Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديليا أونس في الـ 70 تكتب روايتها الأولى... وتتصدر أعلى المبيعات في أميركا

"حيث تغني اللوبسترز"... 4.5مليون نسخة ورقية ومليون ونيف نسخة إلكترونية

الكاتبة الاميركية ديليا أونس التي تحتل المرتبة الأولى مبيعاً (دار النشر)

كيف يُمكن كاتب رواية أولى أن يتجاوز "عمالقة" الأدب؟ ما الذي يجعل من كتاب أدبي يحتل قائمة أعلى المبيعات؟ أين يكمن "السرّ" في عمل يتهافت عليه القرّاء والنقّاد والدور العالمية؟ هذه الأسئلة تتبادر إلى ذهنك حتماً وأنت تقرأ ما يكتب يومياً عن رواية الأميركية ديليا أونس "حيث ُتُغنّي اللوبسترز" أو السلاطيع، وسلاطيع هي جمع سلطعون، الحيوان البحري المعروف.

بيع من الرواية في أميركا وحدها أكثر من 4.5 مليون نسخة ورقية، وأكثر من مليون نسخة إلكترونية، واحتلّت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً على مدار 36 أسبوعاً في أميركا، كما تصدّرت مبيعات موقع "أمازون" في 2019. تجاوزت هذه الرواية الأولى لصاحبتها، روايات الكاتبة المخضرمة مارغريت آتوود التي تعد من الأكثر مبيعاً، وسيرة ميشيل أوباما "وأصبحتُ" التي حققت أرقاماً عالية، لتتربّع على عرش الـ "بيست سيلرز" في الولايات المتحدة. هذه الأرقام أغرت طبعاً السينمائيين ممّن يتسابقون اليوم على تحويلها الى فيلمٍ روائي طويل.

قبل أسابيع قليلة، صدرت الترجمة الفرنسية عن دار "سوي" العريقة. ولم يكن مفاجئاً حجم الاهتمام بها عقب ضجة هائلة أحدثتها منذ صدورها بالإنجليزية. وإذا بحثنا عن "سرّ" هذا الكتاب، لوجدناه كامناً أولاً في شخصية "بطلته"، كِيا. ولهذا اختارت الدار الفرنسية أن تكتب على غلافها: "بطلة استحوذت أربعة ملايين قارئ".

نمط آخر

صوت خافت وسط ضجيج الستينيات، نزعة إنسانية في زمن المكننة، حياة فطرية في ذروة التحضّر. هكذا تبدو بطلة ديليا أونس، التي تخرج كشعاع يضيء عتمتنا الداخلية، يوقظ صورة الطفل فينا، يعيدنا إلى علاقتنا مع الطبيعة، لنكتشف أنّ الحياة ليست بيتاً ومدرسة ومطعماً وتلفازاً وهاتفاً وعملاً يومياً داخل مكتب. الرواية تُحطّم إذاً فكرة الحياة الاجتماعية الواحدة، المستنسخة، المتكرّرة أينما كان. بل إنّها تشدّ القارئ بيده، وكلّ حواسه، لتضعه أمام نمط آخر من حياة لم تدجّنها العولمة. حياة تكتشف فيها معنى العزلة والانتظار وصيد الأسماك وقطف الأزهار وأحلام اليقظة.

تمتدّ أحداث الرواية من العام 1952 إلى العام 1969، فتُصوّر حياة البطلة من السادسة حتى الخامسة والعشرين. تبدأ الحبكة في قرية هادئة تعيش فيها عائلة دانييل كلارك، المؤلفة من خمسة أبناء هم: ميسي، مورف، ماندي، جودي. أمّا كيا فهي الابنة الصغرى التي تتخلّى عنها والدتها قبل أن تتمّ السادسة وتعيش بقيّة سنواتها في انتظار عودتها.

رحيل الأمّ يُحدث زلزالاً داخل الأسرة، فيتطرّف الأب في شرب الكحول ويقلب حياة أولاده جحيماً. يغادر الأبناء واحداً تلو الآخر، وتبقى كيا، الطفلة الصغيرة، شاهدةً على خسارات متلاحقة قبل أن يخرج والدها في رحلة لا يعود منها أبداً.

