Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"رابسودي بالأزرق" لجورج غرشوين: الجاز باللون الأبيض

القصيدة السيمفونية التي وُلدت وسط ضجيج القطار

جورج غرشوين

يروي الموسيقي الأميركي جورج غرشوين أنه بعد أسابيع من اتفاقه مع الموسيقي بول وايتمان على إنتاج عمل جديد من نوعه، لم تطلع في رأسه حول الموضوع أية فكرة تقنعه. كان الوقت يمر سريعا والإلهام غائب تماما، ثم ذات لحظة وفيما كان غرشوين ينتقل بالقطار من بوسطن إلى نيويورك، "أشرقت الفكرة في رأسي، رغم ضجيج القطار الرهيب وضجيج الركاب والكلاب"، لتولد خلال دقائق تلك القطعة الرائعة التي يعتبرها كثر من النقاد، وملايين الهواة، واحدة من أجمل المؤلفات الموسيقية الأوركسترالية في ذلك الحين. ونتحدث هنا بالطبع عن "رابسودي بالأزرق" التي لا تزال حتى اليوم حية تُقدَّم ويعاد تقديمها وتُوزّع أوركستراليا من جديد، بل تدخل في صلب الثقافة الشعبية الأميركية، مرة حين تقتبسها فرقة "البيتش بويز" ومرات من خلال دخولها كموسيقى تأثيرية في أفلام بالغة الشعبية وما إلى ذلك.

أبيض في عالم السود

ولدت "رابسودي بالأزرق" في العام 1924 وكان غرشوين بالكاد بلغ السادسة والعشرين من عمره. صحيح أنه كان في ذلك الحين قد بدأ يُعرف لكن الشهرة كانت لا تزال بعيدة عنه. ثم أن دخوله وهو الأبيض عالما يكاد يكون حكرا على السود لم يكن من شأنه تسهيل مهمته. لكنه قرر أن يخوض المغامرة وأن يُدهش. وهو ما سوف تحققه له تلك "الرابسودي" التي كان أخشى ما يخشاه هو وأخوه آيرا شريكه في أعماله ورفيق عمره، إذ إشتغل فيها على المزج بين الجاز والرومانطيقية الكلاسيكية، ألا تُقبل كجاز وأن يساء فهمها من قبل محبي الموسيقية الكلاسيكية. بيد أن رهانه تبدى في نهاية الأمر ناجحا... ومكنته "الرابسودي" من شق طريقه بقوة.

وربما يعود ذلك إلى أنه تعامل مع النوعين كفنّ كوني. أي أنه لم يعترف بأن الجاز وقف على السود والموسيقى الكلاسيكية نوع يخص البيض. كان ذلك أبعد ما يكون عن فكره. بل أكثر من هذا، فهو الذي كانت الأوبراتات الخفيفة والميلودرامات التي اعتاد تلحينها قد قوّت الجانب التقني لديه، لم يتوقف عن التساؤل: لما لا يمكن التعامل مع الجاز بنفس الطريقة العالمة المثقفة التي يتم بها التعامل مع الموسيقى الأكثر جدية. ولا شك أن تلك الفكرة كانت تشغل باله حين وجد نفسه في القطار بالكاد قادرا على أن يسمع أنفاسه. فجأة حينها نسي كل ما حوله وووجد نفسه وحيدا مع بضعة جمل موسيقية راحت تلتف في خاطره كالعاصفة. أمسك قلمه من فوره وخطّ بضع نوتات و... "قضي الأمر..." كما سوف يقول.

لاحقا سوف يقول غرشوين أن الموسيقي الوحيد الذي خطر في باله كان ريتشتارد شتراوس، والنوع الوحيد الذي وجده قادرا على استيعاب المزيج الذي يتطلع إليه كان القصيدة السيمفونية، أما التحول الى الرابسودي "فلم يكن سوى ضرورة تقنية" لأنه أراد من مستمعه أن يتخيّل صورا تمتزج فيها مجموعة من الأحاسيس الإنسانية قبل أي شيء آخر. ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أن عنونتنتا للقطعة في العربية بـ"رابسودي بالأزرق" فيه شيء من الإفتئات على العمل ككل، حتى وإن كان له ما يبرره. فالكلمة الإنجليزية "بلو" تعني الأزرق لكنها تعني الحزن – وبالتحديد: الشجن – أيضا محملا بشيء من الحنين. وهو ما يتلاءم مع نوع من الجاز "البلوز" ومع الرابسودي. ومن هنا كان اقتباس غرشوين للبلوز في لحظات مفصلية من قطعته يدنو من النوستالجيا أكثر مما يقترب من صخب الجاز، ويشيع نوعا من حنين إلى وسط أوروبا الذي تعود إليه جذور غرشوين. والحقيقة أن هذا كله هو الذي أعطى القطعة خضوصيتها خاصة وأن غرشوين عرف كيف يستعمل الآلات فيها وكأنها أصوات بشرية تعبر عن أحاسيس دفينة حتى وإن اتخذت أحيانا سمات راقصة تتقاطع مع لحظات من عزف منفرد، خاصة للساكسوفون، ومع لحظات صخب تبدو وكأنها اقرب الى الهزل. ومهما يكن، بعد ذلك العمل لم يعد غرشوين في حاجة إلى تقديم نفسه، كما لم يعد في حاجة إلى الدفاع عن لونه الأبيض أمام السود، أو إختياراته الجازية أمام البيض!

