Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ضوابط الثوابت والمتغيرات في المواجهة الأميركية- الإيرانية

كيف يمكن الجمع بين "الضغط الأقصى" على طهران والانسحاب من الشرق الأوسط؟

إيراني يقترع في الانتخابات التشريعية في العاصمة طهران (أ.ف.ب)

ليس للنظام الإيراني شبيه في المنطقة والعالم منذ قرون. حتى السلطنة العثمانية التي خلفتها جمهورية أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى، حيث السلطان كان "خليفة المسلمين" رسمياً، فإنها لم تكن نظاماً يحكمه رجال الدين. ولا نظام يعتبر، مثل جمهورية الملالي أن الانتخابات النيابية "رسالة" إلى الأعداء و"صفعة" لأميركا. وما كان من المفاجآت عشية الانتخابات، التي أُجريت هذا الشهر، قول المرشد الأعلى علي خامنئي إنّ التصويت "واجب ديني" لمواجهة أميركا وأوروبا. أما في الوجه الداخلي، فإن الانتخابات هي عملياً "فولكلور" في نظام ولاية الفقيه، بحيث تبدو "الشرعية الشعبية" نوعاً من "الديكور" على مسرح "الشرعية الإلهية". وحتى في الفولكلور والديكور، فإنّ الانتخابات تتم جوهرياً قبل ذهاب الناخبين إلى صناديق الاقتراع، إذ يلعب مجلس صيانة الدستور دور المصفاة عبر اختيار المرشحين المقبولين، تاركاً للناخبين التصويت على خياره. وهذه المرة، رفض المجلس الموافقة على ترشح 6850 من المحسوبين على الإصلاحيين والمحافظين غير المتشددين: بحيث يأتي مجلس الشورى الجديد على الصورة التي رسمها خامنئي، صاحب السلطة المطلقة.

ولا شيء يتقدّم، بالطبع، على المواجهة مع أميركا. وهي مواجهة تنوّعت فصولها وتعدّدت وسائلها بين القوة الصلبة والقوة الناعمة منذ الثورة التي أطاحت الشاه عام 1979 بقيادة الإمام الخميني. وقبل الثورة، كانت الإدارات الأميركية المتحالفة مع الشاه تصف الموقع الجيوسياسي لإيران في الإطار الاستراتيجي لصراع الجبارين الدوليين بأنه "مسمار الدولاب" في العجلة، حسب التعبير الذي استخدمه مدير الاستخبارات المركزية ثم السفير لدى طهران ريتشارد هيلمز. وفي الأشهر الأولى بعد الثورة، رفضت إدارة الرئيس جيمي كارتر استقبال الشاه المريض مسايرة لطهران. وكان من حول الخميني عدد من أصدقاء أميركا. وفي رواية للرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني أنه كان برفقة خامنئي في السعودية من أجل الحج، ففوجئا بحصار السفارة الأميركية في طهران على يد مجهولين وصفوا أنفسهم بأنهم "طلاب على خط الإمام"، وشعرا بالارتباك والتحسب لمضاعفات حادث فيه إذلال لأميركا. وكان قرارهما العودة سريعاً إلى إيران لمقابلة الخميني فوجدوه هادئاً جداً. وبعدما عبّرا عن تصورهما للانعكاسات على الثورة وسمعة النظام الجديد، قال لهما ببساطة "دعوا الطلاب".

وبدأت اللعبة المعقّدة: ضغوط وإغراءات، عصا وجزرة. لكنّ حسابات الخميني كانت مبنيّة على رؤية لدور إيران في المنطقة من خلال "تصدير الثورة"، وبالتالي على أنّ الوجود العسكري الأميركي هو العائق أمام المشروع الإيراني. وفي المقابل، فإنّ الحسابات الأميركية كانت مبنيّة على مزيج من أحلام استعادة إيران وكوابيس نفوذها في الشرق الأوسط على حساب المصالح الأميركية. الرئيس بيل كلينتون مارس سياسة "العزل المزدوج" لإيران والعراق. الرئيس جورج بوش الابن غزا أفغانستان والعراق في "تفاهم" ضمني مع إيران أزاح عدوَّيْن لها، وإن وضعها في "محور الشر". أما أبرز المحطات بعد توسع النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، فكانت في أيام الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترمب. أوباما راهن في بداية "الربيع العربي" على الإخوان المسلمين والمحور الذي تقوده مصر "الإخوانية" وتركيا رجب طيب أردوغان. وحين سقط الرهان في القاهرة، ركّز على التوصل بأي ثمن إلى "الاتفاق النووي" مع إيران، ثم اقترح تقاسم النفوذ في المنطقة بين الرياض وطهران. ترمب خرج من الاتفاق وبدأ استراتيجية "الضغط الأقصى" على جمهورية الملالي لدفعها إلى التفاوض على اتفاق آخر يشمل الملف النووي وملف الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي.

لكن الثابت في سياسة أميركا هو تجنّب مواجهة عسكرية مع إيران منذ أربعة عقود: من أوائل الثمانينيات، عندما حدث تفجير مقر المارينز في بيروت إلى آخر هجوم صاروخي على قاعدة عين الأسد في العراق. وهو أيضاً من الثوابت في سياسة الملالي، بصرف النظر عن الخطاب العنيف. فالصورة، كما يراها روبين رايت من "مركز وودرو ويلسون العالمي للباحثين" هي أنه لدى أميركا "مكاسب تكتيكية" في الشرق الأوسط، ولدى إيران "استراتيجية واسعة". إيران معها "الزمن والجغرافيا"، والأميركيون، حسب روبرت مالي، رئيس مجموعة الأزمات الدولية، "متطفلون تاريخياً، يأتون ويذهبون". والتصور الاستراتيجي منذ أوباما والمستمر مع ترمب، على الرغم من انتقاده في كل شيء، هو أن لعبة الثروة والقوة صارت في الشرق الأقصى، ولا مصالح حيوية في الشرق الأوسط. والتطبيق العملي هو تخفيف الوجود العسكري الأميركي هنا، للالتفات إلى هناك، والتركيز على الصراع مع روسيا والصين. غير أنّ الهرب من الشرق الأوسط مهمة مستحيلة، وإن كانت حروبه لا تنتهي. فلا المنطقة مجرد "رمل ودماء" حسب تصور ترمب. ولا الصراع مع الصين وروسيا يقتصر على الشرق الأقصى بمقدار ما صار الشرق الأوسط ساحة مهمة له، بعدما صارت روسيا "السورية"، قوة شرق أوسطية واستعادت دور القوة الدولية.

والسؤال هو: كيف يمكن الجمع بين "الضغط الأقصى" على إيران والانسحاب من الشرق الأوسط وتركه لطهران؟ وكيف تصارع أميركا روسيا والصين، وهي تنسحب أمامهما من الشرق الأوسط؟ إنها سياسة "المقاول". و"أسوأ الحكومات هي التي تُدار عموماً بأهداف التجارة"، كما قال المنظّر الأول للنظام الرأسمالي آدم سميث.

المزيد من آراء