Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عظماء أضاؤوا العالم بعبقريتهم وماتوا في براثن الفقر

فلاسفة وموسيقيون وفنانون قسا عليهم الزمن في حضورهم وأنصفهم بعد رحيلهم

"الفقر والغنى" بريشة ويليام باول فيرث 1888

هل يدهش المرء إذا قيل "لا كرامة لنبي في وطنه"؟ الإجابة "لا" مدوية، لأنك تجدها في حيوات الشخصيات الواردة هنا، ومنها الفيلسوف والأديب والموسيقي والتشكيلي، والمساهمات العظيمة التي أثرت بها النشاط الحضاري الإنساني... على أن المرء يدهش إزاء قسوة الزمن عليهم رغم مواهبهم التي قلما تأتت لغيرهم. كيف انتهت لوحات رجل كفان غوخ في أيد اشترتها بمئات ملايين الدولارات بينما الفنان نفسه عاش في فقر مدقع ومات معدما؟ وإذا قلنا إن موزارت مات فقيراً بسبب عجز عصره عن استيعاب عبقريته، فما الذي يبرر رحيل مايكل جاكسون غارقا في الديون وقد مكّنته قدراته الموسيقية – الغنائية - الاستعراضية من بيع 750 مليون نسخة من ألبوماته في حياته؟ قائمة الذين سقطوا من سماء العظمة الى هاوية الفقر طويلة، ونختار هنا نذراً يسيراً من أسمائها:

فنسنت فان غوخ

(30 مارس / اذار 1853 – 29 يوليو / تموز 1890)

قبل ثلاثين سنة، في مايو (أيار) 1990، اشترت دار "رايووي سايتو" اليابانية للنشر "بورتريه الدكتور بول غاشيه" بمبلغ 82.5 مليون دولار في مزاد بدار كريستي النيويوركية لم يدم أكثر من ثلاث دقائق.

ويُخيّل للمرء أنه لو قيل لصاحب اللوحة، الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ، وهو حي أن هذه اللوحة ستباع يوماً بذلك المبلغ لسقط في التو واللحظة ميتاً بالسكتة القلبية... مثلما كان سيفعل إن أتاه نبأ أن لا أحد اليوم يستطيع شراء أعماله – مثل "زهرة عباد الشمس" و"ليلة نجماء" – سوى كبريات المتاحف في الدول الغنية وحفنة صغيرة من أثرى أثرياء العالم. فقد عاش هذا الرجل مترحلاً وعالة على أخيه ثيو. لم يجد طوال حياته من يبدي مجرد الإعجاب بإنتاجه الفني دعك من دفعه المال لشرائه. لا غرو إذن أن يختل عقله فيقضي فترات في المصحات العقلية وأن يقطع أذنه اليسرى إثر مشادة مع صديقه الفنان بول غوغان ثم ينتحر عن 37 عاماً، تاركاً وراءه 2100 عمل فني وجيباً خالياً بالكامل من النقود.

 اوسكار وايلد

(16 أكتوبر 1954 – 30 نوفمبر 1900))

"اعرف انني مخطئ عندما يتفق معي الناس"

"التجارب هي الاسم الذي يطلقه الجميع على أخطائهم"

"حب الذات بداية غرام مدى الحياة"

"شيء واحد فقط أسوأ من أن يلوك الناس سيرتك وهو: ألا يلوكون سيرتك"

"أفضل علاج للإغراء هو الانصياع له"

اشتهر بأقوال مأثورة كهذه. واشتهر بأنه شاعر مفوّه، وقاص بلغ ذروته في روايته الشهيرة "صورة دوريان غراي"، ودرامي أصاب نجاحاً مدوياً بمسرحيته "أهمية أن يكون الإنسان إيرنست" (اختار "ايرنست" لأنها اسم علم وكلمة تعني "شغوف"). هذا هو الكاتب الآيرلندي أوسكار وايلد الذي عرف بعدة أشياء منها أنه كاتب عبقري ولسان حال التيار المعروف بـ"الجمالية" أو "الفن من أجل الفن". وقد نشأ هذا الرجل من أسرة ثرية في دبلن، وعندما انتقل إلى لندن صار من نجوم المجتمع المخملي وذاق رغد العيش في صحبة الارستقراطيين. لكنه عُرف أيضاً بمثليته الجنسية التي قطعت عنه تيار المال من أسرته ثم أدت إلى محاكمته بتهمة الفحش وسجنه سنتين مع الأشغال الشاقة في 1895. ولدى نيله الحرية مجدداً كان قد صار كسيراً جسدياً ومعنوياً فقضى بقية عمره في منفى اختياري بباريس حتى مماته مفلساً في 1900 بعد معركة قصيرة مع التهاب السحايا.

