Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الابنة اليمنية اليهودية تشعر بالغربة داخل عائلة والدها السعودي

رواية رجاء بندر الأولى الأكثر مبيعا... براء من تهمة التطبيع والانحراف الليبرالي

الكاتبة السعودية رجاء بندر ( (اندبندت عربية)

 

من يقرأ رواية "غربة يهودية" (نادي جازان الأدبي والدار العربية للعلوم2020) للكاتبة السعودية الشابة رجاء بندر يكتشف أن الحملة التي تعرضت لها على وسائل التواصل الاجتماعي والتهم التي وجهت إليها وفي مقدمها تهمة السعي نحو التطبيع، إنما هي "مفبركة" ومركّبة وغايتها على ما يبدو النيل من الرواية التي استطاعت أن تسجل أرقاماً عالية في المبيع خلال فترة قصيرة. وأضافت بعض التعليقات مآخذ أخرى عليها هي براء منها تماماً مثل "تمرير رسائل خفية ومسمومة" و"الترويج للفكر الليبرالي المنحرف". رجاء بندر شابة تدرس علوم الصيدلة ولا علاقة لها على ما بدا، بالشؤون السياسية، لكنّ لديها شغفاً في البحث عن الأقليات العربية ومنهم اليهود العرب الذين عاشوا في الجزيرة ولا سيما في اليمن، مثلها مثل روائيين اشتغلوا على هذه "التيمة" ومنهم اليمني علي المقري في "اليهودي الحالي". واتُهمت الروائية الشابة أيضاً بانتحال رواية للكاتبة السعودية سالمة الموشي عنوانها "اليهودية المخلّصة" (دار أزمنة 2015)، لكنّ المقارنة بين الروايتين تؤكد أن لا علاقة تجمع بينهما بل هما تختلفان واحدتهما عن الأخرى، اختلافاً شديد الوضوح في القضية والبنية واللعبة السردية، ولو أن البطلتين من يهود اليمن مثل بطل رواية المقري. ولعل اختيار بطل أو بطلة يهودية في رواية لا يعني بتاتاً أن الرواية تسعى إلى التطبيع، فاليهودي، خصوصاً إذا كان عربياً، هو غير الإسرائيلي المنتمي إلى دولة الاحتلال، ويشكل اليهود العرب إحدى الأقليات التي تنتمي إلى أهل الكتاب والتي طالما عاشت في كنف الدولة الإسلامية. والمفاجئ أن جريدة "هاآرتس" كتبت عن القضية وليس عن الرواية، انطلاقاً مما نشر في وسائل التواصل الاجتماعي العربية وفي المواقع، وعلقت على السجال، وحمل المقال عنوان "الرواية السعودية الأكثر مبيعاً تلقي الضوء على آفاق التطبيع مع إسرائيل".

هوية منفصمة

لا تقترف رجاء بندر خطأ في جعل بطلتها عفراء، المنفصمة الهوية أو الانتماء، ضحية، ما دام والدها السعودي عبدالله قد تركها مع أمها اليهودية اليمنية بعد ثلاث سنوات من الزواج، فنشأت في رعاية أمها ثم جدها وجدتها بعد وفاة والدتها في السابعة والثلاثين من عمرها، وتعلمت أصول الدين اليهودي ومارست طقوسه مثل سائر يهود اليمن. وعندما عاد والدها ليصطحبها معه إلى وطنه، تُفاجأ ابنة التسعة عشر عاماً به والداً حنوناً وعطوفاً، على الرغم من  أنها تكنّ له مقداراً من الكراهية لأنها لم تره يوماً ولم تنعم مرة بأبوته. تقول عفراء عندما رأت أباها: "هذا الأب الأحمق يتجرأ أن يكون أباً من جديد وأنا لا أعرف عن وجهه سوى أنه يشبه وجهي كما قيل لي". ومع أنها وجدت شبهاً بين وجهها ووجهه تحاول استفزازه ملقية عليه السلام بالعبرية، وفي ظنها أنه قد يكون "مطوّعاً". وتقرر أنها ستكون أذكى من هذا الأب "الغائب في سبات" الذي تزوج يهودية فقيرة ودر عليها ماله. وعندما توافق على هجر أسرتها الصغيرة والعودة معه إلى وطن تجهله، تتصرف معه بقسوة فتطلب منه أن يغادرا في صيغة أمر وجهته إليه فيُصدم ولا يعلق.

