لم تتوان الشاشة السينمائية منذ ولادتها قبل قرن ونيّف من الزمن عن الاستعانة بالأدب، رواية وقصة ومسرحيات وغير ذلك. ولئن قيل دائما أن بعض أجمل الأفلام في تاريخ السينما أتى مقتبسا من الأدب، فقد قيل أيضا أن ثمة من بين الروايات الكبرى ما يعصى تماما على الأفلمة ("يوليسيس" لجويس، أو "سفر إلى آخر الليل" لسيلين، أو "البحث عن الزمن الضائع" لبروست...الخ). ومع هذا هناك من النصوص الأدبية ما يبدو أنه خلق أصلا على شكل سيناريوهات مكتوبة برسم السينما. ويكاد هذا القول ينطبق تماما على معظم كتابات الأميركي إدغار آلن بو، مع أنه رحل عن عالمنا قبل وجود السينما أصلا. وليس هذا فقط بل إن ثمة في روايات بو، ما يتعلق بالتحليل النفسي ومصطلحاته ورد لديه قبل عقود طويلة من ظهور فرويد وأعماله ومصطلحاته في هذا المجال. ولدت السينما والتحليل النفسي معا تقريبا أواخر القرن التاسع عشر، ولو قرأنا مثلا رواية بو القصيرة "سقوط منزل آل آشر" سنجدها مكتوبة على شكل سيناريو ومليئة بتعابير تحليلنفسية مبتكرة مثل "هيبرستيزيا" و"هيبوكوندريا" و"كاتاليبتيك"... وكلها أمور طاولتها كتابات آلن بو منذ العام 1839 وسوف تعم القرن العشرين بشكل مدهش إما حرفيا وإما بمعانيها دون أن تكون معروفة أو متوقعة في زمن الكاتب الأميركي الكبير. ولعل الأكثر لفتا للنظر هو أن ذلك كله ظهر قبلاً في أوروبا التي على أي حال سبقت أميركا إلى اكتشاف آلن بو وتقدير قيمته.
حكاية رعب؟؟
ومع هذا لو نقرأ هذه الرواية التي نتحدث عنها هنا، سنجدها للوهلة الأولى أشبه بحكاية رعب من النوع الذي يمكن لحبكته أن تكون متوقَّعة منذ صفحاتها الأولى. أي من نوع ذلك الأدب الغرائبي "المقابري" الذي انتشر بوفرة في ذلك الحين (منذ بدايات القرن التاسع عشر، على الأقل) وكان يمتع القراء حتى دون أن يكون له ذلك العمق الذي طبع بعض أعماله النادرة. أما بالنسبة إلى آلن بو فكان يجب دائما القراءة بين السطور وبذكاء شديد طبعا. ولعل هذا هو ما جعل السورياليين يفتنون به دائما، وجعل بودلير من قبلهم يتبناه تماما ويترجمه إلى الفرنسية. وأكثر من هذا هنا: جعل سينمائيا منظّرا مثل الفرنسي جان إبشتين، يسارع منذ العام 1928 وكانت السينما الصامتة تعيش أيامها الأخيرة، ليؤفلم "سقوط منزل آل آشر" في عمل لا يزال صامدا حتى اليوم كعلامة من أبرز علامات السينما الغرائبية والسوريالية في آن معا.
حين أفلم إبشتين هذه القصة لم يكن مسعاه قائما على تحقيق فيلم رعب (كما سيكون حال الأميركي روجر كورمان، بعد ذلك بثلاثين عاما حين أفلم الرواية نفسها، أو حال عدد كبير من سينمائيين ومسرحيين وتلفزيونيين آخرين حذوا حذوه)، بل كان يريد ربط السينما بالأدب بالتيار السوريالي بالتحليل النفسي؛ ولا شك أنه نجح في ذلك على رغم إحداثه بعض التغييرات الجذرية في علاقات الشخصيات وأدوارها، وعلى رغم اختفاء العنصر الحواري الذي يلعب دورا أساسا في القصة الأصلية. بل لعل من بين التغييرات الكبرى أن إبشتين دمج في الفيلم نفسه إستعارات حدثية ومفهومية تنتمي إلى نصوص أخرى لآلن بو (من "الغرفة البيضاوية" إلى "بيرينيس" و"ليجييا") وكأنه أراد اختصار الكاتب الأميركي "كلّه" على شاشة متواطئة. المهم في الأمر أن النتيجة أتت فيلما خاصا قائما في ذاته لعل أهم ما فيه أنه سجّل لعلاقة بين الأدب والشاشة جاءت بادية الإختلاف عما كان وسيكون لاحقا معهودا في هذا المجال. أتى الفيلم عملا فنيا قائما بذاته ينتمي إلى السينمائي بقدر انتمائه إلى الكاتب. بل حتى لم تعد فيه الأحداث المعروفة هي أهم عناصره، بل جزءا من تلك العناصر.
