Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حسونة المصباحي يفكك روائيا... تاريخ تونس المعاصر

"لا نسبح في النهر مرتين" تستحضر شخصية المفكر التنويري العفيف الأخضر

الكاتب التونسي حسونة المصباحي (موقع المؤلف)

يقول الروائي الفرنسي كلود سيمون: "الرواية ليست سرد مغامرة، إنما هي مغامرة سرد". هذه الجملة هي إحدى المقولات التي كُتبت على ضوئها الرواية الغربية الحديثة، وذهبت بعيداً في مغامرة السرد. أما الرواية العربية فظلّت تتأرجح بين الجزء الأول من جملة سيمون والجزء الثاني منها، أي أنّ أغلبها لم يخرج بعد من سرد مغامرة، لكن بعض الروايات العربية يمكن عدّها كمغامرات سرد، ومن بين هذه الروايات نقرأ رواية "لا نسبح في النهر مرّتين" للروائي التونسي حسونة المصباحي، والصادرة حديثاً عن دار الآداب اللبنانية.

بدأت مسيرة المصباحي الروائية أول التسعينيات مع روايته "هلوسات ترشيش" التي مثّلت إحدى المغامرات السردية العربية المهمّة. بعد ثلاثة قرون من روايته الأولى، كتب المصباحي نصوصاً كثيرة، وقرأ كتباً كثيرة، وسافر إلى بلدان كثيرة، وقد أصدر أخيراً روايته "لا نسبح في النهر مرتين". وفيها، نجد خلاصة كتاباته وقراءاته ورحلاته أيضاً.

يحيلنا عنوان الرواية إلى قولة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس: "لا نعبر النهر مرّتين، فالنهر لن يبقى نفسه وعابره لن يبقى نفسه أيضاً، كلاهما متغيّران"، وهذا ما تقوله الرواية بلغة بسيطة وعميقة ، وبتقنية محبوكة من تجارب السرد كعابر النهر المتمرّس.

تُغزل أحداث الرواية حول ثلاث شخصيات: "سليم" و"عزيز" و"عمران". وعبرهم، تحلّ شخصيات أخرى تتقاطع سير حياتها مع سير الشخصيات الثلاث. تبدأ أحداث الرواية بعد الثورة التونسية، ثمّ تعود عبر مسالك كثيرة في ذاكرات الشخصيات إلى القرن العشرين والتحولات التي عرفتها تونس، وتبدو رحلة العودة كعودة السلمون ضد تيار النهر. إنها رحلة إلى الماضي لأجل المستقبل، محاولة لإعادة نبضات الحياة الجديدة إلى الينابيع الأولى. الرواية تقارن بين الماضي القريب لتونس، تحديداً بداية تشكّل الجمهورية الأولى الذي مثّل فترة الحلم التونسي بالضوء، وبين حاضرها الغارق في الفوضى والظلام. وهذا التحوّل المخيف يعبّر عنه هذا المقطع الذي صدّر به الروائي عمله لجيمس جويس: "فكرة شعرية، وردية في البداية، ثمّ رمادية، ثمّ سوداء. ومع ذلك هي حقيقية أيضاً. النهار يعقبه الليل".

بين الغرق والوصول

تبدو الرواية محبوكة بدقّة، وقد اعتمد المصباحي في بنائها على لعبة الضمائر، فقد استعمل ضمير المتكلّم مع شخصيتَيْ "سليم" و"عزيز"، واستعمل ضمير الغائب في الحديث عن شخصية "عمران". وتناوبت الشخصيات الثلاث على الظهور من أصغرها إلى أكبرها: "سليم"، الرجل الخمسينيّ ثم "عزيز"، العجوز في أواخر الستينات من عمره، ثم "عمران"، المفكّر العجوز، وقد قسّم بينها الروائيّ الفصول السبعة والعشرين بحساب كلّ شخصية تظهر في تسعة فصول، قبل أن يغيّر الروائي طريقة ظهورها في فصول الرواية الأخيرة الأربعة، بعد أن أصيب "سليم" بالجنون، فقد كان يتوهّم أنه يرى الجرذان تكتسح المدينة، وفي الأخير تسلّلت الجرذان إلى دماغه ونهشته. وتحدث الروائي عنه في الفصل الثامن والعشرين بضمير الغائب، وفي فصل لم يتجاوز الصفحة الواحدة، ثمّ أعطى لـ"عزيز" الذي يبدو أقرب إلى شخصية الكاتب فصلاً إضافياً عن شخصيتَيْ "سليم" و"عمران"، وحافظ على استعمال ضمير المتكلم في الحديث عنه طيلة الفصول الأحد عشر التي ظهر فيها.