فولفغانغ أماديياس موزارت

(27 يناير / كانون الثاني 1756 – 5 ديسمبر / كانون الأول 1791)

برع موزارت في عزف البيانو وهو في الخامسة من عمره، وفي السادسة حظي بشرف العزف في البلاط الامبراطوري في فيينا، وفي الثامنة ألّف سيمفونيته الأولى. ولدى وفاته المبكرة وهو في سني الشباب كانت مؤلفاته قد وصلت إلى أكثر من 630 من سيمفونية إلى أوبرا إلى كونشيرتو إلى سوناتا إلى قداس موسيقي إلى أغنية كنسية إلى سائر أشكال الموسيقى الكلاسيكية الأخرى. وبلغ شأوه أن بيتهوفن سعى إلى لقائه "للتعلم منه".

على أن كل هذه الموهبة لم تتح له رخو العيش، وبدأت الحظوظ تعبس في وجهه، فراح يرزح تحت وطأة الديون جزئياً بسبب سعيه وزوجته إلى حياة البذخ. ثم نال الفقر من صحته بسبب اضطراره للتأليف وإحياء الحفلات بشكل مستمر. وعندما توفي في 1791 كان معدماً فدفن بأرخص جنازة ممكنة وفي قبر بلا شاهد بمقابر عامة في فيينا (انظر سيرة حياته في "اندبندنت عربية"، 28 يناير 2020).

مايكل جاكسون

(29 أغسطس 1958 – 25 يونيو / حزيران 2009)

في بلاط "البوب" الذي لا يفتح أبوابه إلا لصفوة الصفوة من الموسيقيين المغنين، كان مايكل جاكسون هو الذي يتربع على العرش. نعم، صار هذا الفتى الأسود "ملك البوب" لأربعة عقود قدم فيها مساهمات في الموسيقى والغناء والرقص والأزياء - مع سيرة حياته الخاصة الواقعة في مساحة أقرب للخيال منها للواقع – جعلت منه الاسم الوحيد – ربما – المعروف في كل مسكن على الكرة الأرضية.

طرق جاكسون آفاقاً لم تتسن لغيره. ففي موطنه أميركا أعيد إليه الفضل في إزالة الكثير من الحواجز العنصرية بين البيض والسود. ووفقاً للعديد من المصادر، بلغت مبيعات ألبوماته 750 مليون نسخة (رقم قياسي). لكن حياته كانت أشبه برحلة على قارب صغير وسط بحر هائج. خذ مثلاً تحول لونه وسحنته من السواد إلى البياض. لكن عبقريته الفنية منعت السود من نبذه والبيض من رفضه. وخذ تشييده "نيفرلاند" جنة للأطفال الذين كان يفضل صحبتهم على صحبة الكبار. وخذ اتهامه بالشذوذ الجنسي مع نفس الأطفال الذين لجأ اليهم تعويضاً عن طفولته المفقودة للشهرة والمجد. وخذ حديقة حيواناته الخاصة. وخذ نومه في خيمة أوكسجين خشية العدوى. وخذ أن أرقه واشتهاءه النوم كبقية البشر بلغ به حد أن يُحقن بمخدر العمليات الجراحية حتى لقي حتفه بسببه في 2009.

لا يمكن للمرء أن يتصور أن شخصاً كهذا يمكن أن يموت فقيراً مهماً أنفق. لكن الذي اتضح هو أنه في أواخر سنواته كان مداناً لمصلحة الضرائب الأميركية وحدها بما يربو على 700 مليون دولار. وأضف إلى هذا تمويله لنيفرلاند وحديقة حيواناته وسوء إدارة ثروته عموماً. ثم أضف المبالغ الطائلة التي أورد الإعلام الغربي أنه دفعها تسويات للقضايا الجنسية التي رفعها عليه آباء أطفال كانوا في زمرة المقربين منه. ورغم أن تركته قدرت في 2018 بنحو 4 مليارات دولار (بسبب سد مناطق تسرب المال وتحجيم المصروفات وإدارة أفضل للمتبقي من تركته المادية)، فإن كتّاب سيرته يصرّون على أنه كان يوم مماته غارقاً في الديون حتى أذنيه.

فريديريك نيتشه

(15 أكتوبر / تشرين الأول 1844 – 25 أغسطس / آب 1900)

ربما عُرف هذا الألماني بفلسفته العميقة التي خلقت تأثيراً على التيارات الفكرية حتى اليوم ونال شهرته منها. لكنه كان أيضاً شاعراً وقاصاً ومؤلفاً موسيقياً وناقداً ثقافياً وعالماً بفقه اللغتين اللاتينية والاغريقية (إضافة إلى لغته الأم) ووصل حد تمكنه أن حصل على مقعد الأستاذية في جامعة بازل السويسرية وهو في سنه الرابعة والعشرين لا أكثر.