موت امرأة وموت عالَم بأسره
والأحداث "المعروفة" في العمل تطاول راويا لا اسم له يحكي لنا كيف استدعاه يوما صديقه رودريك آشر القاطن بيتا قوطيا يكاد يكون ضائعا وسط منطقة مستنقعات معزولة، كي يعينه في تحمّل مرض غامض أصاب أخته (ستكون إمرأته في الفيلم). وعندما يصل الراوي إلى المكان يشعر من فوره بقدر كبير من القلق والغرابة خاصة أنه سرعان ما يلاحظ شرخا في جدران البيت وارتباكا يعتور المكان كله. ويزداد هذا الشعور حين يجد صاحب البيت الوارثه من أهله الراحلين، يقوم برسم لوحة تمثل أخته المحتضرة بملامح بالغة الكآبة. بل يلاحظ الراوي أن المرأة تنقل إلى اللوحة آخر ما تبقى لها من ملامح الحياة قبل أن تنطفئ تماما. ويقرر رودريك دفنها لأسبوعين في مدفن مؤقت في الحديقة قبل نقلها إلى مدفنها النهائي قرب الوالدين. ولاحقا سيدرك الراوي السبب: إن رودريك يرى بأن أخته نائمة وليست ميتة وسينتظر التحقق من موتها قبل دفنها أو يقظتها قبل استعادتها إلى الحياة. وسيكون من الطبيعي أن كل هذا يزيد من قلق الراوي الذي كان قد شعر قبل ذلك بانجذاب غريب نحو تلك المرأة يتضافر مع نفور غريب من البيت نفسه وإحساسه المتنامي أن النهاية لن تكون طبيعية. وكان رودريك قد أنبأه منذ البداية على أي حال أنه يعرف جيدا أن هذا البيت يعيش حياته وله روحه الخاصة به وأنه كالكائنات البشرية يتنفس ويحتضر وربما سوف "يموت" بدوره بعد حين، خاصة إن لم تعد الميتة إلى الحياة، لأن البيت مرتبط بها وبرودريك نفسه، كآخر كائنين بشريين يعيشان هنا... وفي نهاية الأمر سوف يحدث ما كان الراوي قد حدس به منذ وصوله: سوف ينهار رودريك بدوره ويلحق بأخته (امرأته في الفيلم) إلى العالم الآخر ما يؤدي إلى تحقّق ما كان يتوقعه الراوي: سينهار البيت على ما فيه فيما الراوي يغادره مرتعبا متسائلا عما إذا كان قد عاش حقا تلك الحقيقة التي ظل رودريك يحدثه عنها طوال الوقت: حقيقة أن للأماكن روحا...
مناخ الحوارات الصامتة
لقد اشتغل المخرج الفرنسي على هذا الموضوع بلغة بصرية مدهشة معلنا عبر ذلك الإشتغال أنه، كما اكتشف راوي القصة أن للأماكن روحا، يصر بدوره على أن للفيلم، أيّ فيلم، هو الآخر روحا خاصة به وأن "الصورة هي أشبه بتعبير بصري يرتبط بمعنى لغوي واضح أو مستتر" وبالتالي نجده هنا، قبل انتشار السينما الناطقة، يُنطق الصورة نفسها مستغنيا عن لعبة السرد الخطّي ليغوص في استخدام كل ما يتوفر له من تقنية – بما في ذلك استخدام الموسيقى ليس كمؤثر شعوري وإنما كلغة سردية تحاول إيصال معاني الصور بشكل ندر أن كان له سابق – لإيصال "الحكاية ومعانيها في الوقت نفسه" بحسب تعبيره، وكان ذلك ما جعل هنري لانغلوا يقول دائما أن "أهم ما في هذا الفيلم هو ثراؤه التقني". أما البعد الشاعري الواضح في الفيلم فقد أثار على الدوام إعجاب سينمائيين كبار من طينة كارل دراير وجان فيغو من الذين قالوا أن هذا الفيلم قد أثّر فيهم أكثر من أي فيلم آخر من بين أفلام السينما الصامتة، حتى ولو أضاف بعضهم قائلا: "ولكن من الصعوبة بمكان تصديق أنه كان فيلما صامتا" حيث أن المتفرج يخرج من الصالة وهو مؤمن بأنه كان طوال الوقت يسمع ما بدا وكأنه همس "يهمهم" به ذلك المنزل الذي يشكل الشخصية المحورية في شروخه المتتالية وحياته الداخلية وانهياره النهائي الذي يباغت المتفرج في المشهد الأخير رغم أنه كان متوقَّعا منذ اللحظات الأولى...