المطّلع على سيرة المفكّر التونسي العفيف الأخضر يدرك أنّ شخصية "عمران" في رواية "لا نسبح في النهر مرّتين" هي تجسيد له، فالمصباحي جعل من المفكّر التونسي الذي مات بعد الثورة بسنتين، في عمر الثمانين تقريباً في منفاه الاختياري في فرنسا، مرآة للتاريخ المعاصر لتونس، وهو الذي درس في جامعة الزيتونة لكنه ثار على الفكر المحافظ الذي تربّى عليه، وأصبح مفكراً ليبرالياً مثيراً للجدل، وقد عُرف بحماسته للفكر التحرّري وبجرأته في طرح أفكاره وبمعرفته الكونية العميقة. وقد حضر في الرواية بقناع "عمران"، ومثّل الوتد الذي تدور حوله الشخصيات والأحداث، على الرغم من أنه حضر بضمير الغائب.

رواية القلق

تبدو الرواية كتجذيف في نهر عظيم، وقارئها لن يفارقه إحساسه المتمزّق بين خطر الغرق وتوق الوصول، لكن الوصول إلى أين؟ هذا السؤال يبدو مطروحاً منذ الفصل الأول للرواية إلى الفصل الأخير، إنها رواية القلق الإنساني المتأجّج، وهذا المقطع يعبّر تماماً عن هذا القلق: "في هذه الأيام، هو مستغرق في قراءة رسائل مونتاني. وقبل جولته الصباحية، قرأ: أن نتفلسف يعني أن نتعلّم كيف نموت. وهو يعتقد أنّ شيشرون صاحب هذه القولة على حقّ. أن نتعلّم كيف نموت يعني أن نتعلّم كيف نعيش الحياة، وكيف ندرك ما هو أساسيّ وجوهري فيها، لنتخلّص من الأوهام ومن الأكاذيب ومن الشعور بالعظمة الزائفة التي تنسينا ضعفنا وهشاشتنا ونقائصنا. وعلى حقّ مونتاني، هو أيضاً، حين يقول إنّ الإنسان حين يتعلّم كيف يموت، فإنّه يتعلّم في الآن ذاته معنى الحرية ليتخلّص من كلّ قيود الضغط والإجبار، ومن كلّ أشكال العبودية".

تبدو الرواية خليّة من قصص وأحداث متشابكة كثيرة، تمثّل مع بعضها سردية مهمّة عن التاريخ المعاصر لتونس، لكنّ الرواية لم تغرق في سرد تاريخي ثقيل كبعض الروايات العربية التي توظف التاريخ، وإنما أخذت من التاريخ طاقته السرديّة بما يخدم بنيتها الفنية ورؤيتها الفكرية ومعانيها الفلسفية الوجودية. جعلنا المصباحي في روايته "لا نسبح في النهر مرّتين"، نقيم مع فلاسفة ومفكّرين كبار مثل مونتاني وسبينوزا والعفيف الأخضر، ونتحاور معهم، باحثين عن يد تنتشلنا من هذه الهاوية التي وجدنا أنفسنا فيها. تبدأ الرواية انطلاقاً من عتبتها الأولى بقولة هيراقليطس "لا نسبح في النهر مرتين" وتنتهي بها. إنّ من يقرأ هذه الرواية يحسّ كأنه كان يعبر نهراً.

المزيد من ثقافة