Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صخب في رام الله: كيف تجمع موسيقى الأندرغراوند شمل الفلسطينيين

قصة أول حفل بويلر رووم في الأراضي الفلسطينية، وما قد يعني بالنسبة لموزعي ومنتجي الموسيقى الفلسطينيين.

"لا يأتي العديد من الزوار إلى فلسطين، فالقدوم إلى هنا ليس بالهين" تقول سماء، إحدى الـ"دي جي" [التنشيط بالأغاني المسجلة] الرائدات في الضفة الغربية، متحدثة على وقع موسيقى تكنو صناعية محمومة وخلفية لقطات شوارع هادئة كونية الطابع. "الجميع يشعرون كما لو كانت منطقة حرب، لذلك ليس هناك أي حماس...هنا ليس مثل برلين، كما تعلمون".

تكاد الأراضي المحتلة لا تغيب عن عناوين الأخبار الرئيسية لما ابتليت به من وعيد بالتدمير واشتباكات عنيفة مع السلطات الإسرائيلية واضطرابات سياسية. لكن كل ذلك يبدو بعيدًا في هذا الفناء المشمس في رام الله.

كان ذلك في عصر أحد أيام يونيو (حزيران) و الحشود بدت غير مكترثة بالأخبار؛ فهذه هي المرة الأولى التي تبث فيها بويلر رووم - القناة الأكثر مشاهدة في العالم لموسيقي الأندرغراوند - من الأراضي الفلسطينية. وشهد العرضُ الأول في هذا اليوم لـ"فريق جزر" القادمين من حيفا مجموعة بملابس زاهية وأنيقة وقد تحلقت حول المنصات؛ وخلف المُنشطين الدي جي مباشرة ترقص امرأة محدقةً في الكاميرا مباشرة وهي ترتدي قميصاً من الشبك الشفاف وتضع على وجهها نقاباً. لا تبدو وكأنها منطقة حرب. إنها تبدو مثل حفلة رائعة حقاً.

يكتسي قرار البث من رام الله معنى جليلا للفلسطينيين؛ فهو  تقدير لثراء المنطقة بالمواهب، علاوة على إسهامه في مقاومة صورة للضفة الغربية نمطية تجعلها منطقة محافظة، غير علمانية، ينخرها الإرهاب و محظورة. وكان البث من الضفة الغربية من أكثر إرسالات بويلر رووم شعبية في عام 2018، فقد حقق عرض سماء 1.3 مليون مشاهدة على اليوتيوب.

لكن الأهم من ذلك هو أن الحفل جمع بين عازفي موسيقى الأندرغراوند من مختلف الفصائل الفلسطينية: فهناك مَن يعيشون في الضفة الغربية حيث نشأوا وهم يتحدثون اللغة العربية ولكنهم لا يملكون حرية السفر إلى إسرائيل، وهناك فلسطينيون من إسرائيل يجدون صعوبة في التواصل مع الضفة الغربية باستثناء عبر مقاطع الفيديو على اليوتيوب.

إقامة حفل يضم أحسن وألمع الفنانين من كلا المنطقتين لا ينم عن تقدير المواهب فحسب، بل يسهم أيضاً في بناء جسر للتواصل ولم شمل طائفات عاشت منفصلة جغرافياً وثقافياً لعقود من الزمان.

"كانت هناك قطيعة هائلة بين المدن الفلسطينية لمدة طويلة، طويلة"، تقول ماكي مكوك، "ولكننا جميعاً شعب واحد في نهاية المطاف، كلنا فلسطينيون، ولدينا ثقافة واحدة".

تمايلت حشود المستمعين (نصفهم من الذكور ونصفهم الآخر من الإناث)، وهم يحتسون الجعة ويدخنون السجائر، على أنغام موسيقى الأندرغراوند: ثمة قليل من "درم آند باس" ونفحة من الربابة العربية التقليدية وطبلة "كيك درمز" من وحي برلين، مُزجت بعضها ببعض عبر أجواء مصطنعة تعطي إحساسا بالغرابة وبألفة مثيرة للرهبة في الوقت ذاته.

