Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يصمد جسر بوريس جونسون؟

خطة رئيس الوزراء للربط بين اسكتلندا وإيرلندا الشمالية يمكن أن تجلب ثروة فائقة إلى الجزيرتين

رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون يستقبل رأس السنة الصينية في مناسبة في مقره في 10 داونينغ ستريت 24 يناير 2020 (أ.ف.ب) 

يخطّط المهندسون في جميع أنحاء العالم لموجة جديدة من البنى التحتية التي تقصّر أوقات الرحلات وتتغلّب على مياه المحيطات. وتدرس الحكومة الفنلندية بجدّية حفر نفقٍ من هلسنكي إلى تالين، في وقتٍ تصمّم فيه الدانمارك وألمانيا نفقاً يربط لولاند في الدانمارك بشمال ألمانيا. ولا يقتصر هذا النوع من الطموح على شمال أوروبا. فقد أتقن اليابانيّون هذه العملية منذ زمنٍ طويل مع وجود جزر صغيرة في بلادهم تتواصل عبر جسور وأنفاق منذ سبعينيّات القرن الماضي.

في المملكة المتّحدة، كان التطلّع إلى إنشاء رابط ثابت بين جزيرة إيرلندا والبرّ الرئيسي البريطاني قائماً منذ فترة طويلة، ويبدو أن بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني هو في صدد الموافقة على الخطة. وهناك في الواقع خيارات عدّة، كلّها جريئة ومكلفة بما يكفي لجعل أي وزير خزانة يجفل من المشروع.

والأسوأ من ذلك هو أن سكّان بريطانيا وإيرلندا لا يكادون يُقارنون ببريطانيا وأوروبا، ومن غير المرجّح أن تتجاوز حركة المرور على ممرّات العبور البحرية الإيرلندية نسبة 20% مقارنةً بمثيلتها في القناة الإنجليزية.

أما المسألة التالية فستكون طريقة بناء النفق الإيرلندي. فقد اقترحت دراسات عدّة أنه يمكننا تشييده بصبّ مكعّبات من الإسمنت في حوض بناء السفن ثم سحبها إلى البحر. وبعد إنزال كل قطعة وصولاً إلى قاع البحر، سيتمكّن المهندسون حينها من ربط بعضها بالبعض الآخر تحت الماء. إنها فكرة مخيفة وليست إحدى الأفكار التي تشعرني بالراحة بشكل خاص مع نفسي، لكن بعض المهندسين المدنيّين يعتقدون أن تنفيذ هذه المسألة ممكن جدّا.

لكن إذا كان شق نفقٌ من دبلن إلى أنغليسي مشروع طموح للغاية، فلا داعي للقلق، لأن هناك كثيراً من الخيارات الأخرى المطروحة على الطاولة، وقد سرّب بوريس جونسون تلميحاتٍ إلى أحد الخيارات التي يفضّلها. لماذا لا يُعتمد الخيار السهل وبناء جسر من إيرلندا الشمالية إلى اسكتلندا؟ الرحلة من "تور هيد" إلى "مال أوف كينتاير"  Mull of Kintyre هي رحلة فريدة من نوعها ولا تبعد أكثر من إثني عشر ميلا (19.37 كيلومترا) وفي المقام الأول، يبدو الجسر المؤدّي إلى اسكتلندا أقلّ طموحاً بكثير من النفق.

ولسوء الحظ، توجد مشكلات عدّة مع بناء هذا الطريق. فعندما يصل أول سائح إيرلندي إلى "مال أوف كينتاير"، لا بدّ من أن يُصاب بخيبة أمل، لأن الطريق ستكون طويلةً للغاية إلى أقرب مدينة كبيرة، إضافةً إلى أن التضاريس لا تصلح لتشييد طرق عليها أو سككٍ حديد. وفي الممارسة العملية، يتعيّن علينا إنفاق مبلغ ضخم من المال على التلال والبحيرات التي تؤدّي إلى غلاسكو، وكل هذا سيُضاف إلى الكلفة الفعلية للجسر نفسه.

المشكلة الثانية تتمثّل في عمق البحر الأيرلندي. ففيما يبلغ عمق القناة الإنجليزية قرابة 70 متراً فقط، إلا أن الفجوة بين اسكتلندا وإيرلندا الشمالية هي موطن لهوّة كبيرة تحت الماء معروفة شعبياً باسم "بوفورت دايك" Beaufort’s Dyke . وتلك المنطقة ليست سوى جزءٍ واحد صغير من الرحلة، لكن هنا ينخفض قاع البحر إلى أكثر من 250 مترا. وتجعل نقطة "بوفورت دايك" من حفر نفق تحت الأرض أمراً صعباً للغاية.