قد تكون الفصول الأولى في الرواية من أجمل فصولها، لا سيما في مطلعها عندما تتحدث عفراء عن وفاة أمها ومشاركتها في غسل جثمانها، فتتحسس وجهها البريء كما تقول، وتلامس جسدها الناعم والجميل، رافضة أن تذرف دمعة، تكابراً على حزنها الذي يشعل قلبها بصمت. بل إنها عندما غادرت مع والدها، كانت على يقين  أنها ستعود يوماً، ما جعلها توضب القليل من ثيابها دون أن تذرف دمعة وداع. فحزنها أعمق من أن تعبر عنه بدمعة، هي الفتاة الضائعة الهوية والانتماء، والتي تعيش كما تقول "حزناً لا ينتهي في صدري". وهي تكاد تكون فتاة عبثية غير مبالية، ساخرة على الرغم من مرارتها، ولم تنثنِ عن السخرية من الطقوس اليهودية التقليدية والشموع التي يحملها الشعمدان قائلة: "لمَ قد يحتاج الرب لإشعال بضع شموع بائسة؟". أما وصية جدتها لها فكانت بأن تخفي يهوديتها، فلا يلاحظ أحد أنها غريبة دينياً. هذه الوصية تتذكرها عفراء لاحقاً قائلة في إحدى المرات: "أنا وحيدة، أنا اليهودية الوحيدة في هذه الحدود من الأرض". وقد تمكنت في حياتها الجديدة داخل الأسرة الأبوية من الحفاظ على هذه السرية، مع أنها لم تكن تجيد الصلاة مثل سائر أفراد الأسرة. وكادت أن تفضح نفسها مراراً لا سيما عندما كان يطرح عليها سؤال: لماذا لا تصلين؟ حتى محقق الشرطة فوجئ أيضاً، عندما قيل له إنها لا تصلي، على الرغم من ارتدائها النقاب. وكان محققو الشرطة جاءوا إلى البيت للتحقيق في مقتل هيثم، أحد أبناء عبدالله الأب والجد والسيد المتزوج من امرأتين، عدا زوجته اليمنية اليهودية، أم عفراء.

الصدمة الأولى

وجدت عفراء نفسها غريبة في عائلتها الجديدة، أو عائلة الأب وزوجتيه وأبنائه وبناته الكثر. وعندما وصلت إلى بيت أبيها وتعرفت إلى جدتها راحت الجدة تبكي وتقبلها بدموعها ولم تتمالك عفراء عن الانفجار بالبكاء، هي التي رفضت دوماً أن تبكي، وخرّت على ركبتيها، كما لو أنها أصيبت بصدمة ثم غابت عن الوعي فتم نقلها إلى البيت وتهدئتها. وكان والدها إلى جانبها يحنو عليها ويسألها: "خايفة يا بنتي؟ تعبانة؟ مشتاقة لأمك؟ ما تبغي تقيمين عندي؟". ربما كان والدها أكثر من يحبها في العائلة، وكذلك بعض إخوتها من الزوجتين، وجدتها على الرغم من الظنون التي ظلت تساورها إزاءها، وخشيت منها على ابنها عبدالله، هي الابنة التي شغلت باله طوال سنوات غيابها وجعلته يشعر بالندم، كما تقول. فالبنت العائدة هي بمثابة العاصفة التي ستهز البيت. شعرت عفراء بأنها غريبة كل الغربة، نفسياً واجتماعياً، داخل العائلة، وكانت تظن أنها تقيم هنا ولا تعيش، وأن لا بد لها يوماً من الهروب، وهذا ما حصل عندما تكتشف أن في المنزل الكبير ممراً أو سرداباً ينتهي في جهة بعيدة. بدت غريبة فعلاً في جو الأسرة: زوجتا والدها المتنافرتان، أخوها أحمد الذي يشق ساقه حباً في تنشق الدم، أخوها راضي الذي يقتل امرأته فاطمة بعدما اكتشف أنها تخونه، هيثم الذي كان يعشق فاطمة سراً والذي يقدم لاحقاً على الانتحار جاعلاً الآخرين يظنون أنه قُتل على يد أحد ما، أم هيثم التي تحاول أن تزعم أنها هي من قتلته لتنقذه من مرضه النفسي، العمة هند التي تشك في أن عفراء هي التي قتلت هيثم، بل إن الشك وقع أيضاً على شقيقه راضي. وعندما جاءت الشرطة لتحقق في الجريمة تجد نفسها عاجزة عن حسم الأمر: هل هو انتحار أم جريمة؟