"يفترض الكثيرون في الغرب أن الثقافة الفلسطينية ثقافة محافظة جدا، وأن الرجال لا يختلطون بالنساء، ولا يشربون الكحول أو يتعاطون المخدرات، ولا يمكن أن يظهر الواحد منهم ميوله المثلية، وأنهم ليسوا مولعين بالحفلات" تقول المخرجة البريطانية جيسيكا كيلي التي عملت مع بويلر رووم لإخراج الأندرغراوند الفلسطينية الفيلم الوثائقي الملحق بأول  حفل لبويلر في رام الله- موضحة: "تهيمن القيم المحافظة إلى حد كبير، بالتأكيد في الضفة الغربية، ولكن فيلمنا يظهر واقعاً آخر يختلف كثيرا عن الصورة النمطية المعروفة".

 

في الواقع، أثناء البث الأول للحفل على الفيسبوك، كتب المشاهدون عدداً من التعليقات يسألون فيها عن مكان الحفل، مصرّين على أنه لا يمكن أن يكون رام الله، المدينة الأكثر اكتظاظاً بالسكان ومركز المقاومة في الضفة الغربية. وقد يمكن الزعم أن عاصمة الثقافة الفلسطينية هذه قطب للطعام الرفيع والفنون والسهر؛ هذه المدينة التي لا يقطنها سوى 24 ألف نسمة كان لها تأثيرٌ واسع النطاق على الفلسطينيين قبل الاحتلال الإسرائيلي بمدة.

يسلط فيلم الأندرغراوند الفلسطينية الضوء على هذا الجانب من رام الله. نشاهد شوارع مزدحمة وعائلات تهرول عبر الطريق تحت أشعة الشمس، بدلاً من إطارات السيارات المشتعلة أو الاحتجاجات الحاشدة. تبدو رام الله كأي مدينة أخرى رافهة جنوب شرق البحر الأبيض المتوسط. المباني غير متهدمة، والناس يمارسون حياتهم اليومية العادية، وهناك أشجار نخيل وأعلام فرق كرة القدم التي تتدلى من الشرفات. لا تبدو رام الله كمدينة في حالة اضطراب، ولكن كقاعدة خصبة للإبداع.

غير أن المشهد في رام الله محكوم بقدراتها المحدودة، فمعظم الفعاليات تُقام في منازل خاصة وأماكن صغيرة. وفي الفيلم الوثائقي نرى لقطات أرشيفية من "لَوين"، المطعم الإيطالي الصغير الذي يتحول إلى نادٍ ليلي في المساء. الطريقة مكونة من عدد صغير من الأفراد الولوعين ومريديهم المتفانين، للتعبير عن افتتانهم طويل الأمد بثقافة الأندرغراوند، وباستخدامها وسيلة للبوح والاحتجاج.

منذ منتصف العقد الأول من الألفية وفن الهيب هوب يسيطر على المدينة بوصفه اللون الشعبي المفضل لموسيقى الأندرغراوند. "مُقاطَعة" هو الشخصية الأبرز  في هذا المضمار، فقد استطاع -وهو مغني راب ومنشط دي جي- ابتداع صدى مميز مستوحى من الشوارع الصاخبة.

يتوجه مُقاطَعة إلى وسط المدينة، ويخرج هاتفه الجوال ويبدأ بتسجيل الأصوات المنبعثة في المنطقة؛ من أعمال البناء، والأسواق المزدحمة بالباعة الذين ينادون على بضاعتهم، والأحاديث المتبادلة في صالونات الحلاقة، وصراخ الأطفال في الملاعب. "هذا هو صوت رام الله"، يقولها مبتسماً وهو يقودنا عبر منعرجات سوق مغطى. "تتعرض ثقافتنا للاندثار ببطء...للسرقة، إننا نخسر طعامنا ولباسنا وموسيقانا. وبالنسبة لي، إعادةُ استخدام أصوات من ثقافتنا، تُبقيها بطريقة أو أخرى على قيد الحياة وتجعلها قادرةً على المقاومة."

يقوم مُقاطَعة بعدئذٍ بدمج المقاطع الصوتية مع نغمات إيقاع إلكترونية ثم يضيف مقاطع الراب إليها؛ هذا هو "صوت رام الله" الذي أصبح رمزا في الموسيقى الفلسطينية. في مشهد لاحق من الفيلم نرى مجموعة فريق جزر - مجموعة من الشبان القادمين من إسرائيل الذين يعتبرون مُقاطَعة أحد مصادر إلهام لهم - يستمعون بحماس في سيارتهم، يخبروننا أن ما يستمعون إليه هو "مقطع من بنسى بنسى!".

