Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد التطورات السياسية المتعاقبة... هل يجهل المجتمع العربي أعداءه؟

قرار دخول تركيا المعترك الليبي وغياب الحديث عن التجاوزات الإسرائيلية ومقتل سليماني... أحداث تُدخل العرب في المتاهة

القوات الإسرائيلية تطلق قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين الفلسطينيين خلال مسيرات العودة (أ.ف.ب)

عداءات المنطقة تعاد صياغتها، وصداقاتها يعاد تركيبها، وتوازنات الأخوة وموازين الصداقة يجري صهرها في إناء مشتعل بهدف الخروج بقائمة جديدة وقواعد حديثة لمن ينبغي أن يصادق من، ومن يتوجب عليه معاداة من؟. نشرات الأخبار لم تعد تتطرق إلى "اعتداءات إسرائيل"  أو "تحركات الدولة العبرية" أو "تحرشات المستوطنين وصرخات المهجرين" بقدر ما تغطي ما فعلته إيران في العراق، وما يجري في لبنان بين الطوائف والسياسيين والمواطنين، وما يدبر له من قِبل تركيا في ليبيا، وما تتكتك له أميركا تجاه كل ما سبق.

جلسات المقاهي الليلية وتحليلات القواعد الشعبية على أثير الشبكة العنكبوتية وتجاذبات القيل والقال وتناحرات من يقف مع من ضد من في المنطقة أسفرت عن التباس رهيب في المشهد الشعبي. تصعد الباص فتجد أحدهم ممجداً التدخل التركي في ليبيا وآخر ممسكاً بخناقه واصفاً التدخل بالاحتلال والاستعمار. تنزل من الباص لتباغتك كلمات يطلقها بائع الفطائر المتجول مفادها أن قاسم سليماني كان بطلاً مغواراً أو "جيفارا العرب" كما أطلق أحدهم على فضائيات موجهة، ما يدعو أحد آكلي الفطائر إلى تلقينه درساً في مفهوم كلمة "البطل" لا سيما إن كان قد اغتيل في بلد غير بلده محاولاً بسط هيمنة طائفية ومد سيطرة سياسية، وماهية "جيفارا" المستدعاة في كل فعل "حنجوري". تجلس في البنك منتظراً دورك، فتباغتك نشرة الأخبار ساردة أخبار الأعداء المتربصين بالمنطقة فلا تجد أثراً لإسرائيل. تباغتك ردود فعل المنتظرين بين تكبير يبارك خطوة عسكرية هنا، وحوقلة لصب اللعنات على أخرى تفجيرية هناك، وكلاهما منفذ على يد "أعداء" كانوا حتى الأمس القريب "أشقاء" و"إخوة".

 

 

أخوة وعداوة

وبين الأخوة والعداوة، يمضي العام الجديد قدماً، راسماً مسارات جديدة ومعيداً تعريف مفاهيم ظلت على مدى عقود وربما قرون ثابتة جامدة، فإذ بالجمود تحركه أحجار متواترة تلقيها تركيا تارة بقرار دخول المعترك الليبي، وتؤججه أميركا تارة أخرى بقرار اغتيال قاسم سليماني، وتضمن بقاءه على صفيح ساخن منصات إعلامية ذات توجهات مسبقة وأيديولوجيات مستَقطَبة ومستقطِبة، وشوارع عربية حائرة بين هؤلاء وأولئك.

"حيرة الشارع مفهومة تماماً. فعلى مدى عقود طويلة، كانت القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي مسيطرتين سيطرة شبه كاملة على خانة "العداوة" في العالم العربي. ويكفي استرجاع المشهد الإعلامي والشعبي العربي مثلاً وقتما اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين مؤسس "حركة المقاومة الإسلامية" حماس في عام 2004. وقتها اجتاحت التظاهرات الكثير من الشوارع العربية منددة بالاحتلال الإسرائيلي. وقتها لم يكن المتظاهرون مصنفين باعتبارهم إسلاميين أو إخوانا. كانوا متظاهرين يعبرون عن غضبهم من العدو الأوحد إسرائيل. اليوم، وتحديداً منذ هبوب ما يسمى برياح الربيع العربي تغير المشهد تماماً، حسبما يقول الباحث في الشؤون الدولية في مجلس السياسة الدولية السيد عمرو عبد العاطي. يضيف، "أنه منذ عام 2011 حدث تغيير في الإدراك الشعبي العربي وفي محدداته الأساسية، وأصبحت الدولة المحرك الرئيس للأحداث ومن ثم ردود الأفعال وقوائم الأولويات. يقول، "منذ عام 2011، أصبحت غالبية الشعوب العربية منشغلة ومنغمسة في قضاياها الداخلية المتغيرة. لم تعد القضية الفلسطينية المتغير الوحيد على الساحة العربية. بدأ ملايين العرب يولون اهتمامهم، أو تجبر الأحداث المتلاحقة اهتماماتهم على النظر صوب قضايا أخرى مثل التحول الديموقراطي، وتراجع مستويات التنمية، وبزوغ جماعات دينية سياسية في الداخل، وتهديدات دول مجاورة. وفي مصر على سبيل المثال، انغمس ملايين المصريين فيما تشكله جماعة الإخوان المسلمين من خطورة وتهديدات على الأمن القومي المصري، ومن يقف خلفها ويدعمها من دول المنطقة".

