Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بولا يعقوبيان تمثل صورة غير مألوفة للنائبة البرلمانية اللبنانية

قلبت مفهوم "الشعبوية" لمصلحة المواطن والمجتمع المدني

بولا يعقوبيان (موقع يعقوبيان)

كانت النائبة بولا يعقوبيان تعلم أنّ حجبها الثقة عن حكومة سعد الحريري في الجلسة البرلمانية الأولى بعد إعلان التأليف، لن يؤثر في نيل الحكومة الثقة بإجماع شبه غالب، لكنها شاءت على ما يبدو أن تمارس "فرديتها" التي جعلتها شعاراً لمسيرتها النيابية والتي قررت أن تخوض من خلالها معاركها بحرية وجرأة، بعيداً من أي التزام حزبي أو جماعي أو طائفي. حتى انتماؤها إلى الطائفة الأرمنية بحكم العائلة، ليس مرتبطاً بتوجهات الأحزاب الأرمنية على اختلاف مواقعها، فأرمنيتها لا تنفصل البتة عن انتمائها اللبناني، حتى وإن ترشحت عن أحد المقاعد الأرمنية في بيروت. إنها أرمنية بمقدار ما هي لبنانية، علمانية، تنتمي إلى المجتمع المدني. وبدا واضحا أن حجبها الثقة لم يكن موجهاً ضد الرئيس سعد الحريري الذي عملت في مؤسسته الإعلامية (تلفزيون المستقبل) سنوات وكان لها بمثابة صديق ومرجع لا سيما عندما كانت تختلف مع فريقه السياسي، وهي كانت الصحافية الأولى التي زارته في الرياض وأجرت معه مقابلة شهيرة كان لها أثرها في الساحة اللبنانية والعربية، وغدت بمثابة رد على كل الأسئلة التي طرحت بإلحاح حينذاك.

كان موقفها السلبي من منح الثقة شخصياً جداً وفردياً، وسعت من خلاله إلى تأكيد هذه الفردانية ولو لم تخلُ إطلالتها في البرلمان من مظهر "شعبوي"، قصداً أو عن غير قصد، وقد سبقها مشهد "شعبوي" آخر تمثل في وصولها إلى البرلمان المحاصر أمنياً، على دراجة "فيسبا" وذريعتها الاعتراض على إقفال الطرق والشوارع عند كل اجتماع في المجلس النيابي. وهذه فعلاً ذريعة محقة ومقنعة جداً وتمثل وجهاً من وجوه المعاناة اليومية التي يكابدها المواطنون اللبنانيون الذين تُقطع عليهم الطرق ويقعون في ازدحام خانق وغير مبرر. غير أن "شعبوية" بولا يعقوبيان النائبة المعارضة والمحتجة، مقبولة جداً ومقنعة، فهي غير مفتعلة وغير استعراضية وغير مجانية ولا تخفي وراءها حالاً من البروباغندا وحب الظهور. ويمكن وصفها بـ "الشعبوية الشعبية" ولكن الذكية والمثقفة والهادفة، التي تحمل "خطاباً" وطنياً ومواطنياً، وتعبّر عن معاناة المواطنين المستقلين الذين يقعون ضحايا الفساد والمحاصصة الطائفية والحزبية. لم تمنح بولا الثقة للحكومة لأنها وجدت أن الأحزاب التي طالما احتلت المقاعد هي نفسها تحتلها أو تتبادلها، وليست الوجوه الجديدة إلا سليلة الأحزاب نفسها.

أصرّت بولا على أن تُسمّى "نائبة" وليس نائباً كما درجت العادة في المعجم السياسي والإعلامي، بحجة أن النائبة تعني المصيبة أو الرزيئة، وهي على حق لغوياً، فكل ما يقبل التأنيث لغوياً بالتاء المربوطة يؤنّث، أما المعنى السلبي لـ "النائبة" فهو واحد من المترادفات التي تجوز نحوياً. طبعاً لم يكن هدف بولا تصحيح الخطأ اللغوي الشائع بل السعي إلى تكريس حقّ المرأة بصفة تخصّها بعيداً عن السلطة الذكورية. وفي إطلالتها الأخيرة في برنامج "صار الوقت" الذي يعده ويقدمه الإعلامي اللامع مارسيل غانم على شاشة "أم. تي. في"، طلبت من الجمهور ألّا يصفق لها كلما تحدثت عن مشكلة أو اعترضت على موقف أو فضحت سراً، ففي قناعتها أن التصفيق يجب أن يقتصر على ما يتحقق من أهداف أو ما يُنجز من أفعال. وبدا في الحلقة كم أن مواقفها الجريئة جلبت – وتجلب- لها من متاعب وكم عرّضتها لاتهامات وإشاعات، وهذا مقدّر، فخصومها ليسوا قلة وهم من أهل السياسة والإدارة والاقتصاد والتجارة... وقد تمكنت من كشف أخطاء فادحة في إدارة الأزمات ومن إثارة فضائح تشمل حقولاً عدة ومنها حقل الكهرباء والنفايات والماء والتلوث عطفاً على الفساد في القضاء والوزارات وقضية التوظيف الحزبي والطائفي والمذهبي والمحاصصة والعمولات... وقد طالبت بإلغاء رواتب الرؤساء والنواب السابقين وخفض "المخصّصات" التي تثقل الموازنة. وسعى بعض خصومها إلى البحث في حلقات برنامجها التلفزيوني الذي قدمته طوال سنوات على تلفزيون "المستقبل" عن مواقف تدينها سياسياً وتكشف انحيازها وتورطها الحزبي، وعمد بعضهم إلى التذكير بعملها في تونس داخل الإدارة الإعلامية الرسمية في عهد الرئيس زين الدين بن علي واتهموها بالسعي إلى تبييض صفحته... لكنّ ردودها كانت حاسمة وقوية. فما يميز النائبة الشابة هو تسلحها بالوثائق والشواهد والأرقام، وهي غالباً ما تطل وفي حوزتها ملفات وأوراق.

لا شك في أن المنهج النيابي الذي اختارته بولا يعقوبيان ينمّ عن حنكة وذكاء وعن ثقافة سياسية حديثة ومراس في العمل الإعلامي. لقد استفادت كثيراً من تجربتها الإعلامية التي استهلتها باكراً والتي نجحت في ميدانها أيما نجاح وعرفت كيف تتحاشى "الألغام" السياسية التي تنتهب المعترك الإعلامي و"الفخاخ" التي تنصب على طريق الإعلاميين وخصوصاً الإعلاميات. تصرّ بولا على التأكيد أن معركتها مع الطبقة السياسية الحاكمة غير شخصية، فهي ليست على عداء مع هذه الطبقة، بل هي تملك صداقات مع معظم اهلها، لكن معركتها هي معركة المواطن مع هذه الطبقة، معركة الإصلاح والتغيير، معركة الحقوق والعدالة، معركة البناء والنهوض.

خلال أشهر قليلة في البرلمان استطاعت بولا يعقوبيان أن تقدم صورة غير مألوفة عن النيابة، صورة نائبة حرّة وجريئة ومتحرّرة من المرجعيات الطائفية والحزبية، نائبة وطنية و"مواطنية" تنتمي إلى المجتمع المدني.

تُرى هل تحافظ بولا يعقوبيان على مثل هذه المناقبية البرلمانية الراقية أم أنها ستقع ضحية الإغراءات التي قد تنهال عليها مثلما انهالت على سواها من نواب سابقين فانحرفوا عن طريقهم المستقيم؟

المزيد من آراء