بدأ مُقاطَعة - المعروف بكونه عَرَّاب موسيقى الهيب هوب الفلسطينية - مزاولة الراب عام 2007  مع فرقة رام الله أندرغراوند، لكنه شعر بأن الموسيقى التي ينتجونها بعيدة جداً عن الضفة الغربية، وأكثر ارتباطاً بالولايات المتحدة، وحركات الهيب هوب الأخرى في العالم العربي. وفي عام 2009، بدأ العمل مع فرقة سالِب واحد، التي تضم مجموعة من مغنيي الراب: داكن وجُلمود وهيكل والنّاظِر، وأول منسقة موسيقى في الضفة الغربية، ماكي مكوك.

نحدوا مُقاطَعة إلى استوديو مظلم تحت الأرض، وتبدأ الفرقة بغناء مرتجل على خلفية إيقاعٍ سريع بعض الشيء ممزوج بموسيقى اسطوانات فينيل عربية قديمة. الموسيقى مفعمة بالهوية الثقافية بمقدار غناها بالكلمات، على غرار ما تنتجه الحركات المتمردة مثل موسيقى غرايم في بريطانيا. يومئ الفنانون برؤوسهم ويتضاحكون لخلطهم بين الكلمات، ويربّتون ظهور بعضهم البعض وهم يؤدون الأغنية. كلمات الأغنية لا توحي بأي إشارات سياسية ولا تحمل أي نوع من التحدّي، بل فيها روح دعابة وتحكي عن مؤلفيها، وبها الكثير من الكلمات بلهجة أهل رام الله. تقفز الفرقة بأكملها بنزق وأفرادها يرددون "رمضان ما يجيش ببلاش!"

على الرغم من ذلك، يصر مُقاطَعة على أن حركة الهيب هوب في رام الله متأثرة بشدة بالسياسة والحاجة إلى التغيير. "نحن نعيش في وضع سياسي يعاني الركود الشديد، لذا نحتاج إلى هذا النوع من الإزعاج". وتوضح ماكي ماكوك أن الهجوم على  ذوي الشأن لا يتم بطريقة مباشرة، "بل يتحقق بطرق خفية"، تؤكد وهي تومئ برأسها، ثم تردف "نحن نقاوم بالإبقاء على ثقافتنا حية، والاستمرار في إبداع أشياء جديدة مبتكرة ومثيرة للاهتمام".

تضحك قائلة: "لقد أنتج فنانون من مدينتنا بموسيقى تكنو من موسيقى الإعلانات التجارية العربية، ورغم أن الأحوال تبدو كئيبة من الناحية السياسية، فالأمور مثيرة حقاً الآن في رام الله".

 

اكتسبت هذه المقاومة غير المباشرة شعبية ليس فقط في الضفة الغربية، بل حتى داخل الطائفات الفلسطينية أيضاً في كل مكان، وحتى مع الإسرائيليين. فقد نشرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية الصادرة باللغة الإنجليزية مقالاً عن تزايد شعبية الهيب هوب الفلسطيني في تل أبيب، مسلطة الضوء على النجوم الصاعدة من رام الله والناصرة وحيفا.

خلال حفل بويلر رووم في رام الله، تُفصل ديبورا أيبيكل، المبرمجة والمنتجة المساعدة بفيلم الأندرغراوند الفلسطينية، كمَّ التعليقات الإيجابية من الإسرائيليين: "لقد تفاجأ الكثيرون فعلاً بمشاهدة جانب مختلف من فلسطين، حتى أن أحدهم علَّق قائلاً: ’أهديكم أرق رسائل المحبة من إسرائيل! لعلنا نستطيع يوماً أن نعيش جميعاً في سلام ووئام مع بعضنا البعض. العرض رائع للغاية، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي أستطيع فيه زيارة رام الله، وأستمتع بسماع أغنية أو اثنتين بصحبتكم وأشارك في حفل راقص أو حفلين‘. بالنسبة لفناني رام الله، فإن عرض بويلر رووم يدفع بالمشهد إلى الأمام قُدما. فهو يمنحهم الحافز لمواصلة نشاطهم. وقد قالوا لي إن العرض كان واحداً من أنجح حفلاتهم حتى الآن".

