العيب في "الذات الرقمية" المراهقة

الثورة الصناعية الرابعة لم تعد تنذر بدق الأبواب أو اختراق الحدود أو التحكم في دفة المستقبل، فقد تعدت مراحل الإنذار والتهديد بالاختراق، وأصحبت حاضراً لا مستقبلاً، وأضحت مهيمنة ومحددة لمجريات الأمور، حتى إن بدا غير ذلك.

ذلك الحديث الدائر بين مجموعة من الصبية والفتيات لا يتعدى عمر أكبرهم 11 عاماً يقول الكثير. نقاشٌ مشتعل دار بينهم حول إذا كانت فرنسا وبريطانيا متفقتين أم مختلفتين سياسياً جراء ما يحدث في المنطقة العربية. وتحوَّل النقاش إلى جدل مستعر، حين ذكر أحدهم أن دولاً عربية ربما تدخل حرباً ضد تركيا، حيث ردّ فريق مضاد بأن هذا مستحيل.

وبعيداً عن الأسباب التي سردها الصغار مبررين بها استحالة نشوب حرب عربية تركية، أو تلك التي ساقها الفريق المضاد للتأكيد على أن الاحتمال قائم، فإن العبرة المستفادة هي أن الصغار على علم عميق بما يجري حولهم، لا عن طريق مدرسة محبوسة في مناهج جامدة، أو فضائيات يديرها الأهل في غرف الجلوس، ولكن بفعل أو بفضل (بحسب الرؤية) الثورة الصناعية الرابعة التي أتاحت لهم العالم ومجرياته بدقة زر.

تسارع وتصارع

تمضي دقات الزر عربياً من دون هوادة على ملايين الأجهزة المتصلة بالشبكة العنبكوتية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وهي الدقات التي تسارعت وتصارعت منذ هبوب رياح ما يسمى بـ"الربيع العربي". لكن يبقى الجانب الأكبر من التسارع والتصارع لأسباب لها علاقة بالدين والسياسة أكثر من عوامل وميزات وسلبيات الثورة الصناعية الرابعة والثورة المعلوماتية والشبكة العنبكوتية في قلبها.

قلب الدول العربية النابض هو أطفالها ومراهقوها وشبابها الصغير ممن هم دون سن الـ25 عاماً، والذين يشكلون نحو 54% من مجموع السكان، وهي نسبة كبيرة جداً حتى إذا قورنت بالدول النامية التي يبلغ متوسط نسبة تعدادها من الشباب والأطفال نحو 48% في مقابل 29% في الدول المتقدمة (بحسب أرقام وإحصاءات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي).

الرقمنة والطفل العربي

هذا القلب وجاهزيته وسبل تمكينه في ظل الثورة الصناعية الرابعة كان عنوان ورشة عمل نظمها قبل أيام في القاهرة المجلس العربي للطفولة والتنمية، بالتعاون مع برنامج الخليج العربي للتنمية (أجفند) والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسوا) التابعة لجامعة الدول العربية.

50 طفلاً وطفلة ويافعاً ويافعة شاركوا في جلسة حوارية عنوانها "الوسائط الرقمية للأطفال" (اندبندنت عربية)

"العالم الرقمي وثقافة الطفل العربي" لم يعد مجرد عنوان لورشة عمل، بل قياس لما مضى، وتقييم لما يجري، وتخطيط سريع لكنه مدروس لما ينبغي أن يكون عليه حال الطفل العربي في العقد الثالث من الألفية الثالثة. وفي العقد الثاني من الألفية، وتحديداً في عام 2016، فوجئ العالم بمصطلح جديد يكشف النقاب عن عالم فريد تجرى صياغته بسرعة متناهية هو "الثورة الصناعية الرابعة". المصطلح عرَّفه العالِم ورجل الأعمال ورئيس ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب، بأنه "استخدام تطبيقات لتكنولوجيات ناشئة في مجال الذكاء الصناعي والروبوتات وإنترنت الأشياء والمركبات ذات القيادة والطباعة ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا النانو والحيوية وعلم المواد وغيرها، وما يصاحبها من ثورة فكرية للتعامل مع هذه التكنولوجيا المتقدمة".

تفاوت الأمم

عربياً، تنبه عدد من الدول العربية قبل سنوات بدرجات متفاوتة للثورة التي كانت في طور القدوم. واليوم قدمت الثورة، وبدأت تلقي بظلالها على كل ركن من أركان المنطقة العربية بدرجات أيضاً متفاوتة.