لكن الأمر يزداد سوءا. فمشكلة وجود السدّ الطبيعي معروفة منذ عقود. وكانت الحكومة البريطانية قد قرّرت في مرحلة لاحقة من أواخر أربعينيّات القرن الماضي، إلقاء كمية هائلة من الذخيرة الفائضة تحديداً في تلك النقطة. وتمّ نقل آلاف الأطنان من قذائف المدافع والـ "تي أن تي" ورصاص المدافع الرشّاشة إلى البحر حيث ألقيت في المياه، في معرفة أكيدة أن أيّ حكومة مستقبلية لن ترغب في زيارة مثل هذا المكان البعيد والخطر. ومن المرجّح أن تزعج أيّ محاولة لوضع كتل إسمنت للأبراج الحديثة في قاع البحر إحدى أكبر مقابر الذخيرة على هذا الكوكب. وغني عن القول أنه قد مرّ نحو 70 عاماً منذ أربعينيّات القرن الماضي، ولم تكن المياه المالحة المتجمّدة ملائمة لتلك المواد الكيميائية، لكن كميات الذخيرة المتحلّلة ستشكّل قلقاً آخر للمهندسين المدنيّين لجهة طريقة التعامل معها. 

ويحتاج الجسر سلسلة من الأبراج الطويلة جدّاً التي تختفي في الماء وتتّجه إلى قعر البحر أو نحو مجرى النهر. وبمجرد الوصول إلى تلك النقطة، يتعيّن عليهم النزول أكثر كي يتمكّنوا من الوصول إلى طبقة صخور يمكن الاعتماد عليها في إنشاء أساساتٍ مستقرّة. على سبيل المثال، يبلغ ارتفاع الأبراج على جسر "فيرث أوف فورث" Firth Of Forth  الجديد 250 مترا، على الرغم من أن معظم هذا الارتفاع هو ما فوق الخط المائي. ومع وجود الأبراج في مكانها الصحيح، يمكن للمهندسين وضع سطح الطريق الأفقي في ما بينها. وهناك حدّ أقصى للطول يمكن أن يكون عليه أيّ جزء من الأعمدة قبل أن ينوء تحت ثقل  الوزن الخاصّ بها. وفي القرن العشرين، تمكن المهندسون من مدّ هذا الطول عن طريق تعليق قطع الطرق ما بين الأبراج باستخدام كابلاتٍ فولاذية.

وإذا ما تمّ النظر إلى جسرٍ معلّق مثل جسر "غولدن غايت" The Golden Gate Bridge، فمن الواضح أن المصمّمين قد أبقوا أبراجه في المياه الضحلة قريبة من الشاطئ. ويجب تذكّر أيضاً أن مدى هذا الجسر هو 1.7 ميل (2.74 كيلومتران). أما جسرنا المتوقّع أن يمتدّ على مسافة 12 ميلاً (19.37 كيلومترا) على الأقل، ما بين بلفاست واسكتلندا، فسيحتاج إلى أكثر من عشرة أبراج منفصلة، بعضها يقف في المياه التي يزيد عمقها عن 200 متر. هذه الأرقام قد تشكّل تحدّياً لكن يمكن التغلب عليه. وقد اقترح عدد من فرق التصميم بناء سلسلة من مكعّبات الإسمنت الفارغة على الشاطئ ثم سحبها إلى البحر الأيرلندي. وبعدها يتم ربط تلك المكعّبات في قاع البحر باستخدام كابلات. قد يبدو ذلك خيالاً علميا، لكنه عادي وشائعٌ إلى حد كبير في صناعة النفط، فهناك منصّات نفطية قيد الاستخدام الآن، تم تثبيتها منذ فترة طويلة في ما يصل إلى ثلاثة آلاف متر تحت المياه. وفي الآونة الأخيرة، قامت الحكومة النرويجية ببناء طريق سريعة ساحلية تمتد عدّة أميال باستخدام مقاربة مماثلة.