حياة شجن صاخبة

ولد جورج غرشوين العام 1898 في بروكلين، وان كان سيحلو للسينمائي الأميركي وودي آلن أن يخلده في ثنايا فيلمه الشهير الذي كرسه لمنطقة مانهاتن. ولقد تحدر غرشوين من أسرة شديدة التواضع عاشت في جيرة مثمرة مع السود في ذلك الحي النيويوركي الفقير. ومنذ طفولته، ومن جراء اختلاطه برفاقه السود وإعجابه بموسيقاهم، وجد غرشوين نفسه يتجه إلى دراسة الموسيقى، حيث اضطر لممارسة العديد من المهن المتواضعة حتى يحصل على ما يكفيه من المال الذي يمكنه من تلك الدراسة. ولقد كانت تضحياته في ذلك المجال مثمرة إذ نراه ولما يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، ينشر أول قطعة من تأليفه، وكانت عبارة عن أغنية شعبية. غير أنه لم يكتف، بالطبع، بذلك المجد المبكر، إذ ما مضت على ذلك ثلاث سنوات، وكان قد أضحى في الثانية والعشرين، حتى وضع أول ملهاة موسيقية من تأليفه وعنوانها «لا لا لوسيلي». كانت عملاً لا بأس به في مقاييس ذلك الزمن، ومع هذا كان على جورج غرشوىن أن ينتظر بعض الوقت قبل أن يحقق ما كان بحاجة إليه من الشهرة والمكانة، عبر أغنية شعبية أخرى كتبها هي أغنية «سواني» التي بيع منها، فور ظهورها، أكثر من مليون نسخة.

اعتباراً من تلك اللحظة صار في وسع غرشوين أن يكرس وقته وطاقته لموسيقى الجاز التي كانت هواه الأول والأخير. وهكذا انصرف لكتابة «رابسودي باللون الأزرق» وهي القطعة التي عزفت للمرة الأولى في شهر شباط (فبراير) 1924. كان النجاح حليف تلك القطعة منذ تقديمها للمرة الأولى، ومنذ ذلك الحين لم يعد على جورج غرشوين أن يقلق بسبب وضعه المالي، إذ أن ذلك العمل والأغنيات الشعبية الأخرى، كانت قد بدأت تدر عليه أرباحاً تمكنه من التفرغ تماماً لفنه ولكتابة أعماله الكبيرة التالية. ومع هذا لا بد أن نذكر هنا أن نجاح غرشوين في أميركا لم يواكبه، أول الأمر، أي نجاح في أوروبا، حيث إن جمهور مهرجان لندن وقف يصفر لغرشوين، بدلاً من أن يصفق له، في 1930، حين قدم عمله الكبير التالي «أميركي في باريس» الذي كان قد ألفه قبل ذلك بثلاثة أعوام. ويبدو إن عدوى الصفير انتقلت بسرعة إلى الولايات المتحدة نفسها لتدفع غرشوين إلى نوع من فقدان الثقة باختياراته، وكان ذلك في بوسطن، في 1935، حيث أقيم العرض الأول لرائعته «بورغي وبس» وهي مسرحية غنائية مقتبسة عن روميو وجولييت لشكسبير وتدور أحداثها في أوساط السود الأميركيين.

انتقل غرشوين إثر ذلك إلى هوليوود حيث بدأت أغانيه ومقطوعاته بغزو الأفلام وبدأ يحقق نجاحاً يختلف بعض الشيء عن نجاحه الأول. وهو حين رحل عن عالمنا في العام 1937، كان قد أضحى صاحب شهرة لا تضاهى، زادت السينما من اتساعها، وكان قد خلف وراءه العديد من الكوميديات الموسيقية والأغنيات الشعبية التي كان أخوه يكتب معظم كلماتها. أما العمل الأكبر الذي كتبه خلال السنوات الأخيرة من حياته، فكان «كونشرتو للبيانو والأوركسترا» لا يزال يعزف بكثرة حتى الآن.

ومع هذا فإن ما تبقى خالداً من أعمال غرشوين انما هي كوميدياته الموسيقية وعلى رأسها «بورغي وبس» التي حولت إلى فيلم متميز، وخاصة «رابسودي باللون الأزرق»، وكذلك أغنياته الشهيرة مثل «الوجه المضحك» و«فتاة مجنونة» و«اغفر لي انكليزيتي» و«الفتاة الكنز» وكلها من كلاسيكيات الأغنية الأميركية التي تجعل ذكر غرشوين لا يغيب، وكأنه لا يزال حياً حتى الآن.

 

المزيد من ثقافة