تفاوت الأمم في هذه الآونة يُقاس بحجم الانفتاح الثقافي والقدرة على بناء العقل تبعاً لمعطيات وتوقعات العصر الحالي وليس في ضوء عصور تاريخية مضت قبل قرون. أمين عام المجلس العربي للطفولة والتنمية، حسن البيلاوي، قال إن الحكم على الثقافات يجب أن يرتكز على مدى قدراتها على استيعاب مُثُل الحضارة المعاصرة لتحقيق الرفاهية والرخاء الاجتماعي، والتوجه نحو مستقبل مغاير بما يكفل دوام استمرار التقدم.

ويرى البيلاوي أن "التغيير الثقافي يحدث من خلال حراك سياسي واجتماعي قوي يواجه الموروث الثقافي مواجهة نقدية عقلانية أو بالأحرى تعبئة سياسية اجتماعية في كل مؤسسات المجتمع لبناء تيارات التنوير". وانتقد بشدة الثقافة والقيم الاجتماعية المهيمنة على المجتمعات المتخلفة والمحكومة بموروثات ثقافية تستند إلى رؤى دينية ماضوية ضيقة، مشيراً إلى أن ثقافة التخلف ترتبط بالإيمان والسحر والخرافة، وكذلك اضطهاد النساء والأقليات والأطفال.

أطفال الثورة

وكان الأطفال في هذه الورشة الإقليمية في الأقل أبعد ما يكون عن الوقوع ضحايا الاضطهاد. فهي من الفعاليات القليلة التي تخصص جانباً كبيراً لأصحاب الشأن وموضوع اللقاء. نحو 50 طفلاً وطفلة ويافعاً ويافعة كانوا المشاركين الرئيسين في جلسة حوارية عنوانها "الوسائط الرقمية للأطفال". خبير الذكاء الصناعي، جيفارا البحيري، أدار حواراً مع الصغار انتقل فيه من تقديم تعريف علمي دقيق مبسط للثورة الصناعية الرابعة إلى الاستماع منهم لتصوراتهم المبنية على خبراتهم الصغيرة سناً والعميقة أثراً بسبب الممارسة فيما يختص بتقنيات هذه الثورة.

ومن الحدود المتلاشية بين ما هو مادي ورقمي وبيولوجي، انتقل البحيري ومعه الصغار مضيفين إليه تارة وسائلين عما تعذر عليهم فهمه تارة أخرى، متجولين في أغوار الثورة الصناعية الرابعة ومكتشفين لحجم هائل من المعرفة يحمله أولئك الصغار من دون أن يدري بهم وبمعرفتهم سوى قليلين.

إيقاع الإنترنت

وضمن القليلين الكاتب والمفكر السياسي والطبيب، حسام بدراوي، الذي تحدث عن الأطفال الذين خرجوا إلى الدنيا وكبروا على إيقاع الإنترنت، فلا يمكنهم تصور الحياة من دونها. قال "لقد حولت التقنية الرقمية العالم. وأجد بين كل ثلاثة مستخدمين للإنترنت طفلاً، والشباب هم الأكثر اتصالاً بالشبكة. من الصور المنشورة إلى السجلات المخزنة في السحب، باتت لدى أعداد كبيرة من الأطفال بصمات رقمية قبل أن يتمكنوا حتى من المشي أو الكلام".

وعرّج بدراوي على أزمة التعليم والمناهج الدراسية الجامدة في مقابل فضاء الإنترنت غير المحدود وغير المقيد. قال إن الجميع يدرك جيداً أزمة القراءة في العالم العربي، والتي لا تقترن فقط بالأسعار المرتفعة للكتب أو تفشي الأمية أو نخبوية الكثير من الكتاب، لكنه يتعلق كذلك بشكل المواطنين الذين أنتجتهم المدرسة العربية والذين لا يقبلون إلا على المقررات الوزارية. ويرى البدراوي أن جانباً من الخلاص يكمن في البحث في التقنيات الجديدة، فالرقميون يعايشون عوالم جديدة بالصوت والصورة واللون والخط والتفاعل عبر تطبيقات لا حصر لها.

معضلة المناهج

معضلة المناهج الدراسية والأساليب المدرسية المتحجرة في العديد من الدول العربية، وآثارها المدمرة على مستقبل الأطفال الخاضعين لها تطرق إليها كذلك وزير التربية والتعليم المصري الأسبق يسري الجمل، وتطرق إلى مشروع منظمة التعاون والتنمية OECD 2030 مع شرح لمبدأ بوصلة التعلم، وتأثير التكنولوجيات على الإبداع في التعليم، لا سيما الواقع الافتراضي والمعزز، مشيراً إلى أهمية تكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات وتكنولوجيا الهولوغرام.

