مع المهاجر العربي في منفاه. وفي موضوعَيّ التاريخ والكتاب، أنجز عملاً بعنوان "أكواريوم اصطناعي" (2011) ذوّب فيه كتاب تاريخ في الماء، فتحوّلت مادته إلى عناصر طافية وامّحت الكلمات التي يتضمّنها، مخلّفةً آثار جسدٍ مفرَّغ في حالة تفاعل مع محيطه؛ وعملاً آخر بعنوان "تاريخ 2" (2013) أعاد فيه كتابة تعريف التاريخ على صفحات كتاب من زجاج تشكّل صفحاته، حين يكون مفتوحاً، دائرة أو زهرة تطفو الكلمات داخلها. عملٌ تشبه الأسطر التي خطها حرّاقي داخله تلك الملاحظة في عملٍ آخر له، "المسألة الخامسة" (2011) الذي يأتي مضمونه على شكل معادلات رياضية أو أغصان داخل شجرة عائلة.

وفي موضوع الوراثة وعملية انتقال السلطة السياسية بواسطتها، أنجز مجموعة أعمال جريئة ومثيرة رسم فيها شجرة عائلة أولئك الذين يتربعون على سدة الحكم في البلدان العربية، وذلك بطريقة يبدو موقع أي اسم داخل الشجرة في علاقة مع سلطة الشخص الذي يحمل هذا الاسم، كالتجهيز الذي يحمل عنوان "عروش" (2013) وسجّل الفنان فيه على قطع قماشٍ أبيض شجرة عائلة أربعة حكّام عرب. وفي أعمالٍ أخرى ذات طابع سوسيولوجي ــ فلسفي، تساءل حرّاقي حول تأثير أحداث مفبركة في الأحداث الحقيقية، وحول الطريقة الملتوية التي تبلّغ هذه الأخيرة جمهورها، مبيّناً كيف يتم استكمال الواقع الحقيقي بآخر مزيف في عالمنا اليوم، بالتالي عملية تزييف تاريخنا.

باختصار، أعمال مبتكَرة ومتنوّعة يعبرها خيطٌ خفي يشكّل جامعاً مشتركاً بينها ويمنح مسعى حرّاقي الفني كل تماسكه، ونقصد تلك العلاقة الجدلية بين حضور وغياب التي تحضر في معظم هذه الأعمال على شكل سؤال: هل يساهم تجلّي شيء ما في تواريه؟ سؤال يقترح الفنان الجواب التالي عنه: "حين يتجلى مشهدٌ ما، تختفي الأشياء التي في داخله، ويصبح الحاضر غائباً والغائب حاضراً".

المزيد من ثقافة