Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"متحف الغد" لسانتياغو كالاترابا: فنّ على الواجهة البحرية

شيء من الوهم اللذيذ في المساحات الضيّقة

"متحف الغد" لكالاترابا في ريو دي جانيرو (من موقع المتحف على الانترنت)

يتشارك المهندس المعماري الإسباني سانتياغو كالاترابا مع زميلته المصممة الكبيرة العراقية الراحلة زها حديد، كما مع عدد من معماريي العقود الأخيرة من السنين، بالقدر الكبير من الحرية التي يتمتعون بها في إنجازهم أعمالا باتت، بقدر ما تبدو علامات عمرانية فارقة في بعض أهم مدن العالم، تشغل المكان الذي تحتله وكأنها قطع فنية جبارة تتجاوز وظائفيتها لتعطي المكان نكهة ما كان يمكن تحقيقها تبعا للقواعد العمرانية القديمة الصارمة. ولئن كانت شهرة كالاترابا قد تضخمت خلال الآونة الأخيرة بكونه المعمراني الأول الذي وقّع باسمه عملا لافتا في المكان الخالي الذي كان يشغله مبنيا برج التحارة في نيويورك قبل تدميرهما على أيدي الإرهابيين، بمعنى أنه  تمكن وفي فترة قياسية من إعادة بناء كنيسة القديس نيقولا الأورثوذوكسية اليونانية التي كانت قد دُمّرت في سياق تلك العملية الأرهابية، ما أعطاه شعبية على المستوى العالمي، فإن الواقع يقول لنا أن شهرة الرجل كانت في الأصل كبيرة من قبل ذلك هو الذي تنتشر أعماله في العديد من القارات منذ بدايات سنوات الثمانين من القرن العشرين على الأقل، بحيث أنه لا يتوقف عن الإبداع منذ ذلك الحين. وهو في هذا أيضا يبدو مماثلا للراحلة حديد، حيث من المعروف أن مشاريعه ستحتاج ما لا يقلّ عن عشر سنين أخرى قبل أن تُنجز.

وحدة البر والبحر

ومن الطبيعي أن ينجز كالاترابا عدة مشاريع في وقت واحد. ومن هذا مثلا أنه في الوقت الذي كان ينجز فيه الكنيسة التي أشرنا إليها في نيويورك، كان يعطي جزءا كبيرا من وقته لإنجاز مشروع كبير آخر ولكن في الجانب الجنوبي من القارة الأميركية، تحديدا في ريو دي جنيرو في البرازيل، مشروع ينظر إليه هو على أنه واحد من أعماله المفضلة. وبالتحديد لأن موضوعه عالم المستقبل الذي شُغف به منذ طفولته وعرف باكرا كيف يربطه بإنجازاته. ومن هنا لافت أن يكون المشروع عبارة عن متحف يحمل بالتحديد إسم "متحف الغد" ("موزبو دو آمانيا" بالبرتغالية). والمتحف الذي إفتتحته الرئيسة ديلما روسيف في العام 2015 أُنجز يومها في فترة قياسية كي يكون جاهزا عند الواجهة البحرية في المدينة عند إقامة الألعاب الأولمبية فيها في العام 2016، علما بأنه عام الإفتتاح لم تكن قد مرّت سوى ثلاث سنوات على الإعلان الأول عن المشروع في ربيع العام 2012. ولقد بدا واضحا يومها أن كالاترابا إنما كان يخوض رهانا مدهشا حين قبل بإنجاز المبنى خلال ذلك الوقت القياسي خاصة أن التمويل لم يكن مؤمّنا منذ البداية ولو يكن أريحيا، بل الأدهى من ذلك أن مناوئي الرئيسة كانوا كثرا حينها وانتهى بهم الأمر الى خلعها لاحقا متّهمينها بفساد لم تنج سمعة "متحف الغد" نفسه من الإنخراط فيها حيث لم يثبت أي فساد يتعلق به.

المهم أن هذا الصرح بات منذ افتتاحه حقيقة واقعة وإحدى العلامات الأساسية في المدينة البرازيلية الساحرة، ولكن خاصة إحدى علامات التجديد اللافتة بقوة بالنسبة الى المشروع الذي ينفذ منذ سنوات في المنطقة المرفئية في ريو دي جانيرو والذي يجعل المنطقة البحرية الآسرة تلك، واحدة من أبدع المجمعات العمرانية في البرازيل. وهو أمر ساهم فيه المتحف الى حد كبير. فما هو هذا المتحف في نهاية الأمر؟

