فيما يُعقد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي "منتدى الدين" في واشنطن، شهد سوق السندات السيادية والديون الحكومية تطورين في غاية الأهمية ينذران بعودة الغليان إلى سوق الدين العالمي في ظل تراجع اقتصادي متوقع خلال 2020 لأسباب عِدة في مقدمتها تأثير وباء فيروس كورونا على الاقتصاد الصيني والعالمي عموماً.
ومما يشير إلى التشاؤم بشأن فقاعة الدين العالمي واحتمال انفجار أزمة في ظل ركود أو حتى كساد اقتصادي عالمي، اتهام رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، بنوك تنمية إقليمية بالمسؤولية عن تغذية تضخم فقاعة الدين العالمي، وبدا أن المؤسستين الماليتين الدوليتين، البنك والصندوق، يستبقان تفادي المسؤولية عن تفاقم أزمة مديونية عالمية بإلقاء اللوم على آخرين.
أما التطوران فكانا في بلدين سبق أن أفلسا وأعلن كل منهما التخلف عن سداد ديونه واضطرت المؤسسات الدولية والإقليمية لإنقاذهما بقروض عاجلة بمئات مليارات الدولارات، لكن ما حدث في هذا الأسبوع يُظهر كيف أن مديري الصناديق الاستثمارية لا يعْبأون بتغذية أزمة المديونية ويقبلون على الاستثمار في أي مشتق ذي عائد ثابت حتى ولو كان سندات دين سيادي من فئة "خردة" مثل سندات الدين في اليونان، أما البلد الثاني فهو المشهور بالإفلاس أكثر من مرة، وعلى وشك التخلف عن سداد فوائد وأقساط ديون تزيد على 1.7 مليار دولار وهو الأرجنتين.
استمرار المخاطرة
وفي الوقت الذي يزيد فيه حجم الدين العالمي عن ضعفي الناتج المحلي الإجمالي العالمي باقترابه من نحو 200 تريليون دولار، عادت اليونان إلى إصدار سندات سيادية دولية للمرة الأولى منذ عام 2018 حين أعطاها صندوق النقد الدولي والمؤسسات والدول الأخرى المقرضة لها شهادة "حسن أداء" بتلبيتها شروط إنقاذها من الإفلاس قبل عشر سنوات.
وللمرة الأولى في تاريخ أثينا، انخفض العائد على سندات الدين الحكومي اليونانية لمدة عشر سنوات عن 1 في المئة (0.982 في المئة)، أي ما جعل العائد عليها أقل من سندات الخزانة الأميركية (العائد على سندات الخزانة يوم الأربعاء، يوم الإصدار اليوناني كان عند 1.626 في المئة)، ومعروف أن العائد يتناسب عكسياَ مع سعر سندات الدين، ما يعني أن كلفة اقتراض اليونان من السوق العالمية أقل من كلفة اقتراض الولايات المتحدة.
فئة "الخردة"
ويأتي ذلك على الرغم من أن اليونان لا تزال تقع تحت تصنيف ائتماني سيء، وحتى إن عدّلت بعض مؤسسات التصنيف الدولية وضعها برفعه قليلاً، فإن تصنيف سندات الدين اليوناني لا تزال في فئة "الخردة" من قبل كثيرين من مستشاري الاستثمار، والسبب في رأي البعض يرجع إلى أن العائد السلبي على سندات الدين الأوروبية الرئيسة (مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما)، أي ارتفاع سعر سندات الدين السيادي لتلك الدول، هو ما يدفع مديري صناديق الاستثمار للتحول نحو أسواق رديئة للحصول على عائد إيجابي، ونتيجة الإقبال على الشراء يزيد سعر السندات ويتراجع العائد، لكنه يظل إيجابياً بدلاً عن عدم وجود عائد أو عائد بالسلب، كما في الاقتصادات الأوروبية الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكأن هؤلاء المستثمرين لا يتذكرون أن الدين اليوناني لا يزال يمثل 180 في المئة من الناتج الاقتصادي، وأن البلاد لا تزال تحاول الخروج من أزمة الإفلاس قبل عقد من الزمان، حين اضطر صندوق النقد الدولي ودول الاتحاد الأوروبي الرئيسة إلى تقديم قرض إنقاذ غير مسبوق لليونان قيمته نحو 316 مليار دولار.
واستمرار المخاطرة من قبل المستثمرين في الدين يغذي مزيداً من الغليان في سوق الدين الحكومي وينذر بانفجار قريب لفقاعة الدين، خصوصاً مع التوقعات السلبية بتراجع الاقتصاد العالمي نتيجة انكماش الاقتصاد الصيني بسبب أزمة فيروس كورونا التي فاقمت تبعات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين على ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
الوضع الاقتصادي
وما يثير الشعور بالخطر من انفجار أزمة دين عالمية، بدء تواتر التوقعات السلبية للاقتصاد العالمي متأثراً بمشكلات اقتصاد الصين، فقبل يومين توّقع المحللون في بنك "يو بي إس" الاستثماري ألا يزيد نمو الاقتصاد العالمي في الربع الأول من العام على 0.7 في المئة، مقابل توقعات سابقة بنمو يصل إلى 3.2 في المئة.