وعلى الرغم من ذلك، يُعدّ معبر "مال أوف كينتاير" غير مريح للغاية بالنسبة إلى معظم الخبراء. ويبدو أن من المرجّح أنه إذا تم بناء جسر حقيقي فسيُجرى استخدام طريق أطول بكثير لجهة الجنوب. ومن المقرّر لهذا التصميم أن يمتدّ على مسافة 26 ميلا تقريبا (41.84 كيلومترا) من بلفاست إلى اسكتلندا. ولا يزال من الممكن تقنيا، وهو أرخص بكثير من الاتصال برّاً في اتّجاه غلاسكو. وقد أعربت الحكومة الإيرلندية بالفعل عن استعدادها لتمويل خطٍّ للسكك الحديد عالي السرعة، يربط بين دبلن وبلفاست، لكن من المفترض أن يدفع البريطانيّون كلفة مواصلة بناء خط السكك الحديد هذا الخط فوق الجسر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من هنا إن إنشاء جسر من اسكتلندا إلى إيرلندا الشمالية ممكن، على الرغم من وجود عدد هائل من الأشخاص الذين يحاولون منع تشييده والمطالبة بتخصيص المال لتمويل مشاريع أخرى. وبمجرّد أن يتم اكتمال هذا الجسر، فإنه سيحقّق فائدةً عملية ونفسية دائمة للاقتصاد البريطاني. وسنكون فجأةً أمام اقتصاد كتلةٍ واحدة تضمّ نحو 70 مليون شخص. ومع قطاراتٍ يمكن أن تسافر بسرعة تزيد عن 200 ميل (322 كيلومترا) في الساعة، يصبح من الممكن العيش في دبلن والانتقال إلى بلفاست أو غلاسكو أو حتى إلى إدنبرة. وستكون القدرة الصناعية لكتلتين بشريّتين متميزتين تعيشان على أراضٍ مختلفة، مترابطةً عضويا، وسيبدأ تصوّرنا للمسافة في التلاشي. وفي الواقع، كنا سنحقّق للجزر البريطانية ما فعله اليابانيّون مع جزرهم الخاصة المختلفة في أواخر الثمانينيّات.

أما المعبر الثاني وهو نفق يربط دبلن بمنطقة أنغليسي Anglesey  فقد يسمح بنوعٍ من الخط الدائري عالي السرعة لا يترك مدينتين رئيسيّتين في الجزر البريطانية تفصل بينهما أكثر من ثلاث ساعات. ومع ذلك، قد يتمّ اعتبار جميع هذه الأرقام قديمةً من خلال ظهور نوع جديدٍ تماماً من النقل الجماعي يُعرف بإسم "هايبرلوب" Hyperloop. وتخطّط الآن مجموعات عدّة لأنظمة "هايبرلوب" النموذجية التي تصل سرعتها القصوى إلى 600 ميل في الساعة (965 كيلومتر في الساعة). ويمكن لتركيبة تجمع كلاً من الجسر والنفق ونظام القطارات فائقة السرعة التي تلفّ الجزر البريطانية، أن تجعل السفر الجوّي قصير المدى مسألةً متقادمة. 

ويبدو لي أننا كأمّة، لدينا عادة النظر إلى شبكة السكك الحديد الخاصة بنا واعتبارها هديةً من السماء. وبالنسبة إلى جيلنا، تبدو إعادة تفعيل نحو 20 ميلا (32 كيلومترا) من خطّ بيتشينغ Beeching، بمثابة مهمّة كبرى. لكن في وقت لم تكن فيه السكك الحديد موجودة، فقد كان أهل هذه الجزر هم الذين وضعوا الأمر ونفّذوه برمّته، وصدّروا أفكارهم إلى جميع أنحاء العالم. فنحن كمثل التندّر البريطاني "هوراه هنري" (مصطلح يرمز إلى شاب من طبقة اجتماعية راقية يتحدّث بصوت عالٍ للفت الأنظار) غير الموهوب بشكل كبير، نعيش من الأموال التي ورثناها من أجدادنا المتوفّين منذ فترة طويلة، الذين من الواضح أنهم كانوا أذكياء للغاية. ولم يكن أسلافنا الذي يعودون إلى مرحلة الملكة فيكتوريا قد أحجموا عن الانطلاق في  حفر نفق تحت البحر الإيرلندي أكثر مما كانوا سيحجمون عن بناء جسور من شأنها أن تسدّ قريباً الفجوة بين مدينتي بلفاست وغلاسكو. وكانت هذه الصفات جميعها موجودة في هذه الجزر كما الشجاعة التقنية  والقدرة على تحمّل المخاطر وإنكار الذات. كلّها كانت قائمةً في الماضي  لكنها غائبة جدّاً اليوم. وإذا كنا نريد التقدّم كأمّة، فسيتعيّن علينا اكتشافها مرّة أخرى.

© The Independent

المزيد من دوليات