على وقع طبول الحرب، وُلدت أهازيج ورقصات سعودية تعاقبت عليها العقود لتصبغها بألوان معاصرة لم تنل من أصالة جوهرها، بل زادتها رونقا يستمد من الطبيعة أصواتها ومكنوناتها، ومن التراث قصائده وألحانه التي استطاعت حفر موقعها الأثير في الوجدان المحلي.
وتعد العرضة النجدية أشهر الرقصات السعودية التي تحضر في المحافل الشعبية والرسمية، وتستمد إيقاعها من أهازيج حماسية اعتاد الفرسان على غنائها لإشعال جذوة أقدامهم في أرض المعركة، ورافقت الرقصة المهيبة مراحل تأسيس البلاد باعتبارها صيحة فرح غامر بالانتصارات الحربيّة المتحققة.
أداؤها
يُعتقد بأن مصطلح العرضة مشتق من الفعل عرض، أي استعراض القوة القتالية للقبيلة أو جنود الدولة، وقدرتهم على التخلص من الأعداء، إذ تبدأ الرقصة بنداء شخص ذو صوتٍ جهوريٍ يقف في المنتصف محاطا بقارعي الطبول، ويسمى نداؤه بـ "المحوربة"، وسرعان ما تنتقل الأنظار نحو حاملي السيوف عندما ينغمسون في تأدية حركات منتظمة، ويعبّر السيف عن طابع الرقصة المتسم بالبطولة والتضحية.
ويتمركز قارعو الطبول الكبيرة بشكل ثابت في الصف الخلفي لترديد البيت الأول من القصيدة، بينما يكون موقع قارعي الطبول الصغيرة ثابتا في الأمام، وتبدأ مهمتهم بعد المجموعة الأولى مباشرة، ويمكنهم المشاركة في اللعب داخل ميدان العرضة، أما الملقن فيتولى إلقاء القصيدة على العارضين، وتقع على عاتقه مسؤولية نقلهم من بيت لآخر بسلاسة وتمكن، ويتوسط شخص آخر الصف قابضا بيده اليسرى على راية خضراء تنسدل أطرافها على عنقه، ويبلغ متوسط طولها 3 أمتار.
أزياء زاهية
تتميز العرضة بالهيبة والوقار اللذان ينعكسان داخل مشهد بصري يجمع بين انثناءات السيف والجسد، في إيقاعٍ يرتفع وينخفض تبعا لدقات الطبول وصيحات الرجال المتعالية، بينما تنساب ألوان أزيائهم المصممة خصيصا لهذه المناسبة، كإكليل بهاء ينشر البهجة في الأرجاء. ورغم حداثة تصنيع الملابس المستخدمة حاليا، إلا أن القبائل النجدية اعتادت على ارتدائها منذ القدم، وتأثر تصميمها بعدد من العوامل الطبيعية في منطقة نجد، أبرزها درجة الحرارة المنخفضة شتاءً التي تستوجب ارتداء قطع متعددة وثقيلة لمجابهة الطقس القارس.
وتنوعت الأقمشة الملبوسة تبعا للحالة المادية والمكانة الاجتماعية، إذ اعتاد شيخ القبيلة على ارتداء أجود أنواع البشوت - العباءة - مع تميزه بالعقال المقصّب بالخيوط المعدنية، وحاليا من أبرز الأزياء المستخدمة لأداء الرقصة هو الزي الخارجي الأساسي لأبناء نجد المعروف بـ "المرودن"، وهو ثوب أبيض فضفاض يتميز باتساع الأكمام المثلثة وطولها، ويُلف وسطه بحزام يحمل الخنجر، وهناك الصاية أو الدقلة، وهي رداء شتوي طويل يتميز بألوانه الزاهية، ويلبسه مرافقو الشخصيات البارزة، بالإضافة إلى الجبة أو السديري التي تعتبر رداءً أقصر يستورد من الحجاز والشام والعراق، ويلبس عادةً مع هذه الأزياء حزام أسود معبأ بالذخيرة يوضع على الصدر.
وصارت العرضة على مدى ثلاثة عقود تقليدا سنويا في مهرجان التراث والثقافة "الجنادرية"، ما حفز المؤسسات الفنية بالسعودية على المضي قدما لاكتساب اعتراف دولي بها كرقصة عريقة لها حضورها وقصائدها وأزياؤها الفريدة، وفي عام 2015، تُوّجت الجهود بإدراج العرضة ضمن لائحة التراث الثقافي غير المادي بمنظمة "اليونسكو"، لتكون العنصر التراثي الأول في تاريخ المملكة ضمن هذه القائمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حناجر مسلّحة
تعتبر رقصة "الدحّة" من أشهر الرقصات المرتبطة في الذاكرة الشعبية بمصائب الحروب ونيران المعارك، وتصنف كفن جماعي يعتمد على الغناء في مشهد حركي يتسم بالانسجام والألفة، مصحوبا بالصفقات المتعالية، والأصوات المشابهة لزئير الأسود وهدير الجمال، وبعدما كانت الدحة لعبة حرب، صارت الآن تظاهرة يحفّها الفرح، ولا تكاد تخلو مناسبة في شمال السعودية من أدائها بقصد استحضار البطولة والانتصار.
