بات التعثر الذي يطبع عملية تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة يعيد الأمور إلى المربع الأول من زاوية استمرار الأسلوب القديم في تقاسم السلطة بين فرقائها، بحيث يجري تجديد المحاصصة وتوزع المناصب تحت عنوان حكومة التكنوقراط تارةً وتحت عنوان "التكنو-سياسية" تارةً أخرى. لكن التجاذب حول المواقع الوزارية يأخذ الأزمة الاقتصادية والمالية غير المسبوقة التي يمر بها لبنان إلى المزيد من التفاقم بتأكيد من القيادات السياسية والاقتصاديين، بدليل عودة التحركات الشعبية إلى الشارع في اليومين الماضيين، خصوصاً أن معظم الطبقة السياسية يعيش ما يشبه الإنكار للحاجة إلى الإسراع في تشكيل الحكومة كي تتمكن من التخفيف من خسائر السياسات السابقة التي تسببت بها.
بري وأسباب التدهور
وكرر رئيس البرلمان نبيه بري الأحد ما سبق أن شدد عليه رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري فقال إن 50 في المئة من أسباب التدهور الاقتصادي سببه سياسي صرف، اعطونا حكومة إنقاذية وأؤكد لكم أن إنقاذ لبنان ممكن، ووقف الانحدار ليس صعباً، فالسياسة هي الأساس، وكل السفراء الذين نلتقيهم يجمعون على ضرورة إنجاز حكومة لديها برنامج إصلاحي، وهم مستعدون للمساعدة".
وبات القادة السياسيون كافة على علم بأن أي حكومة غير فعالة ولا تتمتع بالصدقية ولا تلبي طموحات الحراك الشعبي واللبنانيين، لن تحصل على المساعدات الخارجية المطلوبة بإلحاح لوضع حد للتدهور الاقتصادي. فجميع الاختصاصيين ومنهم مرشحون للوزارة التي يسعى الرئيس المكلف الدكتور حسان دياب إلى تشكيلها، يؤكدون أنه يستحيل الخروج من تلك الأزمة من دون دعم خارجي، على أهمية الإصلاحات الاقتصادية التي يصر عليها المجتمع الدولي الذي بات يدرك بالتفصيل مدى إسهام الفساد والهدر والسرقات وحرمان الخزينة من مواردها، التي عجّلت في الوصول إلى عجز قياسي في ميزان المدفوعات والموازنة.
المساعدات الخارجية وموقف "حزب الله"
وقال أحد أقطاب السياسة اللبنانية لـ "اندبندنت عربية" إنه لا يكفي الإضاءة على تقاسم الحصص بين الفرقاء وعلى الفساد والهدر لتوضيح أسباب الأزمة، لأن هناك خيارات سياسية أخذت الطبقة السياسية لبنان إليها أسهمت بدورها في تفاقمها، وسببت امتناع الدول القادرة على إعانته على النهوض الاقتصادي، عن تقديم المساعدة له، بل عن الاستثمار فيه كبلد جاذب للتوظيفات المالية بسبب قطاعه المصرفي الكفوء الذي تراجعت الثقة به في الأشهر الماضية.
وفي رأي القطب السياسي نفسه أن السياسة التي يتبعها "حزب الله" منذ سنوات شكلت العائق الرئيسي أمام المساعدات الخارجية المطلوبة، وزاد الأمر صعوبة مع وصول حليفه العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة بضغط منه على المجتمع السياسي اللبناني، لأسباب تتعلق بموقع الحزب الإقليمي، ما أدى إلى خضوع لبنان للعقوبات الأميركية على الحزب وإيران نظراً إلى انحياز الرئاسة نتيجة تماهيها مع الحزب إلى المحور الإيراني - السوري.
لا تمييز بين الحكومة والحزب
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع المصدر ذاته "مما يقوله بعض الموفدين والسفراء، أثبتت تجربة السنوات الثلاث ونيف الماضية أنه لم يعد هناك من خط فاصل بين الدولة والحزب. وعلى الرغم من أن بعض الدول الغربية لا سيما الأوروبية، سعى إلى التمييز بين الحكومة والحزب نظراً إلى أن الحريري كان يعكس في مواقفه ما يصدر عن "حزب الله" وأحياناً عن رجالات الرئاسة وأبرزهم وزير الخارجية جبران باسيل، من مواقف عدائية ضد الدول العربية الخليجية، والسياسة الأميركية، فإن النتيجة كانت اقتناع الولايات المتحدة والدول الخليجية بهيمنة الحزب على الحكومة عن طريق حصوله وحليفه "التيار الوطني الحر" مع القوى التي تدور في فلكهما، على الأكثرية في البرلمان والحكومة معاً. وصنّف ذلك لبنان من الدول التي يديرها نفوذ طهران في المنطقة".
وذكر القطب السياسي نفسه أن "حزب الله" ليس مستعداً للأخذ في الاعتبار الحاجة إلى تغيير جذري في سياسة استعداء الدول الغربية والعربية، وفي جعل لبنان ساحة من ساحات الصراع الأميركي - الإيراني، في ظل قرار إدارة دونالد ترمب تصعيد الموقف من التوسع الإيراني في المنطقة مثلما حصل في اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس اللذين يرمزان إلى سياسات التدخل الإقليمي من قبل إيران.
ويبدي القطب إياه تشاؤمه من المداولات الجارية لتأليف الحكومة الجديدة، بحيث أنها ستعيد تركيب السلطة بالمكونات نفسها لكن بمسميات مختلفة، لتغطية السياسات إياها التي كان يعتمدها "حزب الله"، بحيث تؤدي بالدول المعنية بتقديم المساعدة المالية للبنان بعد تشكيل الحكومة إلى الإحجام عن ذلك. وهذا سيذهب بالبلد إلى الانهيار الشامل، خصوصاً إذا كانت صفة التكنوقراط التي قد يتمتع بها بعض وزرائها المفترضين لن تؤدي إلى اتباع خط مستقل يطوي صفحة الانسجام الكلي مع ما يريده الحزب في سياسته الإقليمية.
ومع أن بعض المراقبين وجد في تكرار الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله الأحد الماضي، القول إن "من أهم نماذج الرد الحقيقي على اغتيال سليماني هو إخراج القوات الأميركية من العراق... وإذا لم يخرج الأميركيون، الشعب العراقي هو الذي سيقرر كيف يتعاطى مع قوات الاحتلال"، هو نوع من التحييد للبنان عن المواجهة، بالتركيز على العراق، فإن الأطراف السياسية اللبنانية التي تخشى من مواصلة واشنطن والدول العربية موقفها السلبي من لبنان وإلحاقه بالمشروع الإيراني، لها وجهة نظر أخرى. ويشير القطب السياسي نفسه وبعض المطلعين على تفكير إدارة ترمب، إلى أن نصر الله "يستمر في تحريض قوى المقاومة على طرد الوجود العسكري الأميركي من المنطقة، وعلى القيام بعمليات ضده، وعلى قتل جنود أميركيين، وهذا بنظر ساكن البيت الأبيض خطير، فضلاً عن أنه يهدد إسرائيل في إطار المواجهة بين أميركا وإيران وليس في سياق العداوة بين إسرائيل ولبنان والقضايا العالقة بينه وبين الدولة العبرية".
البيان الوزاري والإستراتيجية الدفاعية وإعلان بعبدا وترسيم الحدود
وبصرف النظر عن الشكل الذي يمكن أن تأتي به الحكومة في حال جرت معالجة عقد التمثيل التي عرقلت تشكيلها في الأيام الماضية، فإن قيادات متعددة تعتقد أنه بات على لبنان أن يرسل إشارات إيجابية إلى المجتمع الدولي عن ابتعاده عن موجبات الانصياع للمشروع الإيراني مع تأليف الحكومة كي يلتفت المجتمع الدولي إلى أزمته الاقتصادية المالية. فمنهم مَن يعتقد أن البيان الوزاري للحكومة الذي ستنال على أساسه ثقة البرلمان يجب أن ينص على توجه جدي نحو مناقشة "الإستراتيجية الدفاعية" التي كان الرئيس ميشال عون وعد ببحثها في أبريل (نيسان) 2018، بعد الانتخابات النيابية التي جرت في مايو (أيار) من العام نفسه. فهذه الإستراتيجية يفترض أن تنظم سلاح "حزب الله" وتدمجه في إطار الشرعية اللبنانية ليصبح تحت إمرة الجيش اللبناني. وتذكّر مصادر سياسية أن عون تراجع عن ذلك بحجة التطورات التي حصلت في سوريا والمنطقة لجهة أولوية محاربة الإرهاب.
وهناك مَن يعتقد أن البحث بهذه الإستراتيجية حالياً قد لا يفي بالغرض وأن سلاح الحزب مرتبط بالقرار الإيراني. ويرى أصحاب وجهة النظر هذه أنه في انتظار التطورات الإقليمية المطلوب من قيادة الحزب أن تقتنع بوجوب العودة إلى ما نص عليه بيان الحكومة المستقيلة والذي أعيد تأكيده في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 عن اعتماد "النأي بالنفس" عن حروب وأزمات المنطقة، بالإقلاع عن التدخل في عدد من الدول العربية ومنها سوريا واليمن والعراق... فالحزب استمر بالهجوم الإعلامي على السعودية وفي احتضان الحوثيين في لبنان على الرغم من موافقته على البيان الحكومي السابق. ويشدد وزير سابق في هذا المجال على أنه لا يكفي الإعلان عن النأي بالنفس بل أيضاً العودة إلى تبني "إعلان بعبدا" الذي وضع عام 2012 في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان والذي عاد الحزب وتنكر له.
إلا أن ثمة مَن يعتقد أن المحك الجدي لاختبار عملية تحييد لبنان عن الصراع الدائر في المنطقة هو في إقبال الحكومة الجديدة على ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل من جهة، وبينه وبين سوريا من جهة ثانية لأن المطلوب هو إقفال الحدود الشرقية بحيث تسيطر عليها القوى الأمنية الشرعية للحؤول دون استمرار الذهاب والإياب إلى سوريا كما هو حاصل منذ سنوات، أسوة بإنهاء النزاع على الحدود مع إسرائيل.