قد يمتد تأثير فرقة سالِب واحد إلى مدى بعيد، لكنها لا تستطيع تقديم عروضها خارج الضفة الغربية. "لم أتمكن قط من إحياء حفل في [إسرائيل]"، يؤكد مُقاطَعة، على الرغم من ممارسته فن الدي جي لأكثر من عقد من الزمان، قبل أن يُردف: "لقد ظللت لأربع سنوات كاملة أحاول تقديم عروضي الموسيقية في حيفا، بعد أن تلقيت دعوة من فريق جزر، لكن الأمور لم تجر على ما يُرام لأنني لم أحصل على تصريح بالذهاب إلى هناك، رغم أنني من هناك أصلاً".

رغم تمحور الفيلم الوثائقي حول رام الله، فإنه يستكشف مشهد موسيقى الأندرغراوند الفلسطينية عبر إسرائيل، ويستعرض الأندية الواقعة على الساحل في يافا وحيفا أيضاً. التباين بين المنطقتين بيّن فيما يمس حرية تنقل الفنانين؛ فبينما يستطيع الفلسطينيون الذين يحملون جوازات إسرائيلية السفر إلى الضفة الغربية بسهولة نسبية، وتنظيم الحفلات دون صعوبات كبيرة - أثرت قيود السفر في قدرة المقيمين في رام الله على إذاعة موسيقاهم خارج المدينة، والتواصل مع الفلسطينيين خارج المنطقة.

يعيش ما يقرب من 1.8 مليون فلسطيني في إسرائيل، وتعتبر حيفا، الواقعة على الساحل الشمالي، موطناً لواحدة من أكبر التجمعات الفلسطينية. المدينة مسلية ونابضة بالحياة، مزيج من تل أبيب والقدس. ولأنها أكثر أمنا من جيرانها، فقد اشتهرت بكونها ملاذاً آمناً نسبياً للتعايش بين اليهود والمسلمين.

لكن هذا لا يمنع من شعور الفلسطينيين بالغربة عن ثقافة الأندية، ولهذا السبب بدأ فريق جزر في تنظيم حفلاته الخاصة، لتوفير مساحات آمنة للشبان الفلسطينين بعيداً عن أعين المتطفلين من محافظي السلطات الفلسطينية والإسرائيلية. لقد بدأت مجموعة فريق جزر -المكونة من عدد من الأصدقاء هم عايد وروجيه ورياض وهلال- بسبب خصاص في المعروض على الفلسطينيين [في إسرائيل] من الحياة الليلية.

"لا يوجد شيء يخصنا نحن الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل"، يقول عايد، وهو يلف سيجارة حشيشة على الطاولة في منزله، ثم يردف: "عندما كنا نذهب إلى النوادي الليلية، كنا نشعر بأننا أغراب، وبعد بضع سنوات قلنا يكفي، حتى لا نظل مستهلكين لنَصِر منتجين ".

ما يلي ذلك لقطة مأخوذة من أرشيف الأصدقاء لحفلاتهم الشخصية. نشاهد أفراد المجموعة ينقلون أجهزة ومعدات صوتية ومنصات في منطقة نائية من الصحراء، ويعزفون موسيقى أشبه بموسيقى التْرَاب، والدرم آند باس. تبدو حفلة مشوشة، مع تحرك الراقصين بلا قمصان وسط إضاءة ستروب الخاطفة والفضاء المتْرب.

يستعيد رياض ذكريات حفلتهم الأولى في عام 2011، والتي توقفت إثر ورود أنباء الربيع العربي. "في منتصف الحفل بدأ الناس يتلقون إشعارات ورسائل من مصر بأن الثورة قد اندلعت. كان الأمر مبهجا على نحو جنوني ‘مرحى! لقد نجونا. كل شيء سيكون على ما يرام‘، يضحك وهو ينفث الدخان. "في النهاية كان مجرد صداع في اليوم التالي، وليس ثورة في الحقيقة".

بالنسبة إلى مجموعة فريق جزر، فإن توفير مساحة آمنة للفلسطينيين لا يعني فقط تقديم عروض مختلفة عن تلك التي يقدمها الإسرائيليون. "في المجتمع العربي الفلسطيني، قبل سبع أو ثماني سنوات، نادراً ما كنت ترى فتاة تدخن في حفل"، يقول عايد. "مرقص جزر  يتيح الفرصة للجميع، يمكنك أن تكون نفسك، أن ترقص كالمجنون، أن تتعرى، أن تدخن، ويمكنك أن تلف سيجارة حشيش." يضحك رياض: "إلا التعري، لم أكن هناك يا عايد".