أعداء مصر

وبسؤال مجموعة من طلاب وطالبات المرحلة الثانوية أمام أحد مراكز الدروس الخصوصية في حي مدينة نصر (شرقي القاهرة) حول من يعتقدون أنهم "أعداء مصر"، جاءت الإجابات متراوحة بين "ليس لنا أعداء" و"تركيا" و"إيران" و"الإخوان المسلمون" و"الفساد" و"المحسوبية" و"إسرائيل"، وكل منها مصحوب بعلامة استفهام في نهاية النطق بالاسم وليس نقطة. بدا واضحاً تماماً أن الغالبية المطلقة من المجموعة تتأرجح بين عدم شغل البال بمسألة العداوة بمفهومها التقليدي، أو تأرجح ماهية وهوية العدو بحسب مجريات الأحداث من حولهم.

يقول عبد العاطي، "إن الأجيال الشابة والصغيرة لم تعاصر أياً من التهديدات الكبرى التي عاصرتها المنطقة، وأبرزها وأكثرها محورية حروب 1948، و1956، و1967، و1973. ربما درسوها في المناهج المدرسية، وامتحنوا فيها، لكنهم لم يعيشوا مشاعرها ومخاطرها وأثرها على الإدراك الشعبي والمشاعر الوطنية".

يضيف، "وحتى لو كان أبناء وبنات هذا الجيل قرأوا أو سمعوا أن إسرائيل دولة عدو، لكنهم في سياق مواز يرون بأعينهم طبيعة وتطور العلاقات بين دول عدة في المنطقة وبينها. هذا الجيل نشأ على تهديد إيران لدول المنطقة، ومعركة السباق النووي، ودول أخرى في المنطقة تهدد بعضها البعض. هذا هو الواقع بعيداً عما ينبغي أن يكون أو لا يكون".

 

 

إرهاب داخلي

"وكيف لا يكون من ينفذ عملية إرهابية لتفجير جنودنا أو إلحاق أقصى درجات الضرر بأمننا واقتصادنا عدواً؟!" تتساءل رئيس شبكة "صوت العرب" الإذاعية العريقة الدكتور لمياء محمود في أسى وهي تجيب عن سؤال هوية العدو الحالي إعلامياً. وتقول، "حين يفجر مواطن عربي نفسه في مواطن عربي آخر، كيف أقنع الصغار بأنه هذا ليس عدواً أو أنه في درجة عداء أقل من إسرائيل؟"

تضيف، "المشكلة حالياً أصبحت صعوبة تحديد من هو العدو. هل هو إسرائيل فقط؟ هل هو دولة مثل تركيا التي تخطط لاحتلال دولة عربية وتهدف إلى إسقاط دول عربية أخرى لتقيم حلم رئيسها بإنعاش الخلافة العثمانية؟ هل هي إيران التي تفرض نفسها على كيانات في دول عربية مناوئة للدول نفسها؟ هل هي كيانات لم تجد حرجاً في تقسيم الشعب الفلسطيني والعمل على إضاعة القضية الأصلية؟"

تساؤلات محمود تفتح أبواب تحديد العدو بكثير من القلق، لكنها لا تجيب عنها. فقط تخفف من حدة بؤس الإجابة. تقول، "نحن لسنا في عداء مع شعوب المنطقة التي تقوم أنظمتها بدس الفرقة والفتنة. نحن في عداء مع الأنظمة التي تقوم بذلك. والأنظمة زائلة، أما الشعوب وعلاقاتها وجوارها فباقية".

بقاء المتلقي العربي

بقاء العلاقات والجوار لا يعني بقاء المتلقي العربي فترة طويلة للحصول على المعلومة والتنقيب عن التحليل والتفسير والتأكد من خلوه من التوجه المسبق والأيديولوجيا سابقة التعليب.

