Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سدّ النهضة واستراتيجيات التنافس

هناك توجسات صاحبت الاتفاقيات التي كانت تحكمها تقلبات السياسة

هل يسهم الهدوء الحالي في شأن سد النهضة الأثيوبي في فتح أبواب التوافق مع السودان ومصر؟ (رويترز)

يشهد تكتُّل الدول الأفريقية الثلاث السودان وإثيوبيا ومصر إعادة التشكيل لأنماط التفاعلات بين قواها الإقليمية، بفضل قضية رئيسة ومحورية هي سد النهضة الإثيوبي أو مشروع الألفية العظيم، الذي بدأت إثيوبيا إنشاءه في أبريل (نيسان) 2011. وعلى أعتاب الاتفاقية النهائية للمفاوضات في نهاية فبراير (شباط) الحالي، التي أعلن عنها ستيفن منوشين وزير الخزانة الأميركي، يمكن قراءة دور الولايات المتحدة والدور الفني للبنك الدولي في الوصول إلى الاتفاقية. لكن هل ستفلح في إزالة التوتُّر، خصوصاً أنَّ السد أبرز استراتيجية التنافس على المصالح والنفوذ كتفضيلاتٍ يمكن أن تحدّد مستوى العلاقات بين الدول الثلاث؟

مبادرة حوض النيل

تم الاتفاق والتوقيع على "مبادرة دول حوض النيل" عام 1999 من تسع دول هي، بوروندي والكنغو ومصر وإثيوبيا والسودان وكينيا وراوندا وتنزانيا وأوغندا. وفي ظلِّ تفاقم بعض التوتُّرات في العلاقات والنقص الحاد في المياه تعدَّدت جلسات المفاوضات، فهناك اتفاقية عنتيبي، وهي اتفاقية إطارية للتعاون وُقِّعت في 10 مايو (أيار) 2010 كتعديلٍ لمبادرة سابقة لحوض النيل الموقعة في 2009. ووقّعت تلك الاتفاقية ست دول، هي دول المنبع، بوروندي وإثيوبيا وكينيا وراوندا وتنزانيا وأوغندا، بينما لم توقع دولتا المصب، السودان ومصر، لأنَّهما رأتا أنَّ الاتفاقية تتجاوز الحقوق المكتسبة لكليهما من مياه النيل.

مثلما استفادت دولتا المصب من إقامة السدود لتوليد الطاقة الكهربائية، مثل السد العالي في مصر وبعض السدود في السودان، فإنَّ بعض دول الحوض مثل إثيوبيا وأوغندا شرعت هي الأخرى في الاستفادة من مياه النيل بإقامة السدود لتوليد الطاقة الكهربائية. واندرج خوف مصر وقتها تحت بند تأثير السد على حصتها من مياه نهر النيل البالغة 55.5 مليار متر مكعب. أما السودان الذي يحصل على 18.5 مليار متر مكعب، فقد اتضحت رؤيته حول السد من منطلقين. المنطلق الأول هو مجموع آراء الخبراء الذين سجلوا الآثار الإيجابية والسلبية للسد، إذ رجَّحوا كفة الآثار الإيجابية المتوقعة التي تتمثَّل في توليد الطاقة الكهربائية لحل المشكلة لإثيوبيا والمنطقة الإقليمية. كما أنَّ كمية المياه المُخزَّنة ستعمل على انتظام فيضان النيل. وعلى الرغم من أنَّ التخزين في أعوامه الأولى سيسبب عجزاً في كمية المياه قبل أن تعود إلى طبيعتها، فأنَّه يمكن تعويضها من مخزون بحيرة ناصر عند السد العالي. أما المنطلق الثاني فقد انحصر في الموقف السياسي الذي تشكَّل وقتها باتجاه السودان نحو عمق الهضبة الإثيوبية، وذلك لرغبة السودان في أن يتخفّف من أعباء العلاقة المصيرية مع مصر، وهي العلاقة التي فرضتها الجغرافيا والتاريخ المشترك، ولكن تم تفكيك عراها رويداً رويداً بواسطة النظام الحاكم السابق.