من الواضح أن دوافع فريق جزر لا علاقة لها بإقصاء الآخر، بل بتغيير الصورة الذهنية عن العرب. وقد افتتحت الفرقة مؤخرًا "كرابيت" ناديها الخاص في حيفا. النادي "أندرغراوند" صرف، يحظى بفضاء رحب للتدخين وحلبة رقص معتمة وحميمية. لكن -في الوقت نفسه- تبدو اللمسة العربية واضحة، بممره الطويل العتيق المضاء بأنوار ذات طابع فنتازي والمغطى بالرسوم الجدارية. يتبع النادي سياسة الباب المفتوح وعدم التمييز، إذ لا يطلب فريق جزر إبراز بطاقة الهوية عند الدخول، ويرحب بالقادمين من جميع الخلفيات: "لا يمكنك محاربة العنصرية بالعنصرية".

"لقد سُلبت منا ثقتنا بأنفسنا كشعب. والآن، يبدو كما لو أصبحنا أخيرًا مفعمين ثقةً بالنفس، نمارس هويتنا الخاصة. إنه علاج لأزمة الهوية التي نعانيها هنا".

في فيلم الأندرغراوند الفلسطينية، يبدو كرابيت مليئاً بمشاعر الترحاب والدفء، تتمايل فيه الحشود تحت الأضواء الأرجوانية، وما أن تعلو أصوات موسيقى التكنو حتى يرفع الجميع أيديهم إلى الأعلى ويصيحون محتضنين بعضهم البعض والابتسامة مرسومة وجوههم. من الصعب أن ننسى تلك اللحظات التي مررنا بها في صالات الرقص، والشعور باللُّحمة والنشوة المشتركة بالموسيقى. لعل فريق جزر على حق، ربما يمكننا تحقيق السلام من خلال الصخب.

لكن بالنسبة إلى فريق جزر، هناك حلقة مفقودة في نجاح المجموعة. فعلى الرغم من إعجاب أفرادها الكبير بموسيقى مُقاطَعة والهيب هوب في رام الله والتي كانوا يؤدونها في حفلاتهم، فقد أخفقت الفرقة في التواصل مع [نظيراتها في الضفة]. وفي الفيلم الوثائقي، وأثناء توجههم إلى عرض بويلر رووم، يطلّ أعضاء الفرقة الفتيان بفضول من نافذة السيارة ويتأمّلون شوارع المدينة. "إنه مكان مألوف ولكن ليس مألوفًا على الإطلاق،" يقول رياض، "أشعر وكأنني شخص غريب بالرغم من شعوري بأنني في وطني".

في الفيلم، يقترب أفراد المجموعة، الذين كانوا منسّقي معظم موسيقى وأغاني عرض بويلر رووم، من رام الله باضطراب غير مألوف، توضيحاً لحجم الحدث ودوره في لم شمل المجتمعات. منذ البداية، أخذت مجموعة فريق جزر على عاتقها سد الفجوة بين رام الله وحيفا، رفقة تكنو دي جي و "أودز" في رام الله.

"منذ عام 2010، كان هناك جسر بين حيفا ورام الله شيدته أنا وفريق جزر كرو، لقد عملنا على بنائه منذ مدة طويلة"، يقول أودز، منشط الحفلات الدي جي ودود المظهر، والذي أكسبته موسيقاه التكنو المتوترة معجبين ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن في جميع أنحاء أوروبا.

يروي فيلم الأندرغراوند الفلسطينية قصة أودز وهو يتسلل من رام الله إلى الجعافرة، الطائفة الفلسطينية في تل أبيب، لأداء عرض في ملهى آنا لولو الموجود على الشاطئ. في أحد المشاهد التي يتم فيها تثبيت الكاميرا على رأس أودز لتعطينا إيحاء الشخصية الرئيسية، يتسلق أودز جدارًا بارتفاع 8 أمتار في القدس، ويقفز عبر فجوة في الأسلاك الشائكة ليسقط على الخرسانة تحته مباشرة. "لقد آذيت ساقي"، يكشف عن ساقه ويضيف بابتسامة ساخرة "لكن الأمر يستحق كل هذا العناء".