تقول الدكتورة لمياء محمود، إن الكثير من وسائل الإعلام التقليدية أصبح "إعلام تيك أواي". المحتوى سطحي، والمعلومة غير موثقة أو معمقة. بل إن جانباً من المحتوى يعاد تدويره من منصات التواصل الاجتماعي الكارثية بحكم لجانها الإلكترونية، وفضاءاتها المفتوحة دون حاجة إلى تدقيق أو توثيق مع كثير من التوجيه. نحتاج برامج إخبارية واعية ومطلعة ومحللة ومهنية لتثقيف المتلقي العربي. أين البرامج التي تحلل الدور التركي وتشرح السياسات الإيرانية وتعلل التحركات الدائرة رحاها من حولنا دون تهويل أو تهوين؟"

لحظة صمت ثم تعاود لمياء قائلة، إن "المتلقي كذلك لم يعد لديه صبر الاستماع أو القراءة. لقد أدمن المعلومة التيك أواي بغض النظر عن قيمتها أو صحتها".

وفي سياق مشابه، يلفت الباحث عمرو عبد العاطي الأنظار إلى طبيعة الأجيال الشابة العربية – والتي تشكل نحو نصف التعداد العربي - ويمكن تسميتها بـ"جيل السوشيال ميديا". يقول، "والسوشيال ميديا أو مواقع التواصل الاجتماعي عامرة بكل شيء وأي شيء. ومن ينتشر فيها ويفهم عقلية مستخدميها ورغباتهم يُكتب له الانتشار، وربما الغلبة". ويشير عبد العاطي إلى أنشطة مسؤولين إسرائيليين مثلاً على تويتر والموجهة إلى العالم العربي، وطريقة الخطاب وغيرها من العوامل القادرة على التأثير والوصول إلى العمق العربي بطريقة ناعمة.

 

 

نعومة وظلال ثقيلة

لحسن الحظ أن نعومة الطريقة لم تلق بعد بظلال غير قابلة للعلاج عربياً رغم ثقلها. ففي استطلاع رأي قامت به مؤسسة "الباروميتر العربي"، شبكة بحثية تجري استطلاعات رأي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عن آراء المواطنين العرب العاديين حول إسرائيل وإيران ، وأعلنت نتائجه قبل أيام، جاء أن النسبة الأكبر لا تزال تعتبر إسرائيل صاحبة التهديد الأكبر مقارنة بإيران، وإن تقاربت النسب في حجم الشعور بالتهديد. أجري الاستطلاع في عشر دول عربية هي، مصر وفلسطين  ولبنان والأردن والسودان واليمن وليبيا والعراق والجزائر والكويت.

وبحسب نتائج الاستطلاع، فإن ثلاثة أرباع الدول المشمولة في الاستطلاع تعتبر إسرائيل تهديداً أكبر لاستقرار المنطقة من إيران. والاستثناء الوحيد هو الكويت، حيث قال أربعة من كل 10 أشخاص تقريباً (42%) إنهم يخشون إيران أكثر من أي دولة أخرى. وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى إيران بصفتها تهديد متوسط في اليمن (33%) وفي العراق (31%)، وهما دولتان تدخلت فيهما إيران بصورة مباشرة. ويقول 11% فقط من الأردنيين إن إيران هي التهديد الأساسي لاستقرار المنطقة، مقارنة بـ7% في لبنان، و6% في مصر و4% في السودان و3% في فلسطين و2% في المغرب و1% في كل من الجزائر وليبيا وأقل من 1% في تونس.

إسرائيل العدو الأكبر

على الجانب الآخر، فإن عدداً أكبر بكثير من المواطنين العرب يقولون إن إسرائيل لا تزال أكبر تهديد للمنطقة. ففي جميع الدول، ذكر شخص واحد على الأقل من كل عشرة أشخاص إسرائيل بصفتها التهديد الرئيس لاستقرار المنطقة.

وتعتنق أغلبيات هذا الرأي في لبنان (79%) وفلسطين (63%) ومصر (54%)، في حين يؤيد هذا الرأي أكثر من الثلث في الأردن (42%) والسودان (36%). كما أن أكثر من شخص من بين كل خمسة أشخاص يرى أن إسرائيل أكبر تهديد، في المغرب (27%) واليمن (24%) وليبيا (24%) والجزائر (21%) والعراق (21%). والدول التي بها أقل نسب تعتبر إسرائيل مصدر تهديد هي تونس (14%) والكويت (13%).

يشار إلى أن الاستطلاع أجري قبل تفاقم الأحداث الأخيرة في المنطقة ومقتل سليماني، وتراوح ردود الفعل بين مبتهج ومبتئس، ومتراح للاغتيال ومهدد بالانتقام بحسب التوجه والطائفة والأيديولوجيا. كما أن الاستطلاع لم يسأل المستطلعة آراؤهم عن موقفهم من تركيا في ضوء تحركاتها الأخيرة في ليبيا.

من جهة أخرى، يشعر البعض أن عليه أن يجيب إجابات بعينها جرى العرف على تداولها لأنه أمام الكاميرا أو لأن إجاباته موثقة في أوراق استطلاعية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات