Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بتقنية ثلاثية الأبعاد... سوري يفتح "حقائب سفر" المهاجرين في أميركا

معرض يجسّد حياة اللاجئين عبر منحوتات ومجسّمات مترافقة بمؤثرات صوتية

ليس سهلاً أن تجمع كل ما تبقى من ذكريات المهاجرين، وبقايا أشلائهم وصور بيوتهم المهدّمة وتضعها في حقيبة سفر ترافقهم في غربتهم القسرية نحو بلاد الله الواسعة، بحثاً عن أرض آمنة يَحطّون بها رحالهم هرباً من طاحونة النار والحديد الدائرة في الشرق الأوسط.

حقيبة من حجارة

يُطلق السوريون على من اجتثوا من أراضيهم عابرين البحار وقاطعين الفيافي والقفار وصولاً إلى البلاد الباردة في أوروبا، بأنهم ممّن "حالفهم الحظ"، لكنهم في الواقع ليسوا بمأمن من بعض النزاعات المتطرّفة في تلك البلاد التي تشوبها بعض العنصرية، لاسيما أن قلوبهم مفطورة على ما حلّ ببلادهم.

هنا ينكأ الفنان التشكيلي والمهندس المعماري السوري محمد حافظ كل الصور المترسّخة في الذاكرة غير البعيدة الممتدة لسنوات خلت، لعلها عقد من الزمن أو أقل، باحثاً عن البيوت والعائلات المهجّرة، فاتحاً معها عشر حقائب سفر، في كل حقيبة حكاية ألم وحسرة أسرة ذاقت لوعة الهجرة وويلات الحرب.

يحكي حافظ لـ "اندبندنت عربية" قصّته مع الهجرة. فهو سوري ينحدر من مدينة دمشق، ترعرع في السعودية وهاجر قبل 17 عاماً إلى الولايات المتحدة بغرض الدراسة، ويقول "أشتاق لبلادي سوريا ولكل دول المنطقة العربية، ويؤلمني ما يحدث فيها. تأشيرة الطالب قبل الحرب لم تسمح لي بالعودة وقيّدت حركتي وتنقلي، وهذا ما أثار فيّ شجون الاشتياق للبلاد".

كمهندس معماري، لم يُتحْ له أن يعبّر عن اشتياقه ومحبّته لبلاده إلا عبر مواد البناء لإعادة إنتاج منحوتات مستوحاة من عمارة سوريا. ومع الوقت، تطوّر العمل في فترات متسارعة، ليشمل عمر المنطقة بأكملها من غزو العراق إلى الربيع العربي والحروب ومن ثم قضايا اللجوء.

واستوحى حافظ إطلاق معرضه من تجربة عايشها في العام 2017، بعدما لجأ أفراد مقرّبون من عائلته إلى السويد، موضحاً "قرّرت أن أسقط التجارب من خلال عشر حقائب لقصص اللاجئين، ليس من سوريا فقط بل من العراق وأفغانستان والسودان. المعرض أقيم في ولايات أميركية عدة وفي متاحف تتبع لجامعات".

داخل الحقائب

مستفيداً من خبرته المعمارية، رصد الفنان التشكيلي تفاصيل الحياة الشعبية والحارات والأزقة والبيوت والدور العربية، وتباهى بفن المدن السورية وزخرفتها ورونقها، ومزج كذلك آيات قرآنية في أعمال جاءت في منحوتات غاية في الصغر.

يصف حافظ معرض الحقائب هذا بأنه مواساة للشعوب وللناس التي فقدت ودفنت الكثير من أولادها وأقاربها، ويضيف "من الصعب مواساتهم بلغة إنسانية فتكاد أن تحدثهم بلغة سماوية. في معظم بلادنا الناس من مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية مؤمنة بالله". والكلمات السماوية والخطاب الإلهي يأتي بحسب قوله "لزرع الأمل والمواساة (إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً) آية من القرآن تضع المآسي والأزمات في إطار أكبر لفهم التاريخ ورسم صورة مشرقة لغد عربي أفضل".

 

العراقة والحداثة

لإنجاز معرض الحقائب، تعاون الفنان التشكيلي مع أحد اللاجئين العراقيين وخاطب عشر عائلات مهاجرة ليتصيّد بعض التفاصيل المعمارية أثناء وصفهم منازلهم وغرف الجلوس، وأوضح "أحاول أن أتخيّل شكل البيت، إذ لا تمتلك كل العائلات صوراً لمنازلها وهذا التحدي الأكبر. لكنني استخدمت مخيلتي بعد جلوسي مع تلك الأسر، لتمثل كل حقيبة سفر حكاية عائلة".

وعلى مدار ثماني ساعات، تحدّثت كل عائلة بجلسات متنوّعة واختار حافظ مقاطع صوتية لا تقل عن ثلاثين ثانية، لوضعها في قالب تلك المجسّمات للتعرّف أكثر على تلك العائلات حتى بالصوت.  

يعتبر الفنان السوري أن حقائب العائلات بمثابة رسائل لأناس يعارضون استقبال اللاجئين ويملكون أفكاراً عنصرية تجاههم، ويضيف أن هذه المقاطع والمجسّمات تسعى إلى زرع بذور الاهتمام لدى المعترضين لتقديم رعاية أكبر لعائلات المهاجرين. ويهدف حافظ إلى رسم اللاجئين بصورة إنسانية بعيداً من الرومانسية المفرطة أو التعميم، عبر نماذج محبّبة لعشر عوائل بحسب قوله، متمنياً من الغرب عدم التعميم على ملايين اللاجئين بأنهم إرهابيون ومثيرون للشغب. ويوضح "أنا لا أقول للمستمع كيف يفكّر، بل أترك له أن يبحث في الحقيبة ويفكّر. هنالك قاسم بين المستمع الأجنبي وبين تلك العائلة المهاجرة، ولمعرفته ينبغي الغوص في خفايا شخصيات الحقائب".

توحي رسائل المنحوتات والمجسّمات الصغيرة التي تتنوّع أشكالها بين البيوت والسيارات والشوارع ودور العبادة وغيرها، بأن المهاجرين وفق ما يصف صاحب الأعمال "مثلنا مثلهم لهم بيوت تركوها ولهم تاريخ وماضٍ. وهنا تكمن سبل رسم قواسم مشتركة بين المهاجرين هرباً من ويلات الحرب وبين الشعوب التي يعيشون معها في بلاد المهجر".

أصداء المشروع

المشروع لاقى تعاطفاً من قبل الأميركيين والأوروبيين، ورحّبت به بشكل خاص عائلات أميركية يهودية وأخرى منحدرة من جذور إيرلندية، بحسب حافظ الذي قال "منهم من هاجر عقب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهذه الهجمة الشرسة تذكّرهم بالماضي الصعب لأجدادهم الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة. فهموا المشروع جيداً وأعطوني حقائب تعود لأجدادهم حافظوا عليها منذ أربعين عاماً حين هاجروا".

يهتم الفنان السوري عبر منحوتاته برسم قاسم مشترك بين تجربة الولايات المتحدة ومهاجريها وبين موجات الهجرة الحالية، فحينما ترسم تجارب الشعوب المماثلة منذ ستة أو سبعة عقود يمكنك أن تخفّف من العنصرية تجاه اللاجئين، الذين يملكون بأنفسهم تاريخاً وذكريات وأعمالاً.

المزيد من ثقافة