قصص متعددة

كانت عفراء تعلم أن بيت أبيها مليء بالقصص، وهو فعلاً هكذا، نظراً إلى تعدد الأبناء الناجم عن الزواج المزدوج، وتعدد المشكلات التي يعيشها أعضاء الأسرة الكبيرة، والاختلاف في الأمزجة والمسالك. ولم تتوان عفراء أيضاً عن خوض مغامرات ولكن خارج المنزل، لا سيما في المقبرة التي دفنت فيها فاطمة والتي كان يؤمها بعض الإخوة للبحث عن تمائم وأسرار. وذات ليلة تشعر أن روحاً تطاردها فتركض عائدة إلى البيت بعدما رمت عليها بعض الريالات. لكن المغامرة الكبيرة التي تخوضها تكون في ختام الرواية عندما ينقلب السرد إلى ضرب من الغرائبية أو الفانتستيك، حتى لتضيع خيوط الحبكة الروائية.

تكتب رجاء بندر الطالبة في كلية الصيدلة روايتها الأولى، وقد لا تخلو الأعمال الأولى عادة من مشاكل في اللغة والبناء والتقنيات السردية، لكن رواية "غربة يهودية" تعاني الكثير من المشاكل، وتنوء بكثير من الأخطاء الصرفية والنحوية ،عطفاً على الركاكة التي تسم البناء الروائي والتي نجم عنها انفلات خيط السرد، وتداخل الوقائع بعضها ببعض، وضياع أفعال الشخصيات، واختلاط أصوات الرواة، والسبب أن الكاتبة لم تتمكن من فصلها بعضاً عن بعض... وقد يقع اللوم على مسؤولي النشر في نادي جازان الأدبي الذي تبنى الرواية كما هي، بأخطائها، ولم يسع أحد من أعضائه المتمرسين في الكتابة، إلى تصحيحها وتهذيبها وإعادة صياغة بعض المقاطع الركيكة.

غير أن الرواية تظل فريدة في فكرتها، وجميلة في أجوائها ومناخاتها، البيئية الاجتماعية، وقد تمكنت الروائية الشابة من الحفر في مناطق مجهولة وبعيدة من الضوء، ومن نبش الذاكرة اليهودية العربية اليمنية، بل الواقع اليهودي العربي، واختيار نماذج بشرية ووقائع من عمقهما. ولعل الفكرة الرئيسية في الرواية والمتمثلة في اللقاء بين فتاة يمنية يهودية وعائلة أبيها السعودية، فكرة غاية في الطرافة والعمق، وقد عالجتها الكاتبة بجرأة، جاعلة بطلتها تعاني انفصاماً في الهوية أو الانتماء، مما جعلها بطلة سلبية، غير متصالحة مع العالم، على الرغم من كونها ضحية، ضحية الآخرين، هي التي لم تقترف ذنباً ولا خطأ.

المزيد من ثقافة