وتميزت الدحة بأنها رقصة غير ذكورية اعتادت النساء أن تلعب دورا محوريا فيها، تحديدا في لعبة تُعرف بـ "الحاشي"، تؤدي خلالها المرأة رقصات معينة أمام صفي الدحة، كونها الرمز الذي يدافع عنه أبناء القبيلة، الأمر الذي يعكس التقارب الاجتماعي، والعلاقة القائمة على الثقة والنخوة بين الذكور والإناث، ومع التغيرات الاجتماعية أصبح هذا الدور يوكل للرجل.
وتؤدى الرقصة الشهيرة في صف أو صفين متقابلين يتكونان من عشرين شخص، يتوسطهما الشاعر الذي يفتتح بإنشاد قصيدته التي من الممكن أن يرتجلها أثناء أداء الرقصة حسب الموقف، ثم يبدأ التصفيق وتحريك الكتف، وإصدار الزئير في طبقة متصاعدة، ويجب أن تكون بحة الصوت لدى المؤديين متطابقة، والرد بينهم مكملا، ومع تصاعد النسق إلى أقصاه؛ يصدر قائد المجموعة صيحة عالية إيذاناً بالبدء من جديد.
وتعود نشأة هذا الموروث المنتشر في بلدان عربية حسب بعض الروايات الشعبية إلى استخدام إحدى القبائل الدحة كوسيلة لتخويف اللصوص وترهيبهم عبر الاصطفاف حول نار وإصدار أصوات مخيفة تبعث الخيفة في نفوسهم، ورواية أخرى تفترض أن القبائل العربية استخدمتها في معركة ذي قار التي انتهت بهزيمة الفرس، بيد أن هذه الرواية واجهت انتقادات كثيرة، ولم تثبت صحتها باعتبار أن الدحة هي كغيرها من الرقصات المؤداة في شبه الجزيرة العربية.
خناجر راقصة
وفي جنوب السعودية، تكثر الرقصات والأهازيج الحافلة بإرث تاريخي زاخر بالقصائد والألحان العذبة، ومن أهمها لون "الدمّة" الذي تحول من وسيلة لترهيب الأعداء إلى متنفس يقصده الكبار والصغار، وطريقة لإظهار البهجة والمودة عند استقبال الضيوف، ومناسبات الأعياد والأفراح، وهو عبارة عن أبيات شعرية تٌفتتح بقافية حرة، ثم يتقيد الشعراء بالرد بشكل متسق تحت قافية ووزن محددين، وهو ما يجعلها أصعب الألوان الشعبية التي تتطلب التمكن من اللغة وإتقان الإرتجال.
ويتمظهر موروث الدمة في ممارسات حياتية نقلته من قلاع الفن النخبوي إلى الحياة البسيطة التي تقدّر قيم الكرم والإيثار، ورغم صعوبة كتابة قصائده إلا أن الشباب واصلوا ترديد ألحانه باعتزاز، ويُحسب للثقافة الشفاهية بالجنوب أنها حافظت على تركة الأجيال الماضية، وإرثهم غير المادي من ألحان وقصائد كان لها الدور في نشر الحكمة، وعقد الصلح، وإشاعة ثقافة الاعتذار، فضلا عن فعاليّتها في بثّ روح الحماس في قلوب المحاربين، وتنعكس هذه الممارسات على العصر الحديث من خلال استخدام الراقصين للخناجر في لحظة مهيبة وأداء حركي منسجم لإحياء إرث راسخ في عرش الجمال.
وتضمنت مطالب باحثي التراث السعوديين خلال السنوات الماضية سرعة توثيق الفنون الأدائية، وتدريسها بالمناهج، كونها تمنح الطلاب لمحة حيّة عن تاريخ بلادهم الفني، وتهذّب أرواحهم بالقيم العليا، وبعد اقتراب مرور عامين على استقلال قطاع الثقافة، وإنشاء وزارة خاصة تعنى بشؤونه، انتعشت الآمال والتطلعات لاستحداث مناهج تعليمية تحفظ لآلئ الإرث غير المادي في عقد واحد، وفي ظل الاتفاقية الأخيرة بين وزارتي الثقافة والتعليم؛ فإنه من المتوقع أن تكون الفنون الشعبية على رأس أجندة التعاون بين القطاعين التربوي والثقافي.