Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصر... حادث مروري يحرج وزيرة الصحة ويضعها في دائرة الاتهامات

راح ضحيته طبيبتان ومواطنان وأصيب 17 آخرون... والسبب استدعاء عاجل لدورة تدريبية

وزيرة الصحة المصرية هالة زايد مع رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي خلال جولة تفقدية بالمستشفيات (أ.ف.ب.)

كمٌّ هائل من الشدّ والجذب يموج به المجتمع المصري هذه الساعات، واقعياً وافتراضياً. قيل وقال حول من يتحمل المسؤولية، واحتقانات واشتعالات تطلق سهام الاتهامات الشعبية هنا، وتصوّب طلقات الأحكام النارية هناك. ولعلها المرة الأولى التي يحتار فيها المصريون وتصل حيرتهم إلى حدّ الانقسام ورمي بعضهم البعض بالمحاباة لوزير على حساب آخر، وتبرئة وزيرة والاستعانة بالسماء والقضاء والقدر لرد الهجوم وحماية مبادرات علاجية ومشروعات صحية.

ليس هناك صفة مناسبة لوصف المشهد الشعبي في أعقاب حادث سير مروّع على الطريق الصحراوي الشرقي بمنطقة الصفّ في محافظة الجيزة المصرية، راح ضحيته طبيبتان شابتان ومواطنان بالإضافة إلى 17 مصابا، بإصابات جسيمة، إلا البعثرة أو العشوائية أو الضبابية.

ضبابية الاتهامات

ضبابية إطلاق الاتهامات وتوزيع المسؤولية والجدال والتراشق الجدلي بين مواطنين عاديين في حادث الميكروباص تقول الكثير عما وراء الحادث الذي وقع صباح الأربعاء الماضي. فبين استدعاء سريع لعدد من الطبيبات الشابات من بنات محافظة المنيا في صعيد مصر الواقعة على مسافة 250 كيلومتراً من القاهرة لحضور دورة تدريبية في العاصمة، وتهديد المعتذرات بأن عدم الحضور سيؤدي إلى توقيع عقوبات وتنفيذ خصومات، ثم وقوع الحادث المروع على الطريق، لم تجد النسبة الأكبر من المصريين إلا وزيرة الصحة، الدكتورة هالة زايد، لتحميلها مسؤولية الحادث.

حوادث السير التي وضعت مصر في قائمة الدول العشر الأكثر كثافة في وقوع وفيات على الطريق، والتي جعلت من نفسها السبب الثاني لحدوث الوفيات بين المصريين، والتي بلغت تسع وفيات بين كل مئة ألف نسمة، ما تعدّ ضمن الأعلى في العالم، وجدت نفسها بريئة شعبياً من حادث طبيبات المنيا.

تحقيقات أولية

وعلى الرغم من أن التحقيقات الأولية وشهود العيان من المارة والمصابين تشير إلى أن السرعة الشديدة مع نوم السائق أثناء القيادة أدت إلى انقلاب السيارة، فإن المصريين، الذين عادة ما ينقسمون قسمين متساويين في مثل هذه الحالات، قسم قدري مسلّم بالقضاء والقدر، وقسم عقلاني مصوّب الاتهام تجاه وزارة الداخلية، وتحديداً إدارة المرور المتقاعسة عن تطبيق قوانين المرور، لا سيما على مدار السنوات التسع الماضية، اختاروا وزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد لتحميلها المسؤولية كاملة.