العلم والأجيال الجديدة

كما يدل عنوانه هو متحف علمي من النوع الجديد والمعاصر الذي بات ذا إنتشار كبير في مدن عديدة من العالم ويسقبل عادة العدد الأكبر من الزوار ورواد المتاحف ولا سيما من الأجيال الجديدة. وهذا الأمر كان في ذهن كالاترابا الذي حزم أمره منذ البداية على أن يكون المتحف واجهة للعلوم الحديثة وللأزمان المقبلة، ليس بمعروضاته وحسب، وإنما ببنيانه أيضا. ومن هنا هذا الشكل الغريب الذي يظهر به المبنى حتى من مسافات بعيدة مجتذبا نحوه أنظار السابلة ولكن خطواتهم أيضا، ولا سيما منهم أولئك المعتادون على تذوق روايات وأفلام الخيال العلمي. فزيارة "متحف الغد" تبدو في نهاية الأمر وكأنها دخول الى عالم من السحر تمثله تلك السينما الغرائبية. ومع هذا إذا كنت زائرا من أبناء الأجيال الأجدّ ستجد نفسك زكأنكت نتمي الى هذا العالم كلّ الإنتماء. وينخلق هذا الشعور بفعل هندسة إنسيابية عرف الفنان في داخل المعماريّ كيف يوازي فيها بين المنطقة البرية المشرفة على الواجهة البحرية المرفئية وبين المصبّ الذي يحتك بتلك الأرض البرية مباشرة.

وبشكل عام وأكثر وظائفية يضم المشروع صالة إستماع (أوديتوريوم) كبيرة ومرصدا ضخما الى جانب ما مساحته خمسة آلاف متر مربع من قاعات العرض دون أن ننسى القاعات الإدارية وغرف المحفوظات والمساحات المخصصة للمعدات التقنية والتي يصل مجموع مساحتها الى نحو 12,500 متر مربع. يبلغ علو الجسم الرئيسي الموزع على طابقين ثمانية عشر مترا ما مكّن المصمّم من أن يجعل قاعة العرض الرئيسية على علو لا يقل عن عشرة أمتار. وتتوزع في طابق المدخل الذي يقود الى شتى أقسام المتحف، حوانيت متخصصة في بيع ما له علاقة بموضوع المتحف، وقاعات تعليمية وغرف إجتماعات وصالات مخصصة للبحوث العلمية والمحاضرات، إضافة الى صالة مسرح . أما بنيان المتحف ككل والذي يغطيه سقف متحرك يمتد ليغطي ليس فقط القاعات الخاصة بالمتحف وغرفه، بل كذلك مجمل المصب المائي المحيط به، فإنه يبدو متماشيا من الجو مع الحدائق المقامة خارج المبنى الرئيس وتشكل مع ذلك جزءا من المكان تزيينيا ولكن علميا أيضا باعتبار أن جزءا أساسيا من اهتمامات المعرض يشمل البيئة والطبيعة والنباتات. بل إن السقف المتحرك يلعب هنا دورا مدهشا بالنسبة الى كونه يطي بتغليفه مساحة تتجاوز مساحة المتحف، إنطباعا بأن المتحف نفسه يشمل المصبّ المائي كله.

حياة الددينة وحياة المبدع

بهذا عرف كالاترابا كعادته كيف يقيم تلك الوحدة العضوية بين المبنى وبيئته وهو أمر نعرف أنه يميز ولا سيما خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين أعمال عمرانيي ما بعد الحداثة من إنزو بيانو الى زها حديد ومن أندو الياباني الى كالاترابا وعدد كبير غيرهم. ونعرف أن هذا الأسلوب الدمجي نجح غالبا في الإستفادة من "الوهم" الذي يخلقه للتعويض عن ضيق مساحة الأرض المتوافرة لهكذا مشاريع تشتغل فنّية مبدعيها عادة ضدها على إعتبار أن النقد والرأي العام حاضران دائما لتوجيه النقد والإتهام بالهدر قبل أن ينتهي الأمر على إبداعات فنية سيكون المنتقدون والعامة أول من يستمتع بها ويدافع عنها حين تصبح جزءا ليس من حياة المدينة وحدها بل جزءا من حياتهم. وهذا بالضبط ما واجهه كالاترابا حين بنى مشروعه هذا على مساحة لا تزيد في الأصل عن خمسة عشر ألف متر، مع أنه يبدو وكأنه يشغل أكثر من ضعفي هذه المساحة.

سانتياغو كالاترابا الذي تحمل توقيعه اليوم مبان/علامات تنتشرفي مدن أوروبية وأميركية شمالية عديدة ولا سيما في بلده إسبانيا، ولد العام 1951 في بالنسيا الإسبانية وكان في السادسة حبن بدأ دراسة الرسم – الذي وكما كان حال زها حديد، لا يزال يمارسه حتى اليوم بقوة وحماس وأقام عدة معارض لرسومه -. وهو بعد تخرجه من كلية الفنون في مدينته وبعد فترة دراسية أمضاها في فرنسا، درس الهندسة العمرانية بين 1969 و1974 في مدينته نفسها قبل أن يتابع دراساته العليا في المجال نفسه في زوريخ بسويسرا حيث ما لبث أن أسّس وكالة للعمران لا يزال يشتغل حتى اليوم إنطلاقا منها كما، منذ 1989، إنطلاقا من وكالة ثانية أسسها في باريس ليدير إنطلاقا من الوكالتين تلك المشاريع التي جعلته واحدا من كبار معماريي العالم في هذه الأيام.

"متحف الغد" لكالاترابا في ريو دي جانيرو

المزيد من ثقافة