Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ضروب الوحدة" لماتشادو: على خطى الشاعر المؤسّس

أرض إسبانيا وماؤها وسماؤها وكل روائحها الحلوة

أنطونيو ماتشادو

هناك في الشعر الإسباني مجموعتان شعريتان كبيرتان وتأسيسيتان تحملان العنوان نفسه "ضروب الوحدة" (وهذه هي الترجمة العربية التي نفضلها على "وحدات" التي هي الترجمة الحرفية للعنوان الإسباني "صوليداد"): والفارق الزمني بين المجموعتين يربو على ثلاثمئة عام. فالشاعر الكلاسيكي الكبير غونغورا الذي يعتبر المؤسّس الكبير للشعر الإسباني أصدر الأولى بداية القرن السابع عشر، فيما أصدر أنطونيو ماتشادو مجموعته الخاصة بالعنوان نفسه في العام 1903. لكن ماتشادو قال دائما أن الأمر لا هو سرقة ولا هو توارد خواطر، بل مقصود "لأنني أردت أن أسير على خطى أستاذي الكبير". والحقيقة أن ماتشادو حقق ذلك تماما بعصرنته رؤية غونغورا ناهلا من تراب إسبانيا وكل عناصر طبيعتها قصائده التي لم تكن، حتى في بُعدها الشاعري الخالص والمقترب من عمق الرومانطيقية، لتقلّ في بعدها "السياسيّ" عن أكثر الشعر وطنيةً ونضاليةً. ومن هنا لم يكن غريبا أن يأتي الشيلي المفعم بالهوى الإسباني بابلو نيرودا لاحقا ليسير من ناحيته على منوال ماتشادو في حديثه عن "إسبانيا في القلب" وحتى في قصائده الرائعة عن حجارة الشيلي...

شعر الأرض الإسبانية

في مجموعة ماتشادو التي نتحدث عنها هنا، لدينا ذلك الحب للأرض، حبا لا يضاهى. لدينا الشاعر وقد أخذ يسبر العناصر الكونية وغوامض الطبيعة وأروع مشاعر الحب والتماهي محولا إياها عبر كلمات اتّسمت في أمكنة كثيرة بتجديدية لغوية كان من الواضح أن ماتشادو يملك أسرارها. ومن هنا القول بأن ثمة حقيقة أساسية منغرزة في "تربة الكلمات" الماتشادية، تتشعب إلى بقية العناصر تلخصها كلمة واحدة: الأرض. الأرض التي يعتبرها الشاعر هنا "مبدأ كل شيء ومآل كل الأشياء". مضيفا "إن هناك ما يشبه التربة الإسبانية يجري شراييننا، ويجعلنا نشم فيها رائحة الرطوبة في الحدائق". إن ماتشادو يبدو هنا كمن يمتلك حس المنظر الطبيعي الريفي الذي لا حدود له، ويملكه بشكل لم يتمكن أحد من مجاراته فيه، باستثناء الرسام ميرو الذي عبر عن ذلك في بعض لوحاته التي ارتبطت بشعر هذا الشاعر. بل يمكننا أن نقول في هذا الصدد كيف أن شعر ماتشادو يبدو في أحيان كثيرة وكأنه نتاج ملوّنة رسام ولا سيما حين يحدثنا عن المناطق المحيطة بمدينته الأثيرة قشتالة، بدءا من "زيتونها وصولا إلى مواسمها وفصولها مرورا بمشاهد الأزقة المغبرة فيها"، ليخلص أن "تلكم هي إسبانيا". غير أن شاعرنا لا تكفيه كما يقول دارسوه "هذه الحقيقة الإسبانية المعممة الخاصة في الوقت نفسه. إذ يرى أنه لا بد له من أن يُدخل العناية الإلهية في ولعه الإسباني: "الليلة الفائتة، حين كنت نائما، حلمت، وأي وهم جميل كان ذلك الحلم!... حلمت بأن الله في قلبي" ويقف الشاعر هنا ليقول لنا أن إلهه هذا إنما هو إله الحب الذي تتمدّد طيبته لتشمل كل سطر في المجموعة كلها "العشية والمدينة العتيقة وأشجار الليمون والزيتون.." وعلى هذا النحو تسير هذه الأشعار الملتصقة بالطبيعة والتي عرف الثوار خلال معرك الحرب الأهلية اللاحقة كيف يتغنون بها...

على رغم أن شاعريته كانت على العكس من شاعرية لوركا مثلا، تفصل النضال السياسي عن قضايا الحرب والسياسات الوطنية المباشرة، فإن ماتشادو لعب دورا أساسيا في الحرب الإسبانية الأهلية في صفوف الجمهوريين التقدميين المناهضين لفرانكو، ووصل إلى حد سلوك درب المنفى مع أمه عندما انهزم الفريق التقدمي الذي ناصره، فمات عند بداية منفاه، ما جعله بطلاً للكثير من قصائد اراغون وبول ايلوار وغيرهما، وحتى لأغنيات أنشدها جان فيرّا. لكن أهمية ماتشادو تظل شعرية ابداعية، أكثر منها سياسية لأنه يُعتبر الأب الحقيقي لمدرسة الحداثة في الشعر الاسباني، إلى جانب لوركا وقيثنتي ألكساندري وغيرهما.