 

الغريب أي ذكر لوزارة الداخلية - التي لا تحظى بسمعة طيبة عادة بين القاعدة العريضة من المواطنين- لم يرد من قريب أو بعيد، إلا بين قلة قليلة من المواطنين. والأغرب أن القلة القليلة التي حاولت تفنيد المسؤولية بين فوضى الطرق وعدم الرقابة عليها وتركها مرتعاً للفوضى والعشوائية، والتي تتحملها وزارة الداخلية، بالإضافة إلى المحليات، وبين وضع مسؤولية وزيرة الصحة في نصابها الصحيح حيث يمكن انتقادها، بل والمطالبة بإقالتها، لأسباب تتعلق بسوء تخطيط الدورات التدريبية، أو التعنت فيما يختص بحضور الأطباء من أعالي الصعيد إلى العاصمة رغم إمكانية الخضوع للتدريب في مواقع أقرب، أو النظر في مسألة التهديد بالعقوبات والجزاءات ومدى قانونيتها، ينالهم قسط معتبر من غضب المواطنين القابعين على الجانب الآخر من توزيع الاتهامات.

الاتهامات الملتهبة والعفوية التي وجهت لوزيرة الصحة الدكتورة هالة زايد كشفت عن انخفاض ملحوظ في شعبيتها. فبين ثأر قديم بينها وبين الصيادلة حين زارت محافظة بور سعيد في عام 2018 لتتفقد منظومة التأمين الصحي، وقالت إن "غياب مئة صيدلي لا يؤثر مثل غياب ممرضة واحدة"، إلى جرح غائر في نفوس الممرضات حين انتقدت سمنتهن الزائدة، مشيرة إلى فرصة 3 أشهر لفقدان الوزن لمن تودّ الالتحاق بمجال التمريض، إلى الأطباء الشباب الذين وضعت لهم نظام تكليف دون تشاور، إلى نقابة الأطباء التي تتجاهلها في الإجراءات الخاصة بالأطباء بوجه عام، صنعت زايد - سواء بنيّة أو من دونها- قاعدة عدائية ضخمة مع قطاعات عدة من العاملين في مجال الصحة.

وطنية الوزيرة

ومن مجال الصحة إلى الصعيد الوطني، وهو الصعيد الذي تسبب في موجة عارمة من السخرية ضد الوزيرة في بداية توليها منصبها في صيف عام 2018، إذ قررت بثّ السلام الوطني يليه قَسَم أبوقراط المعروف بقسم الأطباء صباح كل يوم في مستشفيات مصر!

مصر المنتفضة شعبياً من الحادث المروع تصبّ حالياً الجانب الأكبر من غضبها على الوزيرة، وكأنه القشة المرورية التي قصمت ظهر بعير وزارة الصحة. الغضبة المصرية الموجهة نحو الوزيرة بسبب الحادث تشير إلى خلط واضح وإبهام كامن في العقل الجمعي للمصريين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فبين حادث وضحاه، نسي المصريون أو تناسوا الكم المتصاعد من اللوم الذي توجهه الملايين على مدار ساعات اليوم الـ24 لإدارة المرور لتركها الشوارع والميادين "تضرب تقلب" دون تطبيق قوانين أو نشر قواعد. وفجأة انبرى الكثيرون من بين الصفوف يدرؤون مسؤولية السرعة الفائقة ونوم السائق بعيداً عن وزارة الداخلية، ويوجهونها نحو وزارة الصحة.

ليس هذا فقط، بل مال الشعب الذي يسعد بتصنيف نفسه باعتباره "الشعب المتدين بالفطرة" بعيداً عن الارتكان الكلاسيكي للقضاء والقدر والتعلق بإرادة السماء، والإصرار المنافي للمنطق والمجانب للتعقل، بأنه لولا وزيرة الصحة لما مات من مات وأصيب من أصيب. وعلى عكس حوادث السير القاتلة اليومية التي يتسبب فيها سائقون تحت تأثير المخدرات أو ضاربون عرض الحائط بالسرعات المقررة أو نائمون أثناء القيادة، تحول سائق الميكروباص الذي فقد حياته هو الآخر بعد أن نام وهو يقود السيارة بسرعة فائقة إلى ضحية لا سيما وأنه يعمل باليوميّة، ولديه أسرة "ذنبها في رقبة هالة زايد"!

