كأننا نشاهد ستة عوالم متوازية، مختلفة جداً ومتماثلة تماماً. وبعد عملية فوضوية للحزب الديمقراطي، نعم بل أشد فوضويةً حتى من الكيفية التي يفترض إجراء المؤتمر التحضيري وفقها، بدأ المرشحون يظهرون على المنصة ويقرأون خطابات انتصار متماثلة، على الرغم من عدم وجود نتائج حقيقية عن الانتخابات التمهيدية الهادفة إلى اختيار مرشح ديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر (تشرين ثاني) المقبل.
ظل مدير إحدى الدوائر الانتخابية يفترض أنه سيقدم تقريراً عن النتائج من منطقته إلى الحزب، منتظراً دوره لساعة كاملة، ثم أصابته الحماسة أثناء حديثه مع قناة "سي آن آن" على الهواء، لكن بعد ثوان قليلة، انقطع التواصل معه بصورة عرضية.
بدأ المتحدثون باسم دونالد ترمب، والمنشغلون حاليا بمهمة الدفاع عن الرئيس ضد الاتهامات الزاعمة بأنه حاول دفع أوكرانيا إلى تشويه سمعة جون بايدن، يروّجون إشاعات بأن الديمقراطيين زوّروا عملية انتخاب مرشح عنهم لخوض الانتخابات الرئاسية. أنت لا تستطيع فبركة هذه العملية، وإذا فعلت ذلك فسيكرهك الجميع.
هكذا، ظهرت أيمي كلوبوشار على المنصة أولاً، مستفيدةً من حقيقة أن كاميرات قنوات التلفزيون على المستوى الوطني لم يكن لديها ما تلتفت إليه سواها. وأشّرت الساعة إلى العاشرة والربع مساء في ولاية "آيوا"، حين بدأت بإلقاء خطاب حماسي وعاطفي حول دحر الرئيس ترمب. "يجب أن تكون أمامه على مكتبه جملة محفورة تقول "اتخاذ القرارات والمسؤولية تجاهها لا يكونان إلا في هذا المكان" [كرسي الرئاسة]"، وفق كلماتها. وبعد ذلك، تحدثت عن إنجازاتها في الفوز بانتخابات جرت "في أكثر المناطق تأييداً للجمهوريين" و"في أكثر المناطق تأييداً للديمقراطيين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عليكم أن تعجبوا بجرأتها. إذ لِمَ لا تكون في المقدمة، بالمقارنة مع آخرين تخبّطوا في خطاباتهم كأنهم دجاج بلا رؤوس؟ كان من المفترض أن تُقصى كلوبوشار بعد مؤتمر "آيوا"، لكنها ظهرت على حين غرة، كأنها المرشحة الديمقراطية الوحيدة التي أنجزت شيئاً ما.
ثم ظهر بايدن الذي كانت ترافقه زوجته جيل. وورد في خطابه، "سنكون في هذا الميدان لمدة طويلة.. من هنا إلى نيوهامشاير!"، و"كل شيء يحافظ على جوهر أميركا معرَّض للخطر!" و"بارك الله وحداتنا العسكرية!". جاء خطابه تقليدياً ووسطياً.
فور انتهاء بايدن من خطابه، ظهرت إليزابيث وارن كي تلقي خطابها. وسعت إلى منع تقدم نائب الرئيس السابق عليها في مجال الشعارات الوطنية، فردّدت أيضاً "الأميركيون يقومون بأشياء كبيرة... ذلك هو من نحن". ثم وعدت بجلب "حلول كبرى لمشاكل كبرى".
بدا خطابها في بعض سطوره كأنه تقليد لأسلوب بايدن، بل كأنما كتبته وفي ذهنها أولئك الذين سيحتلون الموقع الثاني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
بعد وارن، ظهر على التوالي بيرني ساندرز وبوتيديدج، المرشحان الأكثر تفضيلا للفوز في تلك الليلة. وانتظر كلاهما إلقاء خطاب يتناسب مع الفوز، قبل أن تتهشم أفضل خططهم على نحو مفاجئ، بسبب ظهور نتائج مستحيلة رياضياً. في تلك البرهة، وقف بيرني بجانب أشخاص ينتمون إلى ثلاثة أجيال من عائلته. وبدلاً من الاستناد إلى أرقام حقيقية، أطلق كلمات جاء فيها "لدي شعور جيد بأننا سنحقق نتيجة جيدة جداً، في "آيوا" هنا". وعلى غرار آخرين، تظاهر بيرني بأن هذه الانتخابات التمهيدية في تلك الولاية، وأفاد أن "هذه ليست مجرد انتخابات... بل أن "آيوا" بعثت رسالة واضحة اليوم"، قبل أن يتوقف عن الكلام لأن الجميع يعرفون أيضاً أن الرسالة الفعلية كانت "نحن لا نعرف كيف ندير مؤتمراً تحضيرياً لاختيار مرشح للانتخابات الرئاسية".
أخيراً، مع تجاوز منتصف الليل، اعتلى بوتيديدج المنصة تحت أشد الأصوات هتافاً باسمه في ذلك المؤتمر، بل هتف الجمهور باسم زوجه تشَيستن في لحظة ما، بعد أن تحدث عنه عمدة بِيت بوتيديدج باعتباره "حب حياتي... لجهوده في إبقاء قدميّ على الأرض".
