بعد أن كانت المطالبة الرسمية بمدير جهاز الأمن والاستخبارات السابق صلاح عبدالله (قوش) عبر الشرطة الدولية (الإنتربول) للتحقيق معه في دعاوى قُدمت ضده بتهم الثراء الحرام، اتسعت الرقعة الآن بمخاطبة النيابة العامة السودانية للإنتربول لاسترداده ومصادرة ممتلكاته. وهي تجديد لمطالبة سابقة في أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إذ قامت النيابة بمطالبة قوش بتسليم نفسه إلى القضاء.
طفت هذه الأحداث بعد القضاء على التمرد العسكري الذي قامت به عناصر من جهاز الأمن والاستخبارات السوداني يوم الثلاثاء 14 يناير (كانون الثاني)، كخلايا أمنية مرتبطة بالنظام السابق حينما كان يرأس الجهاز. وإلى هذه اللحظة يبدو قوش كلاعب على التناقضات، هو من قام بتمردٍ سابق على الرئيس السابق عمر البشير، ثم قامعاً لاحتجاجات ديسمبر 2018، ثم مؤيِّداً من خلف ستار للمجلس العسكري في الحكومة الانتقالية.
مسيرة صاخبة
ليس الحديث عن الجنرال صلاح قوش مدير جهاز الأمن والاستخبارات السوداني أمراً عادياً، وليست مسيرته الصاخبة منذ مجيء الإنقاذ، وشخصيته المركبة سياسياً وأمنياً مجرّد صورة ذاتية لجنرال في الأمن. لكنّ التفاصيل الكثيرة في حياته جعلت منه فاعلاً بارزاً في السنوات العشر الأخيرة والمثال الأقوى لتناقضات السياسة السودانية.
لم يكن قوش المختفي حاليّاً، يعير أي اهتمام لما يُثار حوله منذ بدء الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، على خلفية الضائقة المعيشية وتحولها إلى ثورة كاملة. ومن المفارقات أنّه ناصب الحركة الاحتجاجية، شكلاً من أشكال العداء في البداية، ساخراً منها، وواصفاً أعضاءها بالمندسين الذين لا يفقهون أبجديات السياسة، وتحركهم أيادي "الموساد" والحركات المتمردة المسلحة والحزب الشيوعي السوداني بهدف زعزعة استقرار البلد. لكنه راجع نفسه بسرعة واعترف بالأزمة الاقتصادية وحق الشباب في التعبير عن رأيهم، حتى أنّه حمّل الحكومة بعض أسبابها ووصف القوانين المقيّدة لحرية التعبير والمجتمع بالقرارات "الصنجاء".
زاد من الالتباس حول شخصية قوش تزامن الاحتجاجات مع ظهوره الإعلامي الكثيف ولقاءاته مع الصحافيين، التي يفرج فيها عن بعض المعلومات أو القرارات، بينما تقوم بعض الجهات بقصقصة أجنحة تصريحاته. وبالقدر نفسه من الإثارة ينصح قواته بالتعامل الليّن مع هؤلاء الشباب لأنّهم "أبناءنا" على حدِّ قوله، بينما تقوم القوات نفسها مسنودة بالأمن الشعبي (كتائب الظل) المنسوبة إلى علي عثمان النائب الأول السابق، باستخدام الرصاص الحي والتعذيب في المعتقلات. ونسبة إلى مواقفه المتماهية مع السلطة والمناقضة لها في آنٍ واحد، كان جديراً بحصد التعاطف من البعض والشماتة من البعض الآخر، بخاصة بعد محاولته الإنقلابية في عام 2012.
القفز على الحبال
لم يكن الرجل دخيلاً على السلطة، فقد تسلم مواقع كثيرة، وكان يقفز من موقع إلى آخر بسرعة. اشتهر خلال دراسته الجامعية في كلية الهندسة بلقب "قوش"، الذي لازمه إلى الآن نسبةً إلى عالم رياضيات هندي أطلقه عليه زملاؤه تندراً. وفي الفترة الجامعية، كان مسؤولاً عن جهاز المعلومات الخاص بتنظيم "الإخوان المسلمون" الذي كان أقوى تنظيم في جامعة الخرطوم في ثمانينيات القرن الماضي. وعقب الانقلاب العسكري الذي أوصل البشير إلى السلطة عام 1989، التحق قوش بالخلية الأمنية أو مكتب الأمن للجبهة القومية الإسلامية، الذي أسسه الإسلاميون بزعامة حسن الترابي. وبعدها عمل في جهاز الاستخبارات ثم ترأسه لمدة خمس سنوات وعُيّن مستشاراً أمنياً للرئيس البشير قبل أن يُعتقل متهماً بالانقلاب والتآمر على الدولة ليخرج بعد ذلك بعفو رئاسي عام 2013. توارى بعدها عن الأنظار قليلاً ثم أُعيد تعيينه مجدداً على رأس جهاز الأمن والاستخبارات عام 2018. وما إن عاد حتى صعد نجمه، وبدأ يخطو خطواتٍ متسارعة نحو مواقع صنع القرار. صوره الصحافيون مثل "ديجانقو" الكاوبوي العائد، في ذلك الفيلم الأميركي الشهير، يطلق الرصاص تجاه أعدائه.
