بدا مشهد تفقد محافظ العاصمة الجزائرية محمد شرفة أشغال ترميم قصر الداي، في القصبة العتيقة، مكرراً. كأن المحافظ يستعيد المشهد من كتاب "كيف تبدأ مهماتك في العاصمة؟"، ويجيب بأن "جولة من القصبة تفي بالغرض".
وقد حضر مشهد المحافظين السابقين في هذا المعلم الذي شهد حادثة "المروحة" الشهيرة سنة 1827 واتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال الجزائر. وغادر أولئك المحافظون من دون أن يتغير شيء. فقصة القصبة من قصة تاريخ الجزائر وترميمها يستعيد مشاهد صراع فرنسي تركي ومعالم فساد مالي لا ينتهي.
وبوجه شاحب، أطلق المحافظ الجديد إنذارات بالجملة إلى شركات الترميم العاملة في القصبة، مع تشديد على عدم هدر المال العام. وأرفق ذلك بتدقيق في تفاصيل الجدران والأرضيات.
حي القصبة العتيق ليس مجرد أبنية عادية. عمارة تؤرخ لتاريخ البونيقيين والفينيقيين والرومان والمسلمين والعثمانيين والأمازيغ، وأخيراً الفرنسيون. فهذا الرمز للثقافة الجزائرية موضوع للإلهام الفني ومقر للخبرة الحرفية الموروثة.
صنفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) حي القصبة، في 1992، ضمن التراث الإنساني العالمي. وقد شيد فوق جبل مطل على البحر في العاصمة، في القرن السادس عشر، ليكون مقراً للوالي العثماني وقاعدة عسكرية مهمتها الدفاع عن الجزائر، وفق مؤرخين.
ويشبه الحي المتاهة، فأزقته تتداخل وينتهي معظمها بأبواب منازل، بحيث لا يستطيع الغريب الخروج منها من دون دليل.
قصص التاريخ
أهم القصور العثمانية في أزقة القصبة قصر الداي، المعروف باسم دار السلطان. وهناك قصور الرياس وخداوج العمية ودار عزيزة.
وعلى الرغم من تلك الأهمية، تتكرر أحداث الانهيارات التي تشكل خطراً على حياة سكان الحي العتيق.
في خريف عام 2014 وقّعت الحكومتان الجزائرية والتركية اتفاقاً لترميم أجزاء من القصبة. وتعهدت الحكومة التركية بترميم جامع كتشاوة التاريخي في ساحة الشهداء وسط العاصمة. وتهدف تلك الهبة إلى الحفاظ على "العمارة العثمانية".
لكن السلطات الجزائرية عادت وأعلنت عام 2016 عن صفقة تاريخية مع مكتب دراسات فرنسي "إقليم إيل دو فرانس" والمهندس المعماري الفرنسي جون نوفال، لبدء ترميم واسع لتتحول الصفقة إلى قضية على شبكات التواصل الاجتماعي، لا سيما أن مشروع الترميم استهلك نحو 24 مليون دولار من قيمة تجاوزت 90 مليون دولار خصصت لها فضلاً عن أغلفة مالية استنزفت في سنوات سابقة تصل إلى نحو 800 مليون دولار. لكن كل عمليات الترميم باءت بالفشل.
تحت ضغط الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، تراجعت محافظة العاصمة التي استلمت ملف القصبة من وزارة الثقافة، وأعلنت أن دور المهندس المعروف دولياً، جون نوفال، يتمثل في مرافقة ولاية الجزائر مع إسداء الأفكار والنصائح في مجال إعادة إحياء القصبة أي "ستوكل إليه مهمة تنسيق أشغال إعادة تهيئة خليج الجزائر الممتد من الجامع الأكبر إلى القصبة السفلى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل نهاية عهد عبد العزيز بوتفليقة، في 2019، تحت ضغط الشارع، كان سبباً رئيساً لانسحاب الفرنسيين بشكل نهائي من مشروع القصبة التاريخي بالطريقة ذاتها انسحب الأتراك مكتفين بترميم جامع كتشاوة وتسليمه في مراسم تاريخية شارك فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
حالياً، تعهد أشغال الترميم التي أطلقتها محافظة الجزائر في ديسمبر (كانون الأول) 2016، 14 مكتب دراسات و17 مؤسسة جزائرية. ما يوفر 1200 فرصة عمل جزائرية.
"تصفية استعمار"
هل كُتب على حي القصبة التاريخي أن يظل رهينة تعدد النيات بشعار "جزأرة" مشروع استعادته بما يوجب "تصفية استعمار" شملت عمليات الترميم، في الحقيقة. لا هذا أو ذاك نجح في إبراز الطابع التاريخي للحي الممتد فوق كيلومترات عدة ومحيط عمراني واسع يتوسط الأبواب التاريخية السبعة للمدينة القديمة.
يذكر عمار كساب أن ملف ترميم القصبة "أحد قضايا الفساد الكبيرة. وهي واحدة من أكبر قضايا الفساد منذ الاستقلال، حيث سرقت العصابة ملايين الدينارات ولم يكن الترميم سوى وسيلة لنهب المال العالم". ويؤكد كساب أن مشاريع "الترميم الوهمية التي خصت بها القصبة استهلكت نحو 800 مليون دولار منذ عام 2012 لترميم لم تر نتائجه النور إلى اليوم".
في شهادة "غريبة" للمهندس الألماني أرمين دور، الذي شارك قبل عامين في لقاء دولي حول حماية القصبة، قال إن "إعادة إعمار مدينة نورمبورغ الألمانية التي تعرضت لشبه دمار كلي عقب الحرب العالمية الثانية لم تصل تكلفته حدود ما تم صرفه على القصبة التي تعاني حالة ضياع". وأضاف "أُعيد إعمار المدينة الألمانية خلال 20 سنة وبتكلفة أقل بكثير مقارنة بما صرفته الجزائر لإعادة ترميم القصبة في عمليات انطلقت منذ 30 سنة خلت".
وتشير الصحافية المتابعة لملف القصبة، كريمة اجطوطاح، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن "ترميم القصبة لن ينجح إلا بترحيل ساكنيها، وتفريغها، لأن العملية تحتاج إلى الدقة في العمل، وذلك يستغرق وقتاً طويلاً، ومعظم خبراء العمران لهم ملاحظات سلبية تجاه العملية، فهم يؤكدون أن ترميم المعالم يجب أن يكون بمواد بناء أصلية كالطوب والخشب".
وتصف أجطوطاح عمليات الترميم من البداية بـ"الحبر على الورق"، قائلة "منذ تصنيف القصبة ضمن قائمة التراث العالمي، توسعت الأطماع حولها، لقد كانت الجزائر مجبرة على إطلاق عمليات إصلاح بناء على ملاحظات منظمة يونسكو، التي هددت في محطات ما بسحب هذا التصنيف". وتتابع "منحت حينها السلطات الجزائرية، ميزانية ضخمة للترميم، عبر وزارة الثقافة أو مصالح ولاية الجزائر، على الورق دائماً كانت البدايات بالقصور والمساجد داخل الحي العتيق، ثم الانتقال تدريجاً إلى عدد من المنازل".