وترجح توقعات عدة مؤسسات ومحللين اقتصاديين أن ينكمش اقتصاد الصين هذا العام 2020 بنسبة تتراوح ما بين 1.5 إلى 2 في المئة، ما يعني احتمال ألا يصل نمو ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى 5 في المئة وربما يقترب من 4 في المئة (مقابل نمو بنسبة 6.1 في المئة خلال العام الماضي).
وسيكون ذلك أول انكماش للاقتصاد الصيني منذ نحو أربعة عقود (آخر انكماش كان في عام 1976) حسب أرقام البنك الدولي، ويبدو أن أكثر المتأثرين عالمياً بتراجع اقتصاد الصين هو الاتحاد الأوروبي، فقد بدأت تبعات إغلاق صناعات صينية كثيرة نتيجة انتشار فيروس كورونا والحجر الذي يفرض تباعاً على مناطق مختلفة في البلد الآسيوي إلى تراجع الإنتاجية في دول منطقة اليورو بشكل كبير.
صحيح أن تراجع الإنتاجية الأوروبية مستمر منذ العام الماضي، لكن زيادته في أرقام يناير التي صدرت هذا الأسبوع تشير إلى مزيد من الضعف في الاقتصاد الأوروبي، فحسب أحدث الأرقام، تراجعت إنتاجية منطقة اليورو للعام الماضي بنسبة سنوية سالبة وصلت إلى 4.1- في المئة، بينما تراجعت في يناير (كانون الثاني) بمستوى شهري عند 2.1- في المئة، هو الأدنى منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2009.
وتتجه كل المؤشرات إلى أن هذا العام قد يشهد التصحيح الاقتصادي العالمي الذي يجري الحديث عنه منذ عام 2016، سواء كان ركوداً أو كساداً طويل الأجل، ولا تقتصر المؤشرات على أرقام النشاط الاقتصادي الرئيسة، بل إن أسعار السلع تتجه إلى الهبوط من سعر النفط (الذي يُتوقع أن يقل متوسط سعره للعام عن 50 دولاراً للبرميل) إلى أسعار مواد خام أخرى كالحديد والنحاس.
في المقابل، بدأت أسعار العقارات في اقتصادات رئيسة كالولايات المتحدة وبريطانيا في الارتفاع ما يعطي شعوراً خاطئاً للأسر بزيادة ثروتها وتحسن وضعها الاقتصادي، وإن كان ذلك حتى الآن لم يؤد إلى ارتفاع مفاجئ في الديون الشخصية، إلا أن تلك الديون هي بالفعل عند مستويات غير قابلة للاستدامة.
الدول المدينة
ويقابل ذلك الوضع في دول الاقتصادات الرئيسة وضعٌ أشد خطراً في الدول الصاعدة والنامية والمثقلة بالديون، وكل الأرقام، من الاقتصاد الأميركي إلى اقتصاد الفلبين، هي أكبر مما كانت عليه في الفترة السابقة لانفجار الأزمة المالية العالمية السابقة عام 2008.
ومع أن الأرجنتين سبق وأفلست أكثر من مرة متخلفة عن سداد ديونها، فإن وضعها الائتماني حالياً قد يكون ممثلاً بشكل واضح لأزمة الدين العالمي، فقد قوبل فريق صندوق النقد الدولي الذي يزور الأرجنتين حالياً ليس فقط بمظاهرات جماهيرية وإنما بانتقادات من الحكومة اليسارية في البلاد، فقد اتهم وزير المالية الأرجنتين مارتن غوزمان صندوق النقد الدولي بالمسؤولية عن أزمة البلاد واحتمال تخلفها عن سداد التزاماتها القريبة.
ولدى الصندوق دين على الأرجنتين يصل إلى 44 مليار دولار، لكن الحكومة تتهمه بأن قروضه كلها كانت فقط لخدمة الدين ودفع المستحقات وليس للاستثمار في البلاد، ما أدى إلى استمرار أزمتها، وتحتاج الأرجنتين إلى التخلص من ديون تقدر بنحو 100 مليار دولار، وهو رقم مماثل لما اضطرها للإفلاس في عام 2001.
ورغم ذلك، يصر البنك الدولي على أن الصندوق مسؤول عن مشكلات الائتمان في الدول المديونة، وكما قال رئيس البنك ديفيد مالباس فإن بنوكاً مثل بنك التنمية الأفريقي وبنك التنمية الآسيوي وبنك التنمية والإعمار الأوروبي أسهمت في تفاقم أزمة مديونية الدول الفقيرة.
وضرب مثلاً بنيجيريا التي أدت قروض بنك التنمية الأفريقي لها إلى زيادة ديونها بنسبة أكبر من 4 في المئة، فيما قدرتها على السداد في تراجع واضح، وكذلك إقراض بنك التنمية الآسيوي 1.3 مليار دولار لباكستان مفاقماً أزمة ميدونيتها في ظل وضع اقتصادي متردٍ.
قود يكون من المبكر البحث عن كباش فداء في المسؤولية عن أزمة لم تنفجر بعد، لكن ذلك يدل على مدى القلق وربما حتى الانزعاج من قرب انفجار فقاعة دين عالمي قد تكون أكبر مما شهده الاقتصاد العالمي فيما سبق من أزمات.