حقيقة خيوط الموساد
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بقليلٍ من التأمل في مركبات أحداث الاحتجاجات السودانية وما صاحبها، وبعد أشهر منها باعتبارها جزءاً ديناميكياً في الواقع السياسي السوداني، شكَّلت بداية النهاية لحكم البشير الممتد لثلاثة عقود. سجلت الأحداث تحولات بالغة الأهمية، مكنت من حدوثها البيئة غير المستقرة سواء على مستوى المجتمع أو قيادة الدولة. وفي خضم العمليات الدؤوبة لهندسة نظام الحكم قبل سقوطه كان الإعداد يجري على قدمٍ وساق وكأنّ البحر المتلاطمة أمواجه بحاجة إلى مزيد من الاضطراب، فقد اشتعلت الأخبار بنشر موقع ميدل إيست آي البريطاني تسريباً عن مصدر عسكري سوداني، أنّ رئيس الاستخبارات السوداني صلاح قوش أجرى محادثات سرية مع رئيس الموساد يوسي كوهين في مؤتمر ميونخ الأخير في ألمانيا مع بداية الاحتجاجات عبر وساطة مصرية، لمناقشة خلافته للبشير في حال لم يصمد أمام المدّ الشعبي.
نفت الحكومة السودانية وقتها مثلما نفت صحيفة معاريف الإسرائيلية هذا الخبر بالكامل، وأصدر جهاز الأمن والاستخبارات السوداني بياناً شديد اللهجة. تمت قراءة الخبر ونفيه بشكلٍ عام في إطار تحسّس أعضاء في النظام تلك الأيام من مسألة استباق الأحداث أو خلقها وتسريبها، خصوصاً مع ظنّ الحكومة أنّها تمسك بخيوط متشابكة في وقتٍ واحد، ومع كل فعل أو خطوة مطالبة بتبرير مقنع للرأي العام العالمي وللشعب الثائر.
صانع الألعاب
بقوة رفض ذلك الاحتمال نفسها من بعض أعضاء الحزب الحاكم السابق، فقد برزت عوامل أخرى عملت على تقوية حظ قوش في فرضية دوره كصانع ألعاب، ولم تكن غريبةً على ارتدادات السياسة السودانية:
أولاً: التحايل على خيار الشعب السوداني وثورته وعدم رضاه بغير الديمقراطية بديلاً، وإمكانية فرض ديكتاتور بديل بشرط أن يتمتع بكاريزما القائد سواء أحبّه الشعب أو كرهه. وهناك سابقة تمثلت في حالة الطعن في اختيار الشعب في عهد الديمقراطية الثالثة، عندما فاز الصادق المهدي في انتخابات 1986، مع علم الكافة أنَّه زعيم حزبٍ طائفي انقلب على عمه أحمد المهدي وأبناء عمه الهادي المهدي وحصل منهم على لقب إمامة الأنصار، ورهن زمام الحزب لأبنائه وأقربائه من الأنصار مع إبقاء زعامة الحزب في يده لنصف قرن. ومن تجربة الممارسة السياسية يتضح أنّه لا فرق بين ديكتاتور آتٍ من مؤسسة عسكرية أو حزب طائفي.
ثانياً: إنّ أهل الهامش وبخاصة الحركات المسلحة في غرب السودان، في كامل تحفّزهم لاستلام السلطة، ومنهم عبد الواحد نور زعيم حركة تحرير السودان. ولكن الأكثر جاهزية لذلك هو جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، الجناح العسكري لحزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي بينما أسس خليل إبراهيم الحركة للمواجهة المسلحة مع السلطة في الخرطوم. وقال جبريل إنّ حركته على استعداد لتولي السلطة في البلاد، ولكن عبر تحالف عريض، يحصل على تفويضٍ شعبي كبير، مؤكداً في الوقت نفسه أنّه من الصعب على حزب واحد أن يتحكم في السودان. وجبريل هو شقيق خليل إبراهيم زعيم الحركة الذي أغتيل في غارة جوية على دارفور في 25 ديسمبر 2011. وكان خليل قد نفّذ غزوة أمدرمان في 10 مايو ( أيار) 2008 بدعم تشادي- ليبي. وهنا يتبدى صراع المركز والهامش بتوجس أهل الشمال النيلي في الحكومة من أهل غرب السودان، ويرون أنّه لا بد من قطع الطريق عليهم واسترضائهم بمناصب وزارية رفيعة حتى يكونوا تحت عين السلطة، فقربت منهم محمد حمدان حميدتي قائد قوات الدعم السريع.
ثالثاً: يرتبط هذا العامل بشخص قوش نفسه والخلاف الكبير حوله في أروقة الحزب الحاكم السابق، فالشخصيات النافذة في الحزب كانت ترى أنَّ البشير سهل القياد أكثر من قوش. بينما ترى أصواتٌ أخرى أنَّ قوش مهادن للسلطة ولا يمكن أن يكون منقلباً عليها لمصلحة الشعب أو لقوى خارجية، ولكن يمكنه أن يقدم تنازلات تمس ثوابت انتمائه في سبيل الحفاظ على السلطة، وتحقيق مكاسب حتى لو انتظرها طويلاً. ولكن ضيق صدر الرئيس السابق البشير، المعروف بحسمه لأي نقطة خلاف بالإزالة التامة بدلاً عن المعالجة، نسف وضع قوش المتحفّز وركله بعيداً.
سعى قوش مدعوماً من بعض قوى المؤتمر الوطني لكي يصبح مرشّحاً مُرتقباً، ولكن ضاعت خطاه بين جهاز الأمن والقصر. فقد أساء لقوش عمله في جهاز الأمن المرتبط بالقمع والتعذيب، وستظل تلاحقه دماء ضحايا التظاهرات خلال فترتي رئاسته للجهاز. وهذا العمل أغرق شخصيته السياسية تحت أغطية العسكر، فظلت طوال الوقت تذكيها نار الصراعات.