مزيد من الالتهاب

وزيادة في إشعال الوضع، الذي لم يكن في حاجة إلى المزيد من اللهب، سارعت وزيرة الصحة إلى تضميد جراح أهالي المتوفين وكذلك المصابين، بالإعلان عن ضم الجميع لبعثة الحج التابعة لوزارة الصحة هذا العام، وهو ما زاد طين الحادث بلة. قرار قيام والد إحدى الطبيبتين المتوفيتيتن وهي مسيحية بالحج – كنوع من الترضية- أمعن في تدهور وضع الوزيرة شعبياً.

ومن حج مبرور لأب مسيحي مكلوم، إلى هاشتاغ "ادعم وزيرة الصحة"، مدعوم من وزارتها، زاد الغضب الشعبي أضعافاً ووجد أرضاً خصبة، حيث مخزون استراتيجي من العداءات وسمعة وزارتها بإساءة إدارة الأزمات. هاشتاغ "ادعم وزارة الصحة"، الذي ظهر على ما يبدو للرد على هاشتاغ "إقالة وزيرة الصحة" أغضب البعض وأحرج البعض الآخر. الغضب مفهوم حيث فريق المحملين وزيرة الصحة مسؤولية الحادث، وأما الحرج فقد صدر عن الفريق المدافع عن الوزيرة، إن لم يكن من المحبين لها والداعمين لمبادرات العلاج وتقصي الأمراض التي نشأت في عهدها، فمن باب عدم تحميلها مسؤولية حادث سير ناجم عن قضاء وقدر، لكن سببه الرئيس موت قوانين المرور إكلينيكياً. ووجهة نظر فريق المحرجين في مسألة الهاشتاغ الدفاعي هو أنه إذا كانت الهاشتاغات الغاضبة تصدر عن معارضين أو مستائين أو مكلومين، فإن الرد الحكومي لا يكون بهاشتاغ مدافع، بل بتوضيح وتبيان وحسن إدارة للأزمة.

إدارة الأزمة

حسن إدارة الأزمة جاء من نقابة الأطباء، التي عادتها الوزيرة كذلك. تصدر النقابة بيانات إخبارية معلوماتية وافية عن حالة المصابين والمصابات، مع تتبع أحوالهم. وتتحرك النقابة كذلك تحركاً سياسياً عقلانياً، وذلك بمحاولة الضغط من أجل قيام مجلس النواب باستجواب الوزيرة في شأن الحادث. من جهة ثالثة، اعتبر فرع النقابة في المنيا نفسه في انعقاد دائم حتى تنفيذ ثمانية قرارات، أهمها وأوقعها: إنهاء مركزية إقامة دورات التدريب وعقدها في مراكز قريبة من المحافظات المختلفة مع ضرورة التنسيق مع النقابة، ومطالبة وزارة الصحة  بالتعاقد مع هيئة السكك الحديدية لنقل الأطباء باعتبارها وسيلة أكثر أمناً من الميكروباصات القاتلة.

وفي خضم هذا اللغط الداخلي، وتحميل القشة الأخيرة ما لا تحتمل، حيث مسؤولية حوادث الطرق تكمن في وزارة أخرى، قفز فريق آخر راكباً الموجة. كم كبير من التغريدات باللغة الإنجليزية المتراوحة بين الركيكة والمترجمة عبر "غوغل ترانزليت" تدور في محاور متطابقة، "Go to hell I hope to have the same way in your death". "Doctors are not safe in Egypt" ."Ministry of salvery and death"، "Go now and now means now".

وغيرها من التغريدات المتواترة تطرح تساؤلات حول عودة تيارات "سياسية" بعينها تخاطب الغرب فيما يختص بالمطالبات الداخلية.

وتمضي الأزمة قدماً عاكسة الكثير لما يدور في أغوار المجتمع المصري من مشاعر مكتومة تجاه مسؤولين وأخرى مفضوحة تجاه آخرين، وأزمات تكشف الستار عن ضبابية في تحميل المسؤوليات وفرصة ذهبية لتوجيه الاتهامات.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات