إن شعاري المفضل عن بريكست خلال السنوات الثلاث الماضية مكتوب بأحرف بيضاء كبيرة على حائط أحمر في منطقة تايغرز باي في بلفاست. طلي الشعار(على الحائط) قبل استفتاء العام 2016 وقد خُطت تحت رسم علم المملكة المتحدة عبارة "صوّتوا لخيار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي "رؤيا 4:18"
وهي إشارة توراتية إلى آية في رؤيا يوحنا تقول " ثم سمعت صوتاً آخر من السماء قائلاً اخرجوا منها يا شعبي لئلا تشتركوا في خطاياها ولئلا تأخذوا من ضرباتها".
وبدا لي عند رؤيتي صورة عن الجدارية للمرة الأولى أنّ هذه الأسباب مقنعة من أجل الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي وتساوي بصوابيتها الأسباب الأخرى التي يروّج لها مناصرو هذا الإتجاه. فالآية المذكورة على صلة أوثق بموضوع مقاومة منظّمة دولية كبيرة ومستبدّة مما أدرك في حينه من رسمها. ورؤيا يوحنا مليئة بإشارات غامضة إلى وحوش مثل "وحش الأرض" و"وحش البحار" ذو "الرؤوس السبعة والقرون العشرة". لكن الخبراء يعتبرون هذه المخلوقات الغريبة إشارات عدائية ترمز إلى الإمبراطورية الرومانية والأباطرة الرومان الذين اضطهدوا المسيحيين الأوائل ومنهم كاتب الرؤيا، في آسيا الوسطى عند نهاية القرن الأول بعد الميلاد.
وها قد حصل راسم جدارية بلفاست على مراده أخيراً مع هروب المملكة المتحدة من قبضة الإتحاد الأوروبي الشيطانية المزعومة. ويعتبر مناصرو الإنسحاب هذا اليوم يوم تحرير فيما يبكي مناصرو البقاء كارثة جلبوها على أنفسهم يعتبرونها معاكسة لمسار التاريخ. لكن في الحالتين، تنحصر هذه الرؤية بالغرب الأوروبي وتحمل وجهة نظر متحيّزة ومضللة للغاية عن التاريخ الحديث: فإن شملنا الجانب الشرقي للقارة الأوروبية من الأطلسي حتى جبال الأورال خلال السنوات الثلاثين الماضية، نجد أنّ الإتجاه نحو الإندماج الأكبر ضمن الإتحاد الأوروبي يقابله بل يتفوق عليه الإتجاه نحو التفكك في الشرق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نادراً ما يعتبر تفكك الإتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا خلال تسعينيات القرن الماضي مادّة يستقي منها الإتحاد الأوروبي الدروس: فأغلب العالم كان ينظر إلى الإتحاد السوفياتي على أنّه امبراطورية شريّرة وإلى يوغوسلافيا على أنها امبراطورية شريرة مصغّرة أيضاً فاعتبر بالتالي أنّ سقوطهما حتمي وجيّد.
لكن القوى المناصرة للانقسام التي فكّكت الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا لديها نقاط مشتركة مشؤومة مع القوى التي تهدّد الاتحاد الأوروبي اليوم. فإمّا حقّاً أو بغير وجه حقّ، شعر المواطنون القاطنون خارج مراكز اتخاذ القرار في موسكو وبلغراد وبروكسل بتجاهل رغباتهم وباحتكار النفوذ وتركّزه في يد نخبة لا تمثّلهم في المركز. واستغلّ السياسيون المحليون موجة القومية مدّعين أن كلّ الأمور الجيّدة ستحدث عند حصولهم على حقّ تقرير المصير.
في بعض الحالات جرى الوفاء بهذه الوعود وفي حالات أخرى سرعان ما جرى التخلي عنها ونسيانها أقلّه بالنسبة لمن قطعوها. ومن نواحٍ كثيرة، نعيش منذ زمن بعيد في حقبة التفكك دون أن ندرك ذلك تماماً مع انقسام الاتحادات المتعددة الجنسيات وتفكك المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة الدولية أو احتضارها.