لم يدّعِ بوتيديدج أن خطابه لم يكن خطاب فوز بالترشيح، إذ ورد فيه إنّ "هذه ليلة أصبح الأملُ المستحيل حقيقةً لا يمكن إنكارها"، متجاوزاً حقيقة أن غياب الأرقام بالكامل يجعل الأمور قابلة للإنكار نسبياً.
وكذلك حاول كبح جماح نفسه، إذ أضاف "ليس لدينا كل النتائج بعد... لكن يا "آيوا"، أنتِ تستمرين في هزّ الأمة". بدا ذلك قولاً شديد الجرأة. إذ ليس هناك نتائج على الإطلاق، لكن... تلك هي أميركا، حيث الحلول الكبرى تعني "بارك الله وحداتنا العسكرية" و"دعونا نطرد ترمب من البيت الأبيض في طريقنا إلى نيو هامشاير!".
بقول آخر، شرع ما كان مفترضاً به أن يكون شبيهاً بأمسية تصويت غير منظم لجمعية في كلية ما، في التحوّل تدريجياً إلى ما يشبه ساعة متأخرة من ليلة في حفلة جامعية، حين تدرك بأنك لا تستمتع حقاً بوقتك بل أنك ثمل جداً أيضاً ولا تستطيع تذكر طريق العودة إلى البيت. كتب بعض أنصار بيرني على "تويتر" زاعمين أنه تزوير "مثل ما حدث في 2016". وبغض النظر عمن سيفوز، فإن روبوتات أقصى اليمين ستنشغل كثيراً في وسائل التواصل الاجتماعي. وبدأ مذيعو الأخبار يتجادلون فيما بينهم عن أسباب عدم ظهور النتائج، ولماذا لا يستطيع الناس الإيواء إلى فراشهم [قبل معرفتها]، إضافة إلى التثبت من وجود تطبيق لاحتساب النتائج وهل أنه تعطل أم لا.
كتب براد بارسكيل، مدير حملة ترمب، على صفحته في موقع "تويتر" ما يلي "إنهم لا يستطيعون إدارة مؤتمر انتخابات تمهيدية ويريدون أن يديروا الحكومة".
يمكن القول إن كل المكائد التي وقعت حتى الآن، تبدو صغيرة بالمقارنة مع الفوضى التي وقعت أثناء المؤتمر. ومع ذلك وقعت مكيدة خلالها. ومثلاً، في بداية الأمسية، حلّت لحظة ظهور نتائج الهيئة الناخبة في "غرينيل كوليدج" وتبيّن فشل بوتيديدج وكلوبوشار ومرشحين معتدلين آخرين في الحصول على عتبة الـ15 في المائة التي تسمح لهم بالاستمرار في المنافسة. وراح الناخبون المعتدلون الذين رفضوا الانضمام إلى الكتلتين الكبريين اللتان تقفان وراء إليزابيث وارن وبيرني ساندرز، يتجمعون مكونين كتلة "غير ملتزمة" ثم بدأوا ينادون عالياً على مناصري بوتيديدج للانضمام اليهم. وأخيراً، استطاع "غير الملتزمين" تحقيق نسبة الـ15.4 في المائة التي تتجاوز عتبة الـ 15 في المائة، ما سمح للمرشحين المعتدلين في "غرينيل" [بعد خسارتهم التصويت فيها] بالحصول أخيراً على موضع قدم بين أنصار الجناح اليساري المهيمن في الحزب الديمقراطي [في "غرينيل"]. ويتمثل ما قدمه ذلك المثل في أن الانقسامات بين الديمقراطيين في هذا الوقت، باتت فائقة الأهمية.
على الرغم من ذلك، يكمن الشيء غير المثير للاهتمام في ما ستخبرنا به النتائج الإجمالية. إذ ادّعى كل المرشحين الديمقراطيين الفوز، وغادروا كلهم ولاية "آيوا" في طائرات خاصة، وعاد الناخبون إلى مساكنهم. لقد تحوّل مؤتمر اختيار مرشح عن الحزب الديمقراطي لانتخابات 2020 الرئاسية، مسرحية كافكوية غرائبيّة تدور حول الكافيين.
لقد هتف الجميع بحبور، ولم يتحقق أي تقدم، وظل الأفراد يرددون عبارات غير مناسبة لكنهم لم يملكوا الوسائل التي تجعلهم يقدمون على فعل أشياء اخرى غير ذلك [الهتاف]. إنه عرض جدير بالمشاهدة من نواح عدّة.
تضمن مؤتمر آيوا لاختيار مرشح ديمقراطي لانتخابات 2020 الرئاسية أشياء كثيرة. يشمل ذلك تضمنه كثيراً من الخطابات الطنانة، ومساهمته إيجابياً في دعم صناعة الأعلام الصغيرة. وكذلك شكّل تجربة سوسيولوجية متميزة. ويتمثّل عيبه الأساسي في أنه لم يكن جديراً بأن يشكّل بداية لانتخابات حسّاسة سيترتب عليها تداعيات كثيرة.
لكن بعد السنوات الأربع الأخيرة، من كان يتوقع ذلك؟
© The Independent