وحيدة، في مسكن معزول، تكبر كيا بين المستنقعات والطيور والأصداف والريش. من دون مال ومن دون عائلة، تتعلّم أن تعتمد على ذاتها. تصطاد الأسماك والسلاطيع وبلح البحر الطازج وتبيعها إلى رجل يشفق عليها هو وزوجته. وحين تقرر كيا أن تلتحق بمدرسة باركلي في "نورث كارولينا"، تواجه منذ اليوم الأول تمييزاً عنصرياً بسبب سُمرتها، فتُقرّر ألا تعود ثانيةّ.

حب وجريمة

في مراهقتها، تلتقي كيا بصديق شقيقها جودي، تايت والكر. يعيشان قصة حبّ رومنطيقية، فيُعلّمها الكتابة والقراءة ويعوّض لها حناناً افتقدته طويلاً، لكنّه يتركها أيضاً بعد انتقاله إلى الجامعة، من دون كلمة وداع. وعند بلوغها التاسعة عشرة، تتعرّف إلى تشايز، رياضي شاب تقع في غرامه، فيعدها بالزواج لتقرأ لاحقاً خبر زواجه في إحدى الصحف، وتكتشف حينها أنّ وعوده لها لم تكن سوى ذريعة من أجل ممارسة الجنس معها. وبعد فترة وجيزة، يوجد مقتولاً إثر جريمة غامضة، فتتهم كيا بالقتل.

إلى هنا، قد تبدو الحبكة عادية، لكنّ قراءتها على ضوء سيرة حياة الكاتبة تغدو أكثر إثارة ودهشة. فالروائية الأميركية، وهي في الأصل ناشطة بيئية وعالمة أحياء، عاشت سنوات طويلة في إفريقيا، وسط الحيوانات البرية والمائية، وهذا ما استثمرته في رواية بدت استثنائية في وصف مشاهد الطبيعة وسلوك الحيوانات. والأهمّ أنّ الكاتبة التي ناضلت كثيراً من أجل حماية الطبيعة والحيوان، اختبرت تجربة صعبة بعدما اتهمتها حكومة زامبيا- هي وزوجها مارك- بقتل أحد الصيادين، عقب إطلاقهما النار على مجموعة كانت تصطاد حيوانات الغابة. بعدها، عادت ديليا، برفقة زوجها، إلى أميركا حيث كتبت في أهم الصحف العلمية المتخصصة من دون أن تغيب عن رأسها فكرة الرواية التي بلورتها في السبعين من عمرها.

في رواية "حيث تغني السلاطيع"، يتداخل مستويان: مستوى رومنطيقي- طوباوي ومستوى واقعي- اجتماعي. وهذا ما يمنحها ميزة إضافية. إنها رواية الطبيعة والأصل والفطرة، لكنّها أيضاً رواية الحياة العامّة بمشاكلها السياسية وانقساماتها العنصرية وفروقاتها الاجتماعية المعقدة.

تتماهى كيا مع الطبيعة في هدوئها وعنفها، سلاستها وصلابتها، ثباتها وحركتها. واللافت أنّ كيا، التي تغفر لوالدتها رحيلها ولا تغفر لها عدم عودتها، تبقى منذ صدمتها الأولى (خسارة أمها) شخصية معلقة بخيط رفيع مهدد دائماً بالانقطاع. تنساب سنواتها وهي تنتظر على شفير بين الصمود والسقوط.

ومن أهمّ عوامل الجذب في رواية ديليا أونس أنّها تمزج بين العالم الخارجي عبر كتابة فوتوغرافية/ تسجيلية (طبيعة، مجتمع، أحداث، أشخاص) وبين العالم الجوّاني لبطلتها عبر تصوير نفسي- فكري (انفعالات، غضب، خيبة).

وليس صعباً أن يجد القارئ الراهن انعكاس صورته في شخصية كيا، في انتظارها العبثي، في كفاحها اليومي، في تجربتها القاسية مع التنمّر وفي صراعها الدائم مع الحياة. "حيث تغني السلاطيع" هي إذاً رواية كلّ إنسان يحاول أن يكتب تاريخه الشخصي كما تعلّمه من الحياة.

المزيد من ثقافة