هوجم الرئيس إيمانويل ماكرون لوصفه الناتو بأنّه "ميت دماغياً" ولكنه ليس الوحيد بهذا المعنى. فهذا الأتجاه تم طمسه لأن الأكاديميين والسياسيين في أوروبا الغربية على حد سواء هم من دعاة الوحدة الأوروبية ومشجعين لها ضمن رؤية دمج الدول (في الاتحاد) وكأنه لن يكون هناك أي أمل في أن تتغير الأمور وتأخذ اتجاها معاكسا.
ويشير تيموثي ليس من مركز الدراسات الجيوسياسية والإستراتيجيات الكبرى في كامبريدج والدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية المختصّ بشؤون أوروبا الشرقية، إلى وجود وفرة من المؤسسات المتخصصة في أوروبا "التي تركّز على الإندماج لكن قلّة قليلة منها تدرس التفكّك". وإلى جانب غيره من الخبراء الذين ركّزوا على أوروبا الشرقية خلال العقود الأخيرة، يشكّك باحتمالات نجاة الاتحاد الأوروبي من الأزمة الدائمة الناتجة عن اختلاف المصالح الوطنية لأعضائه.
يعاد تنشيط الدولة القومية لأنّ الجهات المتعددة الجنسيات مثل الإتحاد الأوروبي فشلت في التعامل مع مواضيع كالهجرة وتراجع عجلة الصناعة والعولمة. لكن عملية التفكك تحدث داخل الدول وفي ما بينها وتنتج رابحين وخاسرين على مقربة من بعضهم البعض. في المملكة المتحدة، سلّط الإستفتاء ودورتين انتخابيتين عامّتين الضوء على الشرخ السياسي والإقتصادي بين المدن الكبرى المنخرطة في الإقتصاد العالمي والمناطق الخلفية المحيطة بالمدن الأساسية. وتعتمد حركة السترات الصفراء في فرنسا على دعم مشابه، تماماً مثلما يفعل دونالد ترمب في الولايات المتحدة.
والسؤال الأساسي بالنسبة للمملكة المتحدة والإتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد بريكست هو هل ستستمرّ هذه النزعة باتّجاه التفكك أم ستقابلها نزعة مضادّة باتّجاه التوحّد. عزّزت أزمة بريكست نموّ القومية في بريطانيا واسكتلندا إلى جانب النزعة الكاثوليكية القومية والنزعة التوحيدية البروتستانتية في إيرلندا الشمالية. وطار زعماء الحزب الاسكتلندي القومي فرحاً لفوزهم في الإنتخابات العامة في ديسمبر (كانون الأول) مثلهم كمثل القوميين الإيرلنديين في إيرلندا الشمالية الذين فرحوا لتخلّي المحافظين عن الحزب الوحدوي الديمقراطي والحدود الجمركية المقترحة أسفل البحر الإيرلندي.
لكن تفكك المملكة المتحدة قد يكون أبعد مما يعتقده الكثيرون في أوجّ الأزمة لأنّ وجود أغلبية قوية للمحافظين تقلّص من احتمالات انفصال الإسكتلنديين والإيرلنديين عملياً. ربما كان من الأفضل للحزب الاسكتلندي القومي أن يتفادى الانتخابات العامة ويحافظ على وجود حكومة فيها أقليّة ضعيفة للمحافظين كان وهنها ليزيد خيبة أمل الاسكتلنديين بالاتحاد. وفي إيرلندا الشمالية، أصبح شين فين هذه الأيام حزباً دستورياً يسعى إلى تحقيق الوحدة الإيرلندية عبر التغيير الديمغرافي واستطلاع للآراء حول الحدود.
أمّا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فقد بدا قوياً أثناء المفاوضات مع حكومات بريطانية ضعيفة، لكن في اختبارات أخرى لقوّته، مثل الدفاع عن الإتفاق النووي مع إيران في مواجهة محاولة ترمب لتدميره، ظهر أنه واهن بشكل بائس. وعلى الرغم من نفوذه التجاري، يبدو عاجزاً على تحمّل ضغط الولايات المتحدة وروسيا والصين. إنّ تفتّت المؤسسات والأحلاف المتعددة الجنسيات قد لا يؤدي إلى أزمة تنهي العالم مثلما تنبّأ كاتب رؤيا يوحنا لكنّه سينتج حتماً عالماً أخطر.
© The Independent