Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خواطر عن 13 يونيو 1974 (الحلقة الثالثة)

صورة إرشيفية تجمع القاضي عبدالرحمن الإرياني مع طاقم الحكومة في اليمن (اليمن الجمهوري)

لم يستمر الوئام بين إبراهيم الحمدي ومجموعة الضباط وكبار المشائخ الذين اتفقوا على وضع حد – صار مستمرا حتى الآن -  لأول تجربة حكم مدنية بعد ثورة سبتمبر 1962 ، وكانت الخطوة الأولى والوحيدة التي اجمعوا عليها هي إقالة رئيس الحكومة حسن محمد مكي في 13 يونيو 1974، وكانت في قناعتي ويقيني من الأهداف الرئيسية من الانقلاب / الحركة، والمحفز لفكرة التخلص من المجلس الجمهوري وتعليق العمل بالدستور وتجميد أعمال مجلس الشورى، وقد عبر أحد قادتها - الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر عن عدم ارتياحه لحكومة يرأسها شخص كان يعتبره يساريا و قادما من إقليم تهامة الأقل تمثيلا والأكثر اقصاء في الحكم مند قرون (هو أيضا ثاني شافعي يترأس الحكومة منذ قيام الثورة بعد النعمان الأب) -  فكتب في رسالة وجهها للقاضي الإرياني ثم امتنع عن نشرها في مذكراته لأنها – كما قال – كانت قاسية، (إن قلبي يكاد يقطر دماً، لأن النعرات الطائفية والعنصرية والقبلية والحزبية بلغت حداً لم يسبق له مثيل في تاريخ اليمن)، وهي توصيفات تعكس في عمقها الحنق من اختيار رئيس حكومة من خارج المنظومة السياسية التقليدية المعروفة في تلك الفترة، كما أن تشكيلة المجلس الجمهوري بأغلبية غير منتمية الى القبائل الشمالية كانت مصدر ضيق لدى الكثيرين وكانوا يعبرون عنه بتصرفات تنم عن عدم الرضا بالشراكة، وفوق كل ذلك لم يرتاحوا لميل القاضي الإرياني إلى المجموعة الليبرالية التي أصبحت أقرب إليه وإلى النعمان الأب وأكثر تأثيرا عليهم، مثل حسن مكي وحسين الحبيشي ومحمد أنعم غالب ومحمد الجنيد وعبدالكريم الإرياني ومحمد أحمد نعمان، ما استفز شركاء السلطة من المحافظين الذين وصفوا مجموعة الشباب بأن (لهم أهدافا وأغراضا واضحة، وأنهم يعبثون بمصير الأمة ويتصرفون في سياسة الدولة، ويسيرونها على أهوائهم، وأن ليس لهم دور إلا التخريب).

كان الاتفاق بين مجموعة 13 يونيو أن يتولى الحمدي زمام الأمر إلى حين تعديل الدستور بعد إلغاء فكرة الحكم الجماعي المتمثل بالمجلس الجمهوري، والعودة إلى منصب رئيس الجمهورية، ثم يتولى محسن العيني الرئاسة، لكن الحمدي خدع الجميع بحذق ومهارة سياسيتين، وخدع كل رفاقه مستغلاً شعبيته والتفاف الجماهير حوله، والأهم من كل ذلك أنه كان قد فتح قناة تواصل مباشرة مع الرياض بعيداً حتى عن رجال المملكة في اليمن، وبادر ب"تقليم" أظافرهم داخل الجيش واستبعادهم واحداً تلو الآخر، ودفع البعض إلى الاستقالة من مواقعهم، وكان جلياً ان الرياض مرتاحة لوجود شخص قوي قريب منها على رأس الحكم، كما أيدت تخلصه من المجموعة المدنية والعسكرية المحسوبة على البعث العراقي، وتغاضت عن الإجراءات التي اتخذها ضد حلفائها التقليديين مما أضعف من مواقف المبعدين والمستقيلين وقدرتهم على المقاومة، وساهم القدر بإبعاد القاضي عبدالله الحجري اذ تم اغتياله في لندن، مما أفرغ الساحة في تلك المرحلة من كل رجال المملكة في اليمن.

تميزت سنوات الحمدي القصيرة جدا بحالة استقرار أمني مقترن بتحسن واضح في المجال الإداري وارتفاع لموارد الدولة وصرامة في التعامل مع التجاوزات التي كان بعض رجال القبائل يمارسونها دون رقيب، فمنع مظاهر حمل السلاح داخل المدن الرئيسية واختفت مواكب المشائخ، وبلغ الأمر أقصاه بالتضييق على كبار الشخصيات القبلية التي فضلت الخروج من صنعاء إلى قراها بعيدا عنه وعن العاصمة التي صارت مدنية بامتياز، وهي خطوات ساهمت في منح الرئيس الجديد شعورا متزايدا بالثقة بالنفس، وفي ذات الوقت قللت من حذره ودفعته إلى الاستعانة بجيل من السياسيين يدينون بالولاء له أولا، ومنحهم الشعور بانحيازه لهم ولأفكارهم، فأتسعت الفجوة وتفاقم الخلاف بينه وبين الشيخ عبدالله الأحمر الذي كان يتصور أن علاقته المتميزة بالمملكة ستمنحه غطاء للاستمرار في صدارة الحكم وأفضلية في الشراكة، ولم يكن يتصور أن ينتهي به الأمر الى العيش بعيدا عن العاصمة والقرار والأحداث، لكنه تقبل الحال لإدراكه عدم القدرة على تحمل نتائج مواجهة عسكرية أو إظهار أي مؤشر من التحدي للسلطة التي اعتقد أنه سيكون شريكا أساسيا فيها، مما أدى الى تعاظم مشاعره السلبية وزعماء القبائل الشمالية تجاه الحمدي، ولعل أكثر ما أغضبهم هو أنهم دبروا انقلاباً أخرجهم من السلطة التي كانوا الشركاء الفاعلين فيها، وسلموها إلى من كانوا يتوهمونه أضعف الحلقات في المجموعة.

منح تعامل الحمدي الحازم مع القبائل شعبية طاغية عند المثقفين والعامة، كما ساعدته معرفته بواقع الوحدات العسكرية على التخلص من الخصوم والمنافسين المحتملين بسهولة شديدة، فانتزع دون عناء كل الوحدات الرئيسية من سيطرة القيادات القديمة التي كانت تستند أيضا إلى انتماءاتها القبلية، ولكنه بدأ يقلل من متابعته لما يدور داخل القوات المسلحة تاركا شأنها الى أخيه عبدالله قائد قوات العمالقة ورئيس الأركان أحمد الغشمي، ولم يعد يوليها التفرغ الكامل والواجب الذي تحتاجه المؤسسة العسكرية، وكانت ثقته بالثاني كبيرة، رغم تحذيرات الكثيرين، وعززت الإنجازات السريعة من شعبيته ومكنته شخصيته القوية من التفرد بالسلطة السياسية، وساعدته معرفته بخبايا جهاز الاستخبارات الذي كان مشرفاً عليه في الفترات التي عرفت بحروب المناطق الوسطى خلال عهد الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني من الإلمام بتفاصيل الأوضاع الداخلية وتوجهات الرأي العام، ولقد ساهمت كل هذه العوامل في إطلاق العنان لطموحات شخصية مشروعة - وإن كانت متعجلة - تتجاوز الحدود اليمنية، ولعل أهمها العلاقة المتينة التي ربطته بالرئيس اليمني الجنوبي سالم ربيع علي ودفعت بالاثنين لتحريك مشروع الوحدة اليمنية ووضع خطوات عملية متسارعة انقطع مسارها بمقتلهما في حادثتين كان الفارق الزمني بينهما أقل من عام.

لربما كان إبراهيم الحمدي هو الوحيد بين مجموعة حركة / انقلاب 13 يونيو الذي يحمل مشروعا حقيقيا وجاداً لبناء مؤسسات وهياكل دولة، وكان حتما بعيداً عن التعصب المناطقي والمذهبي، لكنه حرص على تقديم الولاء المطلق معيارا للاختيار فدفع الثمن غاليا لأن هذا ليس كافيا ليأمن الحاكم من قادمات الأحداث، وهو أغفل أن من الخطـأ الاكتفاء بالمطيعين لأنهم أول من تتحول بوصلتهم نحو القادم المحتمل أو الجديد، وتجنب العودة إلى العمل بالدستور كمرجعية فأعطى انطباعا عند المحيطين والمتابعين عن رغبته في الانفراد بالحكم.

لم يكن هدف الذين قادوا حركة / انقلاب 13 يونيو 1974 تصحيح المسار الذي بدأوه هم أنفسهم في 5 نوفمبر 1967، ولم يكن في وعيهم إعادة الحياة إلى أهداف ثورة 26 سبتمبر 1962، ولكن واقع الأمر أنهم أرادوا استعادة كامل السلطة التي تكون الشعور القوي لديهم بأنها ستخرج من أيديهم الى يد فئات اجتماعية جديدة بعيدة عن مركز السلطة التقليدية، فغلفوا الأمر بوضع برنامج كانوا قادرين على تنفيذه دونما حاجة للتهديد بالقوة، ووضعوا مقدمة لبيانهم الأول وجهوا فيه اتهاما صريحا لأنفسهم بالفساد والشللية والمناطقية والطائفية لأنهم كانوا يمارسونها دون رادع ولا رقيب.

المزيد من آراء