أقدر مما نتصور

وتحدث بدراوي بكثير من الإيجابية عن الواقع الافتراضي القادر على تمكين الصغار والكبار والأغنياء والفقراء وأصحاب المستويات التعليمية والثقافية المختلفة من المعرفة، وقدرة هذا العالم الافتراضي على كسر الحواجز الثقافية والتمييز الطبقي. ودعا إلى ضرورة العمل على إشراك الأطفال في صناعة المستقبل من دون احتكار الحقيقة، لا سيما أنهم (الأطفال) أصبحوا أقدر مما نتصور.

نظام بيئي متكامل

لكن الصغار، أبناء وبنات الثورة الصناعية الرابعة، لا ينظرون إلى الثورة باعتبارها تعليماً فقط، بل أسلوب حياة. وهذا تحديداً ما لمسه وتحدث عنه مدير مشروع المعرفة العربي في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هاني تركي. فهو يصف العصر الحالي بـ"عصر التقارب الإبداعي"، حيث تقترن مجموعة كبيرة من التقنيات التي تشمل إنترنت الأشياء والحوسبة السحابية وتحليلات البيانات الضخمة والذكاء الصناعي لتوجد نظاماً بيئياً تستفيد منه كل تكنولوجيا وتسهم في تطور التكنولوجيات الأخرى.

فهم المستقبل

النمو المتسارع للمعرفة وانتشارها في كل ركن من أركان المعمورة بدرجات متفاوتة أدى إلى تغير سريع وعميق انعكس بدوره على إحداث تحولات جذرية في أساليب العيش والتعلم والعمل. هذه التغيرات تستدعي طرقاً وأساليب وأدوات جديدة تساعد على فهم المستقبل ومتطلباته المتغيرة.

تحذيرات من ظهور ما يسمى بـ"الهوية الافتراضية" أو "الذات الرقمية" عند الأطفال العرب (اندبندنت عربية)

وأشار تركي إلى تقرير مستقبل المعرفة الصادر عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي كشف عن حاجة صناع السياسات وقادة الأعمال والمؤسسات التعليمية والمنظمات الدولية والمجتمعات المحلية إيلاء قدر أكبر من الاهتمام للمجالات الناشئة الجديدة. وقال "على الرغم من أن جميع الدول التي شملها التقرير باشرت خطوات لاستكشاف المجالات الاستراتيجية الناشئة، فإن معظمها لم يضع بعد الاستراتيجية المطلوبة لبناء الأسس اللازمة لتوفير فرص معرفية جديدة للأجيال المقبلة، وهو ما يتطلب وضع استراتيجية للمعرفة المستقبلية، وأدوات لتطوير هذه المعرفة.

وداعاً للتحذير والتهديد

تميزت الورشة بالبعد النسبي عن الأسلوب التقليدي المعتاد من التحذير من مغبة العصر الرقمي، والتنديد باستخدام الصغار تقنيات الثورة الرقمية، والمطالبة بتكثيف الرقابة والحيلولة دون وصول القاعدة الشعبية العريضة إلى منصات وأدوات الثورة الصناعية الرابعة.

الذات الرقمية

أستاذ التربية في جامعة محمد الخامس في المغرب، أحمد أوزي، نبه إلى تأثيرات، وليست بالضرورة أضرار واقع الوسائط الرقمية على الحياة الثقافية للطفل العربي، إلى درجة تسميتهم بـ"أطفال متحولين" أو "أطفال رقميين". وأشار إلى الموارد الثقافية والمعرفية العديدة المتوفرة للأطفال العرب حالياً، والتي تعمل على توسيع آفاقهم الفكرية، بالإضافة إلى اعتبار جانب من هذه الوسائط وسيلة للعب والترفيه والاتصال مع غيرهم. وحذّر أوزي من إدمان هذه الوسائط، وظهور "الهوية الافتراضية" أو "الذات الرقمية" التي تجعل البعض يعيش ويتفاعل بهوية تختلف عن هويته الحقيقية. لكنه في الوقت نفسه أسهب في شرح أهمية اكتساب المهارات الرقمية من أجل خلق مواطن رقمي واع يُحسن استخدام أدوات الثورة الرقمية ويطوعها لتنمية وتطوير شخصيته وأفقه الفكري.