معايير القوة والضعف

يُعدُّ عدم الاستقرار السياسي المشكلة الأكثر بروزاً والذي تعاني منه الدول الثلاث بدرجاتٍ متفاوتة. فهي ما زالت تواجه تصاعداً على صعيد أمن خطوط ومناطق الحدود في تعقيدٍ واضح لهذه المشاكل وثيقة الصلة بالنزاعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي، فضلاً عن افتقار مناطق النزاع الحدودي لأي ضوابط تحكم التفاعلات والتدفقات والتداخل الذي يؤدي إلى مزيدٍ من الصراع. وأنصع مثال لذلك، هو ما يعتبر فشلاً في وضع حدٍّ للخلاف وترسيم الحدود حتى تحولت إلى صدامات حادة بين هذه الدول. فمثلث حلايب بؤرة الصراع الحدودي بين السودان ومصر، ومنطقة الفشقة الحدودية في ولاية القضارف بالسودان هي بؤرة أخرى للنزاعات الحدودية بين السودان وإثيوبيا. وعلى الخط الحدودي نفسه، وعلى بعد 40 كلم من الحدود السودانية في منطقة بني شنقول، يتم بناء السد الإثيوبي العظيم المتوقع أن يصبح أكبر سد كهرومائي في القارة الأفريقية، والعاشر عالمياً إنتاجاً للكهرباء، ولا يُتوقَّع أن تسمح إثيوبيا بعدما ضمنت نقطة القوة الإقليمية هذه لأيّ من دولتي المصب بأن تمارس ضغوطها عليها بالتخلي عن مشروع كهذا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكل هذا، لم يهدأ الجدل بين السودان ومصر وإثيوبيا التي أعلنت مرةً أخرى عن قيام سد جبا على نهر بارو أكوبو أحد روافد النيل بالتعاون مع ثلاث شركات صينية. وما أثاره سد النهضة كان مزيجاً من الهلع ولجت فضاءه الدول الثلاث في تشبثٍّ فطري بعوامل الصراع من أجل البقاء. ليست صدفة هي التي جعلت إثيوبيا المتعطشة للطاقة، تجرؤ على تحديد موعدٍ لتوقيع اتفاق مبدئي ثم يتبعه اتفاقٌ آخر إلى أن يصل إلى هذا الاتفاق الأخير. إنّ الأمر لا يخلو من تكتيكٍ اعتمد بشكلٍ كبير على المرونة التي لمستها إثيوبيا من الدولتين اللتين كان موقفهما في ما يختص بقيام السدّ مائعاً في حالة السودان وصلباً في حالة مصر. ويشمل الاعتراض ضرر السدّ على حصص بقية دول حوض النيل، وخطورته على كمية تدفق المياه، خصوصاً أنّ سدّاً بهذا الحجم والارتفاع سيؤثر في وصول 9 مليارات متر مكعب من مياه النيل، ما يؤثر في إنتاج كهرباء السدود السودانية والمصرية على النيل. فضلاً عن حجز كميات كبيرة من الطمي الذي يعمل على تخصيب الأراضي الزراعية.

السد والأمن المائي

لا تزال السياسات المائية للسودان ومصر تتأرجح في متاهتها الوجودية. وبالنسبة إلى السودان، فهناك سوء استغلال لما ينزل من السماء ناهيك عن المتفجّر من باطن الأرض. وتنقسم الآراء الفنية بين مؤيد ومعارض لقيام السد. بعض الآراء المؤيدة ترى أنّ سدَّ النهضة سيساعد السودان كثيراً في الاستفادة وتخزين نصيبه غير المستغل من مياه النيل التي فشل في استخدامها منذ عام 1959، وهو عام اتفاقية مياه النيل بين مصر والسودان التي جاءت مكمّلة لاتفاقية 1929. وسيساعد السدُّ السودانَ في مواجهة سنوات الجفاف التي تمرُّ بها المنطقة من وقتٍ لآخر، والتي ستتزايد مع التغييرات المناخية الكبيرة في شرق أفريقيا.

وبعيداً من الآراء الفنية فإنّ هناك حقائق أخرى تتمثل في مسألة الأمن المائي وطبيعة الخلافات المتعلقة به. ووقوفاً عند هذه الخلافات يمكن للسودان ومصر باعتبارهما دولتي مصب، الاعتراض على أي اتفاق لا يحقق رؤيتيهما ومصالحهما. كما أنّ خلافهما الداخلي يمكن حلّه داخلياً وهو لا يتعدى رؤيتيهما المنطوية على استمساك مصر بحقها التاريخي في مياه النيل، بينما يرى السودان أنّ العُرف الذي كان سارياً وأقرته منظمة الوحدة الأفريقية والذي ينص على أنّ الحدود والاتفاقيات التي تم توريثها منذ زمن الاستعمار قد يجنّب النزاعات في وقتها ولكنه سرعان ما ينفجر ليثير نزاعات أخرى تهدد دول القارة الأفريقية.

وفي خضم هذه الخلافات تنبع مشكلة دولة جنوب السودان بمطالبتها بحصتها التي ستؤثر لا محالة في حصة مصر والسودان. ولا أحد يمكنه التنبؤ بما يمكن أن تُسفر عنه هذه المطالبة، بخاصة إذا ما استقوت دولة الجنوب بدول المنبع الموقعة على اتفاقية عنتيبي للضغط على دولتي المصب السودان ومصر، لا سيّما أنّ هذه الاتفاقية لاقت رفضاً منهما في البداية لأنّها نصّت على ما ينهي الحصص التاريخية للدولتين.

كانت هناك توجسات صاحبت جميع اتفاقيات مياه النيل لأنّه كانت تحكمها تقلبات السياسة التي وقفت سدّاً منيعاً من دون التوافق على حلول مرنة. أما الآن فالوضع أكثر هدوءاً مما ينبئ بإمكانية التحكم في مسار النيل الذي تبدّى في ثوب جديد. اتفاقيات وراء اتفاقيات وما زالت الشمس تشرق وتغيب على نهر النيل، في جريانه بين ضفافه وانقباضه عبر سدوده ثم انبساطه. لكنه جريان لا يفتر فقد خلد منظره وسكنت صورته الأفئدة ولا يزال.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل