Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القومية تغير وجه السياسة البريطانية وتستمد قوتها من الاستياء الشعبي

رغبة الناس في الشعور بأنهم مجتمع وطني متلاحم، حتى لو كانت الروابط التي تجمعهم خيالية هي الأكثر تأثيراً في العالم

ما مصير العمل البرلماني مع صعود التيار الشعبوي في بريطانيا؟ (رويترز) 

تغير القومية على اختلاف أشكالها وأنواعها مختلفة، بشدة وجهَ السياسة في الجزر البريطانية، في تطوّر اكتسب زخماً على مدى الأعوام الخمسة الأخيرة، وتُوّج بالانتخابات العامة هذا الشهر.

وتتغيّر الهويات الوطنية والعلاقة بين كلّ من إنجلترا واسكتلندا وإيرلندا تغيّراً جذرياً أكثر من أي وقت مضى خلال القرن الماضي. ويجب النظر إلى جزر الارخبيل البريطاني ككل عندما يتعلّق الأمر بهذه المسألة بسبب العلاقة السياسية الوثيقة بين الأمم المكوّنة لها.

بعض هذه التطوّرات واضح للغاية مثل صعود نجم "الحزب القومي الإسكتلندي" SNP ليفرض هيمنة سياسية دائمة في اسكتلندا في الانتخابات العامّة الثلاثة التي أجريت منذ الاستفتاء على الاستقلال في العام 2014.

وسُجّلت تغييرات أخرى مهمّة من دون أن تتناولها تعليقات كثيرة، مثل الاستقلال الوطني المعزّز والتأثير السياسي لجمهورية إيرلندا على الجزر البريطانية كعضو باقٍ في الاتّحاد الأوروبي، في وقتٍ تغادره المملكة المتّحدة. ونفوذ دبلن برز حين دعمتها دول الاتّحاد الأوروبي الستة والعشرين أكثر من مرّة. وغالباً ما أثار ذلك دهشة لندن وخوفها، أثناء المفاوضات في بروكسل على شروط الانسحاب البريطاني.

وشهدت إيرلندا الشمالية للمرّة الأولى منذ العام 1921، تزايداً في عدد النوّاب القوميّين أكثر من النوّاب الاتحاديّين في الانتخابات العامة. وهذا أمر مهمّ لأنه يُعدّ إشارةً أخرى إلى التأثير السياسي للتغيير السكاني حيث أصبح الكاثوليك القوميّون هم الأغلبية الجديدة فيما بات البروتستانت الاتحاديّون أقلية.

وتظهر السهولة الفظة حين تخلى بوريس جونسون عن تعهّداته الوحدوية المتطرفة تجاه "الحزب الاتّحادي الديموقراطي" وقبوله الحدود الجمركية في البحر الإيرلندي الذي يفصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا، مدى قلة ولاء "المحافظين" للوحدويّين الشماليّين وتتكشف عن ضرب من القومية البريطانية خاص بهم لا تأبه بالآخرين.

ويسهل تتبّع هذه التطورات التي تؤثر على المجتمعات القومية الرئيسية الأربعة التي تعيش في الجزر البريطانية، ولا سيما منها الإيرلندية من قوميّين واتحاديّين في إيرلندا الشمالية، الإسكتلندية. والقومية الويلزية هي أقلّ قوة. لكن الأمر يصبح أكثر صعوبة بكثير عند تتبّع ظهور القومية الإنجليزية وتناولها بالتفسير، لأنها أقلّ اكتمالاً بكثير من الأنواع الأخرى من القوميّات، وليس لديها برنامج، وهي غير ممثَّلة بشكل مباشر من قبل أيّ حزب سياسي، على الرغم من أن حزب "المحافظين" تحرّك في هذا الاتجاه.

القوة المحرّكة للخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي كانت دائماً نوعاً من القومية الإنجليزية التي لم تفقد قدرتها على الإقناع، على الرغم من كونها غير متماسكة وغير مفهومة كثيراً من جانب أنصارها ومنتقديها على حد سواء. ففي بعض الجوانب، نشرت الخطاب السياسي الذي يعبّر عنه أي مجتمع قومي يسعى إلى تقرير مصيره. أما الشعار الشهير لمؤيّدي الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي "استعادة السيطرة" (الإمساك بمقاليد البلاد)، فلا يختلف كثيراً في آثاره عن شعار "شين فين" في إيرلندا الشمالية "وحدنا "، على الرغم من أن أيّاً من الحركتين لن يروق له هذا التشبيه.

وتمثّلت القوة الواضحة للحركة المؤيّدة لخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي التي لم يتمكّن خصومها من السيطرة عليها على الإطلاق، في إلقاء اللوم على المعنى الحقيقي للغاية المتمثلة في عدم التمكين والتظلّم الاجتماعي اللذين شعر بهما جزء كبير من السكان الإنجليز حيال بروكسل والاتّحاد الأوروبي. وربما كان هذا الجانب كبش فداء على نطاق واسع. لكن الحركات القومية في جميع أنحاء العالم لطالما هاجمت بعض الأجانب في الخارج أو الأقليّات الوطنية في الداخل، واعتبرت أنها مصدر أمراضها. وقد سألتُ مستشارةً سابقة لحركة الخروج من الاتّحاد الأوروبي، وهي إحدى القلائل الذين قابلتهم والذين غيّروا رأيهم في المسألة بعد استفتاء العام 2016، لماذا يحمّل الذين يعيشون في الجانب المحروم من البلاد الاتّحاد الأوروبي المسؤولية عن فقرهم. وجاءت إجابتها أكثر مباشرةً وصراحة من أشدّ التفسيرات تعقيداً "أعتقد أن من الأسهل دائماً إلقاء اللوم على جوني الأجنبي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قد ينطوي هذا الاختصار الفج لدوافع عددٍ من الناخبين المؤيّدين للخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي على الحقيقة، لكن من الخطأ تصوير القومية الإنجليزية على نحو هزلي في صورة مزيج سام من كراهية الأجانب والعنصرية والحنين إلى الزمن الإمبراطوري وذكريات الحرب المحمومة. فخلال الأعوام الثلاثة التي انقضت منذ إجراء الاستفتاء، صار عدد كبير من الناس يعتبر عملية التصويت المؤيد لبريكست جزءاً هويته الوطنية وعلامة على رغبةً في الانعتاق، وردّاً على البيروقراطية المفرطة بالنفوذ والمحاولات المنفرة للمستفيدين من العولمة قلب نتائج تصويت ديموقراطي.

ويلا يجيد اليسار السياسي في معظم البلدان التعامل مع المشاعر القومية وسعي الشعوب إلى تقرير مصيرها. فهو يرى في هذا المنحى انحرافاً عن مساعي تحديد المسؤولين فعلياً عن الظلم الاجتماعي والاقتصادي ومهاجمتهم. ويرى اليسار أن القوميّين يصوّبون بشكل خاطئ أو خبيث على الهدف الخطأ- غالباً على الأجانب - فيما يتركون أولئك المسؤولين المحليين يفلتون من الشِباك.

ورغبة الناس في أن يروا أنفسهم مجتمعاً قوميا، حتى لو كان شطر من الروابط التي تجمعهم خيالي، هي إحدى الرغبات الأكثر قوةً في العالم. ولا يمكن تالياً تجاهلها إلا بكلفة سياسية كبيرة، وقد اكتشف حزب "العمّال" للتو تلك الكلفة للمرّة الخامسة (استفتاءان وثلاثة انتخابات). وما كان يجب على حزب "العمّال" أن يفعله هو أن يتلقّف في وقتٍ مبكّر شعار "استعادة السيطرة" وأن يسعى إلى إظهار أنه أكثر قدرةً على تحقيقه من "المحافظين" أو حزب "الخروج من الاتّحاد الأوروبي" (بريكست).

لا يوجد سبب مقنع يجعل تحقيق مثل هذه المطالب الوطنية امتيازاً لأحد أو حكراً عليه. لكن في الأعوام 2016 و2017 و2019 ارتكب حزب "العمّال" الخطأ نفسه بمحاولة الالتفاف على مسألة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي التي كانت القضية الرئيسية التي تواجه الأمّة الإنجليزية، من دون أن يتّخذ موقفاً حازماً منها، وهذا التهرب بدد صدقيته أمام كلٍّ من مؤيّدي البقاء في الاتّحاد الأوروبي وداعمي الخروج منه.

والغريب أن المؤسسة السياسية ارتكبت الخطأ نفسه الذي أقدم عليه حزب "العمّال" في قلّة تقديرها لطبيعة القومية الإنجليزية وسوء فهمها لها. فإلى وقوع الأزمة المالية في العام 2008، سُوِّقت العولمة على أنها مسارٌ تاريخي مفيد ولا مفرّ منه. وصُوّرت القومية على أنها رداء قديم، وكان يُفترض بالولاءات الوطنية أن تتلاشى. وكانت الطبقة السياسية البريطانية ترى أن الاتّحاد الأوروبي عزّز، بشكل جلي، القوة السياسية والاقتصادية لمواطنيه. وبما أن أفراد تلك الطبقة كانوا مستفيدين من الوضع القائم، فقد تعاموا عن حقيقة أن عدداً كبيراً من مواطنيهم لم يتمكّن من الاستفادة من هذه الجوانب الجيّدة وشعروا بالتهميش والإهمال.

وكان دعاة المنظّمات العابرة للقومية منذ أنظمة العصور الوسطى البابوية، يقدّمون مثل هذه الحجج، وعادةً ما كانوا يقعون في حيرة من أمرهم عن سبب فشلهم في التمسك بها. فقد أخفقوا في فهم قوة القومية أو الديانة في توفير شعور باللحمة الاجتماعية، حتى لو كانت تستند إلى أحلام وأوهام. هذا التضامن يؤمّن لهم متنفساً لاحتياجاتهم وشكاويهم العميقة. وغالباً ما تخسر الحجج المبنية على الربح والخسارة البسيطة أمام هذا النوع من الخصوم.

© The Independent

المزيد من آراء