وربما كان أشهر كتبه المترجمة الى العربية هو روايته الفلسفية "هكذا تكلم زرادشت" التي كتبها على مدى سنتين (1886 - 1885) في أربعة أجزاء وتعالج أفكاراً مثل أن الوجود الكوني يكرر نفسه إلى ما لا نهاية، وما يسميه "موت الإله" الذي قصد به أن عصر التنوير العلمي قضى على الأفكار الدينية المسيحية وأيضاً فكرة الإنسان الخارق (السوبرمان) أو المثل الأعلى الذي يجب أن يسعى البشر للاحتذاء به.

على أن العقل الوقاد الذي تمتع به هذا المفكر بدأ يتمرد عليه فاختل إلى درجة الجنون وعاش معدماً بقية أيامه في رعاية والدته المسنّة التي توفيت قبل أن تؤول هذه المهمة إلى شقيقته اليزابيث.

 

ويتني هيوستن

(9 أغسطس 1963 – 11 فبراير / شباط 2012)

دخلت ويتني هيوستن موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتبارها المغنية (والممثلة) المتمتعة بأكبر قدر من من الجوائز والتشريفات والأعلى شعبية في العالم. وكانت – وتظل الى اليوم – المغنية صاحبة الرقم القياسي من مبيعات الأغاني بأكثر من 200 مليون ألبوم في سائر أرجاء المعمورة، وصاحبة الاغنية المنفردة (I Will Always Love You) الأكثر مبيعا لمغنّية في تاريخ الموسيقى.

تميزت هيوستن بصوت صقلته منذ طفولتها بأغاني الغوسبيل الكنسية السوداء. وكان يضعها – بالمفردات الأوبرالية - في خانة "ميتسو سوبرانو" (من عتبة "لا" تحت الـ"دو الوسطية" صعودا الى "لا" بعد اوكتافين على السلم الموسيقي). وخلفت وراءها كنزا من أغاني الحب في ألبومات صارت سبعة منها بين أعلى المبيعات، إضافة الى عدد هائل من الأغاني المنفردة التي أصابت الهدف نفسه، وهذا إضافة الى موهبتها الدرامية التي مكنتها من نيل البطولة في سبعة أفلام هوليوودية.

في 1998 وقعت هيوستن عقدا بـ100 مليون دولار مع "أريستا ريكوردز". لكنها كانت تخوض معركتين شخصيتين: إدمانها المخدرات وحياتها الزوجية العسيرة مع المغني والممثل بوبي براون. وفي 11 فبراير 2012 عثروا عليها غارقة في حوض حمّامها، وجاء في التقرير الشرعي أنها توفيت نتيجة جرعة زائدة من الكوكايين أدت الى سكتة قلبية. واتضح بعد مماتها أنها لم تبدد ثروتها الطائلة في تمويل إدمانها وحسب، بل كانت أيضا في أواخر أيامها تعيش على الديون من أصدقائها ومعارفها.

ويليام بليك

(28 نوفمبر / تشرين الثاني 1857 – 12 أغسطس 1827)

قيل عن نظمه قصائده الرؤيوية إنه "أعظم شعراء الحقبة الرومانسية". وقيل عن قدراته التشكيلية والإيضاحية إنه "أعظم فنان أنجبته بريطانيا". وفي 2002 احتل المرتبة الثامنة في قائمة أعظم مائة شخصية في التاريخ وفقا لاستطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).

وكفيلسوف، تميّز ووليام بليك بعلاقته العسيرة مع المفاهيم التي أتى بها عصر التنوير، فاختلف مع عقلانية هذا التيار الجديد وحسيّته قائلا إن الخيال هو العنصر الأهم على الإطلاق في الوجود الإنساني. واختلف مع الكنيسة أيضا متمسكا بإيمانه الصوفي بتوحد الإنسان والذات العليا، ووصل به الأمر حد إدانة مؤسسات كالزواج باعتباره شكلا آخر للعبودية، ودعا الدولة لرفع يدها عن سائر أشكال النشاط الجنسي بما فيها اللواط والسحاق والبغاء والزنى معتبرا هذه جميعا جزءا من حريات الإنسان الأساسية.

وبسبب آرائه المارقة على أعراف المجتمع وتعاليمه فقد اتُهم بالجنون وفشل في كسب رزقه سواء من كتاباته أو لوحاته، فعاش فقيرا ومات معدما في 1827 ودفن في مقبرة بنهيل فيلدز في وسط لندن (مصنّفة معلما تراثيا الآن) بدون شاهد فوق قبره.

المزيد من منوعات