تحكي مخرجة الفيلم جيسيكا كيلي عن مخاوفها قبل صدور الفيلم، ورد فعل السلطات الإسرائيلية بسبب تلك اللحظة بالذات. "لا أعتقد أنهم سيحبون هذا العمل كثيراً"، تقول واجمةً، "لقد اتخذنا أيضاً القرار المثير للجدل باستخدام مصطلحات ’إسرائيل‘ و’فلسطين المحتلة‘ و’عرب 48‘ بالتبادل، بحيث نعكس مدى اختلاف المشاركين في الفيلم في نظرتهم إلى إسرائيل. العديد من الإسرائيليين سيرون أن هذا إنكار لوجود إسرائيل، وسيحسون بالإهانة، لكن بالنسبة إلينا كان ذلك وسيلة يفهم بها الجمهور ما يريد المشاركون في الفيلم قولَه".

 

إن المشهد الذي يُعرَض فيه السياج يسلط الضوء على الفصل بين كلا الطائفتين في الفيلم. يتمتم أودز بنبرة تحدٍّ في المقطع الافتتاحي قائلاً: "لا يمكنك بناء جدار ثم تقول ’لا يمكنك تخطيه‘، إنها موسيقى، إنها للجميع." يقدّم الفيلم أودز وهو يسقي نباتاته ويعبث بأسطواناته الموسيقية في منزله برام الله.

تتخلل المشهد مقاطع الرقص الجنوني وموسيقى التكنو خلال حفله في آنا لولو، والذي يعتبر حالياً النادي الفلسطيني الوحيد في الجعافرة، وفي مقابلة مع مالك النادي مروان حواش، تكلم عن أهمية مشاركة فناني رام الله على الرغم من خطورة التسلل إلى إسرائيل. "في اللحظة التي ترى فيها منشط حفلات دي جي من رام الله هنا في الجعافرة، يُلفت ذلك انتباه الناس، ويشعرون أن الحدود لا تهم، وأننا نستطيع كسرها".

تتضح مشاعر الدفء التي يكنها مقدمو الدي جي ومنتجو الموسيقى لأودز في المشهد أثناء تقديم عرضه في بويلر رووم. فقد تناوب ما لا يقل عن 20 شخصاً على احتضانه وهو يخطو نحو المنصة. العزف الذي يؤديه مزيج بين الموسيقى الأوروبية القوية سريعة الدقات والإيقاعات الإفريقية النطاطة. كان من شبه المستحيل على الحشد مجاراة أنغامه. لكن أسلوب أودز في موسيقى التكنو ليس الأسلوب الوحيد في رام الله. فقد أحدثت "سماء" - أول منشطة دي جي فلسطينية تقدم عرضاً منفرداً في حفل بويلر رووم - بلبلة منذ يونيو (حزيران) لاستخدامها مؤثرات صوتية إلكترونية مستوحاة من عزف ديترويت وبرلين.

التقيتها بعد أحد عروضها في باريس، حيث تعيش منذ أوائل 2018. تصر سماء على أن الحفلات المقامة في أوروبا ليست أفضل من تلك المقامة على أرض الوطن وتقول: "الرقص والطاقة التي يحصل عليها الناس في حفلات فلسطين على نفس الدرجة من دفء وحميمية حفلات برلين. الفارق الوحيد هو أن عدد الحضور أقل بكثير والمكان أصغر بكثير. عادة ما أجد في التكنو، أن مقدار الحيوية والطاقة متشابه لدى الناس في جميع أنحاء العالم". لم يكن قرار سماء بالانتقال إلى باريس مرتبطاً بممارسة التكنو التي تعرفت عليها في سن التاسعة عشرة في رام الله، قدر ارتباطه بتجنّب حظر التجول الذي يُصعِّب تنظيم الحفلات.

تضحك سماء وهي تقول: "مشهدنا أحدث وأعذب وأكثر حميمية منه في أوروبا، وأعتقد أن القهر يجعل الحفل أكثر صخباً".

منذ عرض بويلر رووم، لاحظت سماء تعاظم شعبية المشهد الفلسطيني واهتماما بها كفنانة؛ وعندما سألتها عن أهمية العرض وما سيعنيه للفنانين من أبناء بلدتها في المستقبل، قالت: "بالنسبة للفلسطينيين المهتمين بالموسيقى الإلكترونية، لم نعد أولئك الأغراب الذين شكّلوهم على هواهم، بل نحن نقاوم بموسيقانا، ومعًا، نمثّل نحن الثورة".

يمكنك مشاهدة فيلم الأندرغراوند الفلسطينية على Boiler Room 4: 3

© The Independent

المزيد من فنون