حياة بداوة

ولد انطونيو ماتشادو العام 1875 في إشبيلية، ابنا لكاتب معروف، وكان يصغر أخاه مانويل، وهو بدوره سيصبح شاعراً حداثياً كبيراً، بعام واحد، وتلقى انطونيو تعليمه في جامعة مدريد، وفي معهد التعليم الحر فيها. وبدأ اهتمامه بالشعر باكراً، لذلك نراه يتوجه إلى باريس في العام 1899، وقد عاهد نفسه أن يعود منها شاعراً مرموقاً. وهناك في باريس اتصل بالحلقات الأدبية، وتعرف خاصة على روبن داريو. وبعد ذلك عاد ماتشادو إلى اسبانيا، حيث شغل كرسي دراسة اللغة الفرنسية في كلية سورْيا. وكان في 1903 قد اصدر مجموعته الشعرية الأولى «ضروب الوحدة» وهي نفس المجموعة التي أعاد إصدارها بعد ذلك بأربع سنوات، معدلة ومزيدة تحت عنوان «ضروب الوحدة، رواقات وقصائد أخرى». ومنذ تلك الأشعار المبكرة حدد ماتشادو اتجاهه الشعري المازج بين الإيقاعات الشعبية الأندلسية والمواضيع التي كانت تطغى على اهتمام المبدعين عند نهاية القرن، مثل الزمن والموت والكآبة. وفي سوريا (وهي مدينة إسبانية)، تعرف في تلك الأثناء على ليونور كونفاس التي تزوجها ورحل معها إلى باريس حيث راح يدرس الفلسفة على هنري برغسون.

غير أن إقامته الباريسية لم تطل بل اضطر للعودة إثر مرض زوجته التي رحلت عن عالمنا حال عودتهما، فاتجه هو ليعيش في مسقط رأسه ويكتب بعض أكثر القصائد حزناً وكآبة في سجله الشعري. وهي قصائد عاد وجمعها في «الأعمال الكاملة» التي أصدرها في ذلك الحين، وكان لنشرها وقع كبير على قراء الشعر والحلقات الأدبية التي وجدت في انطونيو ماتشادو معلماً حقيقياً لجيل من الشعراء الشبان كان يبحث عن معلم. والحقيقة أن التفاف شعراء الجيل الجديد من حوله، أخرجه من كآبته ودفعه، ليس فقط إلى استعادة مذاق العيش، بل كذلك إلى نوع من الربط بين الاهتمام الشعري والاهتمام السياسي. وهكذا في الوقت الذي توجه فيه للإقامة في سيغوفيا حيث شعر أن بإمكان حياته أن تكون أكثر امتلاء وفائدة لأن سيغوفيا كانت في ذلك الحين مركز نشاط فكري وسياسي صاخب، بدأ يكتب سلسلة من القصائد القصيرة الحادة التي راحت تضرب على وتر الشعر الشعبي الاندلسي، بحيث تبدو صالحة للغناء من دون تلحين، وهذه القصائد جمعها ماتشادو في ديوان حمل عنوان «قصائد جديدة» (1917 - 1920) وصار إنجيل الساعين إلى تجديد حقيقي في الشعر الاسباني. وإلى تلك الفترة بالذات تعود بداية اهتمام شاعرنا بالحياة السياسية أو مناصرته للاحزاب اليسارية. وهي مناصرة لم يخفف منها انتخابه عضواً في الاكاديمية الملكية الاسبانية في 1927، بعد عامين على إصداره طبعة جديدة لـ «الاعمال الشعرية الكاملة».

في 1931، وقد باتت المعركة السياسية حامية الوطيس عاد ماتشادو إلى اسبانيا، حيث بدأ يهتم بالكتابة الصحفية، وراح ينشر في صحيفة «إل سول» سلسلة من المقالات والحواريات الساخرة التي جعل لها بطلين هما خوان دي ميرينا وآبيل مارتان، وكان هذان البطلان يتناقشان في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، بشكل عابق بالسخرية والغضب. ومن المعروف أن هذه المقالات ساهمت في شعبية حركات الغضب التقدمية وفي التفاف النخبة المثقفة من حولها. ولقد أضاف ماتشادو إلى بطليه شخصية ثالثة، نسائية هذه المرة، أسماها غيومار، ظل الاعتقاد سائداً بأنها شخصية خيالية، حتى كشفت باحثة في 1950، عن كونها شخصية حقيقية كانت هي في الواقع الغرام السري والأخير في حياة انطونيو ماتشادو.

خلال الحرب الأهلية الاسبانية، عاش ماتشادو متنقلاً بين مدريد وبلنسيه وبرشلونة وكان يواصل الكتابة التحريضية في مجلة «اورا دي اسبانيا»، وكانت مقالاته تعبق بأمل انتصار الجمهوريين، ولكن ذلك الأمل لم يتحقق بل قضي عليهم بانتصار فاشيي فرانكو، وهكذا اضطر انطونيو ماتشادو إلى الهرب في اتجاه فرنسا، حيث عبر الحدود وأقام لفترة في مدينة كوليور، مع أمه، لكن إقامته هذه المرة لم تطل، إذ سرعان ما قضى في منفاه ذاك في شهر شباط (فبراير) 1939 فدفن في المدينة الفرنسية القريبة من اسبانيا.

المزيد من ثقافة