آفاق الصغار الفكرية

وسيكون أفق الأجيال الصغيرة الفكري، حال تمكينه من أدوات وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، قادراً على التعامل مع الأعمال كثيفة الاعتماد على المعرفة. وسيكونون مستعدين لعصر تملي طبيعيته التكنولوجية اعتماد هياكل العمل الحديثة على قوى عاملة تواكب أحدث التطورات المتعلّقة بـ"التكنولوجيات الأساسية للمستقبل" (الذكاء الصناعي والأمن السيبراني والتكنولوجيا الحيوية وسلسلة الكتل). وهو عنوان التقرير الصادر عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي أشار إليه هاني تركي، ولفت كذلك إلى ضرورة إتقان المهارات الاجتماعية والعاطفية والمعرفية ذات الصلة. ويرى أنه سيكون على "قادة المستقبل" إعادة تعريف الصناعات والمهارات اللازمة لمواكبة التطورات التكنولوجية ووضع استراتيجية واضحة للمستقبل تضمن استدامة النمو والمؤسسات. وحذّر من أن غياب هذه الاستراتيجية قد يؤدي إلى تكبّد الدول تكاليف كبيرة تقوض مسيرتها التنموية.

المؤكد أن التحول الرقمي والانتشار السريع لتقنية المعلومات والاتصالات صار حقائق نعيشها ونعايشها بغض النظر عن موقفنا منها. والمؤكد أيضاً أننا لم ندرك سوى قمة الجليد فيما يتعلق بآثار الثورة الصناعية الرابعة. لكن ما نعرفه هو أن كل ما سبق أثر على الطفل العربي في جميع مراحله العمرية، وعلى تنشئته الثقافية والتربوية والاجتماعية.

قوة الأفراد

ورشة العمل خرجت بعدد من المفاهيم والتوصيات، أبرزها حتمية إعداد الأطفال العرب للمستقبل القريب جداً الذي بدأ أمس، وذلك من خلال تنمية القيم والمهارات والمعارف وفق نسق فكري جديد، أبرز ما فيه هو التنوير الذي اتفق الحاضرون على أنه المدخل الثقافي الوحيد القادر على تقديم المساعدة إلى الصغار للدخول إلى العالم الرقمي الذي هو الرافد الأهم في الثورة الصناعية الحالية، لا سيما أن العالم الرقمي أزال الفجوات بين الطبقات الاجتماعية وغير معالم السياسة المحلية والدولية وزاد من قوة الأفراد بشكل غير مسبوق.

واتفق الجميع على أهمية مشاركة الأهل للصغار جانباً من أنشطتهم عبر الوسائط الإلكترونية، مع الاستفادة بقوة الإعلام والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني للنهوض بالمعايير والممارسات الأخلاقية التي تحمي الأطفال، كون هذه القطاعات محركاً رئيساً ومؤثراً في الثورة الرقمية.

مواطن صالح ورقمي

يوسف حسين، الطالب في الصف الأول الثانوي، قال لـ"اندبندنت عربية" إنه يستخدم أدوات الثورة الرقمية منذ عام 2009. ويتحدث بعلم مستفيض عن ثقافات كادت الثورة الرقمية تقضي عليها لأنها لم تستعد لها، وعن فرص لنشأة مواطن صالح متمكن رقمياً عبر تعليم وتأهيل مناسبين. أما حلمه المستقبلي فيتلخص في العمل على ابتكار أنظمة وتطبيقات تعليمية تجعل من منظومة التعليم بيئة جاذبة وليست طاردة.

أما زميله محمود شعبان، الطالب في الصف الثاني الثانوي، فيخطط لأن يعمل في مجال تطوير وتحسين أنظمة الغذاء والصحة والرياضة الأفضل وتعميمها للجميع عبر تطبيقات علمية تُتاح لكل الفئات.

المثير أن الغالبية العظمى من الصغار الذين شاركوا في أعمال الورشة تساءلت عن أسباب عدم الاستعانة بالثورة الرقمية وأدواتها لخلق بيئة مدرسية أفضل تساعد على إعادة الطالب إلى حضن المدرسة التي هجرها. البعض تحدث عن التخلص من المعلم واستبداله بـ"روبوت"، وهو ما يقول الكثير عما فعلته عقود من جمود التعليم في الصغار. والبعض الآخر أبحر في تصور شكل المستقبل القريب جداً حيث بيئة طبيعية أفضل، وسكن أحسن، وتعليم أرقى، وفرص عمل أنسب ونظام مروري أأمن، وذلك عبر تطبيقات وروبوتات وبرامج رقمية يديرها بشر مُكِنوا من أدوات الثورة الصناعية الرابعة.

وهنا عاد الحديث من حيث بدأ: التنوير عامل حاسم في الحداثة والعلم ليس التنوير. حسن البيلاوي قال إن العلم نتاج التنوير، ولا علم بلا عقل مستنير، والتنوير والثقافة المتفتحة بعقل التنوير تحرض على إعمال العقل.

وما الثورة الصناعية الرابعة إلا إعمالٌ للعقل.